جدار لا يخفي الشمس

نشر في 13-02-2016 | 00:01
آخر تحديث 13-02-2016 | 00:01
No Image Caption
كل شيء في تلك العجوز مخيف، نظراتها، صمتها، لون بشرتها المائل للحمرة، تحديقها البعيد للمدى، اختراق عينيها لكل الآفاق، حدة تقطيب حاجبيها، صلابة ظهرها التي لا تتناسب مع عمرها، تجاهلها لكل ما هو حولها، ثبات نظرات عينيها المثيرة للشك، بالكاد أرى عينيها ترمشان، تجاهلها لي.

كيف كانت تتجاهل نظراتي الطويلة لها وتدقيقي غير المهذب لامرأة لا أعرف عنها سوى أنها امرأة عجوز!

كانت تخيفني كثيراً حين كنا نذهب لرؤية جدتي في قريتها، كنت أسأل والدتي من أين تأكل تلك العجوز؟ ليس لديها أبناء أو أحفاد! من يجلب لها مؤونتها وقوت أيامها الطويلة التي كانت تقضيها وحيدة دون أن يطرق باب بيتها قريب أو بعيد!

من سيطرق باب بيتها وهي تقضي كل يومها في الخارج!

من سيطرق بابها وهي لا تتحدث ولم أسمع صوتها يوماً!

كيف يستطيع المرء أن يظل صامتاً لساعات! بل لأيام وأشهر!

أمضينا إجازاتنا الصيفية عند جدتي، ولم أرَ خلالها أحداً يقترب من تلك العجوز أو يجلب لها شيئاً.

تلك العجوز لم تكن تفعل شيئاً، لا تبالي بشيء، تجلس مستقيمة الظهر، لا تتكئ على جدار منزلها الكبير ولا تسند نفسها إلى شيء، تظل ساعات طويلة دون أن تغير وضعيتها، يؤلمني ظهري فأقف مرة، ومرة أتكئ على جدار منزل جدتي وأضع يديّ على وجنتي متأملة تلك العجوز، يناديني أخي مالك لكي ألعب معه فلا أجيبه.

تنسدل خصلات شعر جميل وناعم على وجه تلك العجوز، شعرها لونه أغمق من لون بشرتها الغريبة بدرجات كثيرة، ولكن لون شعرها أكثر حيوية ورونقاً.

أحمر قانٍ بلمعة ذهبية تعكسها أشعة الشمس على شعرها الجميل الذي تمنيت يوماً كثافته فقط، شعر كثيف في هذا العمر يا إلهي كيف هذا!

تلعب الرياح بشعرها الكثيف فلا تحرك سوى خصلات تتطاير ولا تبالي تلك العجوز بإبعادها عن وجهها، هل هي ضعيفة لأن تستسلم لخصلات شعرها وتتركها تفعل ما تشاء؟ منظر تلك العجوز ساحر وبديع كلوحة غاية في الإدهاش، كل تفاصيلها الغريبة وغير المتراكبة، التجاعيد حول عينيها لا تبدو كتلك التي حول عيني جدتي، بل خطوط رفيعة زادت من جمالها، وخيوط أخرى ارتسمت حول شفتيها الترابيتي اللون، وبريق أسود لامع من عينيها يزيد من بهائها، ليست كعيني جدتي اللتين أصبح لونهما فاتحاً جداً تغطيهما طبقة من الغشاء مثل كل العجائز اللاتي أعرفهن، إلا تلك العجوز تشكل لوحة متناقضة مع أساسها والمكان الذي تجلس فيه.

عروق يديها البارزة، معصمها النحيل، بريق شيء من ساعدها، لست أعرف إن كان سوار فضة أم سوار ألماس لشدة لمعانه، يحيط السوار الضيّق معصمها دون أن يتحرك، فيزيدها جاذبية.

حين أتأملها يزيد من تجاهلها لي رغبتي في معرفة مزيد عن تلك العجوز التي كانت تسكن في منزل خلف منزل جدتي. أخرج كل يوم بعد أن تشرق الشمس وترتفع حرارة الجو في أيام الصيف التي كنت أقضيها عند جدتي. كنا نقضي الصيفية بأكملها حين يسافر والدي ويتركنا عند جدتي. وكانت والدتي تخفي أمر سفر والدي حتى لا توبخها جدتي وتصفها بالمرأة الضعيفة والمهمّشة، جدتي لا تكف عن التوبيخ والصراخ على صغائر الأمور وكبائرها، جدتي مزيج من القوة والغباء.

كانت تظن أنها أسعد امرأة فقط لأنها منعت جدي من أن يتزوج امرأة أخرى، ويدخل عليها ضرّة تشاركها زوجها، كانت جدتي تظن أن حياتها المليئة بالإزعاج والمشاكل هي الحياة التي تزيد من تمسك جدي بها، وتجعله يظن أن كل الزيجات والحياة بهذا السوء، حتى لا يفكر جدي بالارتباط أو الزواج بغيرها.

حين أسأل جدتي عن أي شيء يخص تلك العجوز تتدخل والدتي سريعاً لتمتص غضب جدتي وتسكتها، انفعال جدتي مبالغ

به، صراخها ودعاؤها على تلك العجوز يزيد من جنوني وحيرتي، سألت والدتي هل هي بشرية مثلنا؟ أم من الجان؟ ولماذا تنفعل جدتي بهذا الشكل؟ هل تغار جدتي من تلك العجوز وتخشى أن يتزوجها جدي؟

أمسكت والدتي بكتفي بشدة وارتفع صوتها الذي ضرب بروحي من الداخل وكأنني سألت عن ذنب.

أجابتني:

-    إياك أن تسألي عن هذه العجوز ثانية.

أتبعتها بنظرة قوية شعرت بها تخترقني وتخيفني.

- بشرية.. لا تقلقي، ولا تأتي بمثل هذا الكلام ثانية.

أزحت يد والدتي عن كتفي وتركتها هي وجدتي، غير مبالية لشدة فضولي، ولم أبالِ لخوف والدتي وتهديدها المستمر لي.

حين خرجت لتفقد العجوز كان الشفق قد لاح في السماء وزيّنها كما تزيّن النجوم السماء، ليست النجوم وحدها هي من تزين السماء، للسماء حالات مثل حالاتنا العديدة، السماء تبكي حين تمطر، وتضحك حين ترسم أكبر ابتسامة بسبعة ألوان جميلة وزاهية تشكل قوساً عظيماً، السماء تضيق حين يملأها السواد، السماء تصرخ مرعدة، السماء تحتضن الشمس نهاراً والقمر ليلاً، تعدل بينهما، السماء حين يغشاها الشفق تمسي في أجمل إطلالاتها وأبهاها، استمتع بالشفق حين يغشى السماء أكثر من استمتاعي برؤية النجوم، لأن الشفق يغيب سريعاً بعكس النجوم التي تبقى طويلاً، حتى في حياتنا نحب العلاقات السريعة ونظل متعلّقين بها عمراً طويلاً، بعكس العلاقات المملّة التي تفقد متعتها مع الأيام.

خرجت في اليوم التالي لرؤية منزل تلك العجوز التي حرمتني جدتي ووالدتي من معرفة حتى اسمها، التفت لأرى مكانها خالياً اليوم إلا من كيس قمامة يبدو أنها أخرجته قبل لحظات؛ لأنه لم يستقر بعد ومليء بالهواء من أعلاه.

تجتاحني رغبة مجنونة بحجم الخوف الذي بداخلي لأعرف ما بداخله، خطوت خطوات ثقيلة نحو منزل العجوز لأسرق كيس قمامتها.

ولكن ماذا أريد من كيس قمامة لن يشبع فضولي وسأتقزّز من رائحة ما قد أجده!

حين اقتربت شممت رائحة لحم يُطهى، لحم وماء فقط، لم يكن هناك أي إضافات أو منكهات لطعامها الذي تعده، كنت دائماً أخبر أمي بمكونات طعامنا لأنني أملك حاسة شم قوية.

كنت أميّز أنواع البهار المختلفة، كان لدى والدتي إحدى عشرة علبة، شممتها علبة علبة وحفظت أسماءها، أفرغتها جميعاً على المنضدة ثم استطعت أن أعيد كل بهار إلى علبته دون أن تعرف والدتي وكنت في السادسة من عمري.

اقتربت من منزل العجوز، وكلما اقتربت كنت أشعر أن يداً كبيرة وقوية تمسك بقلبـي وتعصره بشكل موجع، كان خوفي من تلك العجوز أكبر من أن أكون شجاعة وأقترب.

رائحة الطهي والطعام الذي تعده أثار معدتي، فشعرت بالغثيان وعدت سريعاً إلى منزل جدتي، تقيأت على يديّ وعلى ملابسي، لم أستطع أن أتحرك، أريد أن أسترد نفسي. كنت قد وصلت إلى عتبة باب المنزل.

* * *

أجلس في بطن هذه الحجرة التي وضعني فيها والدي وحيدة دون سبب يقنعني، أو دون تبرير لهذا الألم الذي يئن منه رأسي الذي أضعه على هذا الجدار.

بكأس الماء المعدنية التي أرفض إرجاعها في كل مرة يحضران لي الطعام، اسمع ما تتحدث به والدتي مع جدتي من خلف الجدار.

- أخشى أن تفقد هاجر عقلها، فهي صغيرة على كل

هذا.

لا تجيب جدتي على أفكار والدتي الرؤوفة بـي، ضربت بالكأس المعدنية على الجدار بقوة شديدة.

- سأخرج يا جدتي قبل أن يسقط فوقي سقف هذه الحجرة اللعينة، هذه الحجرة التي بُنيت لتكون شاهدة على خرفك، وجهلك وصمتك أيتها العجوز الصامتة.

رفعت والدتي صوتها.

- أرجوك، اسكتي يا هاجر.

- أنت التي يجب أن تكوني هنا، أنت التي استطاع قلبك الضعيف المتجمّد من ضعفه أن يحبسني، يجب أن تكوني هنا حتى تستطيع غريزتك التحدّث، والتدخّل، اسكتي أنت، فأنت قلب ميت.

بكيت ولا شيء أفعله سوى البكاء، أصدرت ضجيجاً من قهري، رميت بكل الكؤوس المعدنية التي أجمعها على الجدار، اشتعلت الحجرة، وارتفعت درجة حرارة جسدي، رحت أركض بين جدران هذه الحجرة أقفز وأصرخ، أرمي بالكؤوس على السقف فتصيبني، وأضحك، أصدرت ضجيجاً جعلني أضحك بصوت عالٍ، صوت أعلى من ضربات والدي على باب هذه الحجرة ومحاولاته لإسكاتي، كنت أضرب بالكؤوس التي أجمعها كل يوم ولا تأخذها والدتي، اشتعل لهيب الجو، وزادت بـي الحماسة لفعل ما هو أكثر.

مرت ساعات طويلة ومن فرط حماستي لم أتوقف عن إصدار الضجيج، ولكنني تعبت!

نعم تعبت يا سدرة، فأرحت ظهري على جدار الجوع، لأنني كنت جائعة.

اتّكأت على الجدار، كانت الشمس تضيء من فتحة تطل من أعلى الجدار بمسافة قريبة من السقف، لم أستطع يوماً الوصول إليها. كان خيط من الشمس يتسلل منها ويستقر على أرضية هذه الحجرة، وتتناثر حوله ذرّات غريبة تتحرك حول خيط الشمس، كانت والدتي تقول لي: إنها كائنات حية، فلم أعلم هل أصدقها أم أكذبها؟

كنت أصدقها حين كانت تخبرني بذلك وأنا بين أحضانها، ولكنني الآن أشك في كل ما حولي.

كنت إنسانة وفتاة مهما تكبر تظل صغيرة من الداخل، مهما يسرق العمر من جمالها وملامحها البريئة ليحيلها ملامح فاتنة، كنت أنبض بالأمل، ولكن فاتني أن أتذكر أنه سيتمكّن منها في النهاية ويجعلها كهلة، ولكن شيئاً لم يتغير يا سدرة، الظلام.

اجتزت كل الأمور المتعبة والمخيفة، ولكن الظلام كان الشيء الوحيد الذي لا يزال يفرض سيطرته وهيمنته عليّ.

ممتنة أنا لذلك الجدار الذي لم يخفِ عني الشمس يا سدرتي، كانت الشمس تشرق كل يوم، ولم أشعر يوماً أنني فقدت صلتي بالشمس ونورها، ذلك الجدار كان دافئاً حتى في أبرد ليالي الشتاء، ذلك الجدار لا يخفي الشمس.

اختلفت كل مشاعري تبدّلت، وتبلّدت. لم تمر تلك الشهور التسعة مرور الكرام، إنما حمّلتني ما لا طاقة لي بتحمّله.

ولكن الأمر العجيب الذي يضحكني أنني لم أستقر يوماً، فحديثي هذا قد يتغير في ثوانٍ!

قد أنكر كل ما جئت به من ألم وعذاب، يحدث معي هذا في ثوانٍ بل في أجزاء الثواني.

ليتني أضع يدي على هذا الشيء الذي يقلّبني ويمرجّحني، ليتني أمسك به وأقتله، ولكنني لا أعلم أين يعيش، ولا من أين يستمد طاقته الهائلة التي تملأني في ثوانٍ.

back to top