مُعارضة الغريب

نشر في 13-02-2016 | 00:01
آخر تحديث 13-02-2016 | 00:01
No Image Caption
أمي اليوم ما زالت على قيد الحياة . صامتة، لا تنبس ببنت شفة، علماً أن في جعبتها الكثير لتقوله، بعكسي أنا، فلشدّ ما كررت هذه القصة أراني بالكاد أتذكرها.

ما أعنيه هو أن نصف قرن قد مضى عليها. أيّامذاك أثارت لغطاً، وما زال الناس يتحدّثون عنها، لكنهم لا يذكرون سوى ميّت واحد، من دون تورُّع كما ترى، لأنه قضى فيها اثنان: نعم قتيلان. وما سبب هذا الإغفال؟ هو أن الأول يتقن فنّ السرد حتى إنه نجح في التعتيم على جريمته، بينما الثاني مجرّد بائس أمّيّ، بدا أن الله خلقه فقط لكي ترديه رصاصة ويعود إلى التراب. هو شخص مغمورٌ، مرّ مرور الكرام على غفلة من زمن لم يدوّن اسمه.

دعني أصارحك فوراً: القتيل الثاني، الذي اغتيل، هو أخي؛ إمّحى ذكره تماماً، ولم يبقَ إلا أنا كي أتكلّم نيابة عنه، أنا الجالس في هذه الحانة مترقّباً تعازيَ لم يقدّمها إلي أحد.

قد يضحكك الأمر وما أوكلته لنفسي من مهمّة: أن أبيع صمت الكواليس أمام صالة خاوية. لهذا السبب أساساً أتقنت هذه اللغة قراءة وكتابة، كي أتكلّم نيابة عن ميّت، واستأنف بدء جمله.

صار القاتل معروفاً وقصّته المكتوبة ببراعة هي التي حفّزتني على تقليده، بل قُل معارضته. كتب الكاتب بلغته، ولذلك قررت أن أحذو حذو الناس في هذا البلد بعد استقلاله: أعني استعادة حجارة منازل المستوطنين سابقاً لأبنيَ بها منزلا لي، لغة لي. إن كلمات القاتل وعباراته هي “ملكي” السائب. ففي هذا البلد كلمات مبعثرة لم تعد ملكاً لأحد نقرؤها على واجهات المتاجر والكتب القديمة، وعلى الأوجه لعلها تحوّلت إلى لغة  هجينة تلك التي خلّفها لنا الاستعمار.

إذاً، مات القاتل من زمان، ومن زمن طويل رحل أخي عن هذه الحياة، رحل إلا عني. أعرف أنك متلهف لطرح أسئلة من النوع الذي أمقته، لكن ارجوك أن تنصت إلي بانتباه. عندها ستفهم. فالقصة ليست عادية، هي قصة أستعيدها دوماً من نهايتها، ثم ارجعها إلى بدايتها. نعم كسرب سمك السلمون المرسوم بقلم رصاص.

ككل الآخرين، لا شك أنك قرأت القصة كما رواها الرجل الذي كتبها؛ يكتب ويجيد، تبدو كلماته حجارة نُحتت بإزميل الدقّة. بطلك شخص قاسٍ ودقيقٌ في اختيار التفاصيل، حدّ تصييرها معادلات حسابية لا متناهية على أساس الحجارة والمعادن. أرأيت أسلوبه؟ لكأنه يتوسّل فنون الشعر، للحديث عن طفلة ناريّة! عالمه خاص، منقوش بصفاء صباحيّ دقيق، نقيّ، عابق بالتكهنات والآفاق. لا تشوبه سوى ظلال العرب، تلك الكائنات الضبابية غير اللائقة، الآتية من زمن ماضٍ وكأنها أشباح، لغتها الوحيدة لحن مزمار. أقول لنفسي إنه سئم الدوران حول نفسه في بلد لفظه حياً وميتاً. جريمته، تلك التي ارتكب، كجريمة عاشق خاب أمله عن أرض لن يمتلكها. لكَم تعذّب، هذا المسكين! كأن تكون منتمياً إلى مكان لم تولد من صلبه.

أنا بدوري، قرأت روايته للأحداث مثلك ومثل ملايين الآخرين. ومن البداية يُفهم كلّ شيء، فهو حمل اسم رجل، وأخي اسم حادث. كان بإمكانه أن يسمّيه “الثانية بعد الظهر” كما سمّى الآخر زنجيَّه “جمعة”، أحد آونة النهار بدلا من أحد أيام الأسبوع. “الثانية بعد الظهر” اسم مناسب تماماً. “زوج” في اللغة العربية، اثنان، ثنائي، هو وأنا، توأمان لا لبس فيهما بشكل ما بالنسبة إلى من يعرف هذه القصّة. عربيّ وحسب، فنيّاً لم يُعمّر طويلاً، عاش ساعتين وظلّ ميتاً طوال سبعين عاماً من دون انقطاع، حتى بعد دفنه. كأنما أخي “زوج” تحت المجهر، القتيل المغدور نفسه يشار إليه دوماً باسم كالنسمة وعقربَي ساعة حائط، أيضاً وأيضاً، لكي يكرر مشهد مصرعه برصاصة أطلقها فرنسيّ متسكّع متضجِّر، لم يكن يعرف كيف يُزجي نهاره وأثقال همومه الجاثمة على صدره.

وأيضاً! حين استعيد تلك القصّة في ذهني ينتابني الغضب، أقله في كل مرة وجدت فيها القوة لهذه الحالة. هو الفرنسي يلعب فيها لعبة الموت ويُسهب شارحاً ظروف موت والدته، ثم كيف  فقد جسده تحت أشعة الشمس، ثم كيف فقد جسد حبيبة له، ثم كيف قصد الكنيسة ليتبيّن أن ربّه قد تخلى عن جسد الرجل، ثم كيف سهر عند جثمان أمه وجثّته هو، إلخ. رحماك يا ربّ، أيمكن قتل أحدهم وسلبه حتى موته؟ فأخي هو الذي تلقى الرصاصة لا هو! موسى لا مورسو، أليس كذلك؟ إن في الأمر ما يذهلني.

لا لم يسعَ أحدٌ، حتى ما بعد الاستقلال، إلى معرفة اسم الضحيّة ولا عنوانه ولا أسلافه، ولا أولاده المحتملين. لا أحد.  وقف الجميع مشدوهين أمام تلك اللغة المكتملة التي تمنح السماء بريقاً الماسياً، وعبّر الجميع عن تماهيهم وجدانياً مع عزلة القاتل مقدّمين إليه أبلغ التعازي. من يمكنه أن يعطيني اليوم الاسم الحقيقي لموسى؟ من يعلم أيّ نهر حمله صوب بحر قطعه سيراً على الأقدام، وحيداً، بلا شعب ولا عصا عجائبية؟ من يعرف إن كان موسى صاحب مسدس أو عقيدة أو ضربة شمس؟ من هو موسى؟ هو اخي. وهذا ما أرمي إليه. أن أروي لكما ما لم يتسنَّ قط لموسى أن يرويه. ها أنت يا صديقي الشاب تفتح قبراً وأنت  تدفع باب هذه الحانة. هل الكتاب في حقيبتك؟ حسناً إقرأ لي كتلميذ نجيب، المقاطع الأولى...

هل فهمت شيئاً؟ لا؟ دعني أشرح لك. ما إن ماتت والدة هذا الرجل القاتل، حتى بات بلا موطن، وغرق في البطالة والعبثية. وظن نفسه روبنسون المفترض به أن يغيّر القدر بقتله رجله “جمعة”، بيد أنه اكتشف أنه في فخ على جزيرة، وراح يهذي ببراعة كببّغاء معزياً نفسه: “بور مورسو، أين أنت؟ بور مورسو، اين أنت؟” أقسم لك إن أنت كررت هذه الصيحة فستبدو لك أقلّ غباء. وأنا أطلب منك هذا من أجلك أنت. فأنا حفظت الكتاب عن  ظهر قلب، وأستطيع أن أتلوه  عليك بأكمله كالقرآن. وهذه القصة مكتوبة بقلم جثة، لا كاتب. نتبيّن ذلك من معاناته من ضربة شمس أزاغت بصره والألوان، ولأنه لا رأي له في أي شيء اللهم إلا في الشمس والبحر والأحجار القديمة. من البداية نستشعر بأنه يبحث عن أخي. وفي الحقيقة بحث عنه لا للقائه بل لنقيض ذلك: لكي لا يلتقيه أبداً. ما يؤلمني كلما فكرت في القصة، هو أنه قتله وهو يفشخ عنه لا بالتصويب عليه. أنت تعرف أن في جريمته عدم اكتراث مهيب، حالَ فيما بعد دون أية محاولة، لاعتبار أخي “شهيداً”. كلمة الشهيد وردت بعد مضي زمن طويل على الاغتيال؛ وما بين الزمنين كان أخي قد تحلل والكتاب لاقى النجاح الذي نعرفه. ثم بعد ذلك راح الجميع يجتهدون لكي يبرهنوا أنه لم تقع جريمة بل مجرد ضربة شمس.

ها ها! ماذا تشرب؟ هنا أطيب المشروبات تُقدم بعد الموت، لا قبله. هذا رأي الدين، فاشرب، اشرب يا أخي، فبعد سنوات حين ينتهي العالم لن تجد حانة إلا في الجنّة!

back to top