سماء قريبة من بيتنا

نشر في 06-02-2016 | 00:01
آخر تحديث 06-02-2016 | 00:01
«ينحدر شريف خان من مدينة فارياب، في الشمال الأفغانيّ، حيث يشكّل البشتون أقليّة بالنسبة للطاجيك والكازاخيّين، لذلك غادر أجداده الشمال، نحو الجنوب الشرقيّ، واستقرّوا في محيط قندهار، ملتحقين ببقايا عرقهم، ولاسيّما أنّ وشاة الطاجيك كانوا قد أبلغوا البريطانيين، أنّ (الروح الأوّل)، الجدّ، انضمّ إلى مقاتلي الجبال الذين أوقعوا بجنود الإمبراطوريّة العظمى، عند عبورهم السلاسل من الهند إلى أفغانستان.

درس شريف خان الطبّ في جامعة كابول، وشارك في محاربة السوفييت، طبيباً ميدانيّاً، ثمّ حاملاً للسلاح، وبعد أن نجا من أكثر من موت وشيك، غادر إلى بريطانيا، التي رعت رحلته إلى معسكر الحديبيّة في الفيلبّين، بمساعدة من المخابرات الباكستانيّة. عاد إلى لندن، بعد أن تلقّى وزوجته عائشة فصلين دراسيّين في الجهاد الحديث، وانضمّ إلى مكتب للإرشاد، بهدف توحيد طاقات الشباب المسلم للجهاد خارج المملكة المتّحدة. كان روح الأمين مغرماً باللّعب بالقطار الذي قدّمه له أبوه حينما أتّم حفظ “جزء عمّ”، تلك هي الهديّة الوحيدة التي حصل عليها، لأنّه فشل في حفظ بقيّة أجزاء القرآن الكريم. يفكّك السكّة، ويعيد تركيبها عشرات المرّات في اليوم، ثمّ يترك العربة الوحيدة التي بقيت سليمة من الكسر، تنطلق بأضواء خضراء لا توقفها قواطع، وهو يحملق في الشبابيك التي تظهر خلفها رؤوس لمسافرين من كرتون، يلوّح لهم، ويبتسم، ويحلم في أن يمتدّ الطريق إلى أبعد من هذه القضبان الصغيرة المنغلقة على دائرة.

كانت جود رغم إنكليزيّتها الضعيفة، قد أغرمت بكلام روح الأمين عن صلادة رجال البشتون، الموازية لوعورة جبالهم، وعن حميّتهم الملتهبة على مرّ الزمان، وعن براعتهم في استعمال السلاح، ثروتهم الوحيدة التي أخرجوا بها الإنكليز والروس والأميركان من بلادهم، وذادوا به عن حياض الإسلام. رقص أمامها رقص الـ (أتن)، رقصة رجال البشتون الأحرار، وقال إنّه قد غادر عيشته الراغدة في أوربة، وجاء هنا ليعرفها، وهذا مخطّط له في السماء، سرّ من أسرار المجرّات المكتوبة في اللّوح المحفوظ، وليس لأحد من البشر أن يردّه لا بقول ولا بعمل.

حين دخل روح الأمين بيتنا، لم يكن يشبه المقاتلين الأجانب الذين كانت شاشات التلفزيون تعرض صورهم في كابول وبيشاور. كان معتدل الطول، قويّ البنية، بشرته إلى بياض، وعيناه خضراوان ضيّقتان، شعره أشقر منسدل حتّى كتفيه، وقد ربطه بشكل ذيل فرس، وأطلق لحية كثّة تدلّت تحت ذقنه بضعة سنتميترات.

لا يبدو على محيّاه الشرّ، ولا يحمل أيّة إشارة عنيفة سوى بندقيّة الكلاشنكوف التي لا تفارق كتفه، ورغم برودة الجوّ كان يرتدي بنطلوناً من الكتّان الأسود، وقميصاً مثله، ينسدل فوقه، بياقة إيرانيّة، وحذاء عسكريّاً خاكيّ اللّون، بدا النسخة الأكثر رصانة لـ كارل لاغرفيلد، المدير الملهم لدار شانيل للأزياء.

حين رآه بابا لا يرتدي الثوب الطالبانيّ، هدأ قليلاً، في حين كانت سلمى ترتجف من الخوف والظلم، وتسأل: كيف وصل هؤلاء الغرباء إلى سورية؟ ما الذي أتى بهم من البلاد البعيدة؟ ولماذا تركوا دمشق واللاّذقيّة وحلب وجاؤوا إلى الرقّة!

كان بابا يحبّ أن يرى في بيتنا رجلاً تكون الإنكليزيّة لغة أصليّة له، فيشبع لديه النوستالجيا إلى بوسطن،  حيث قضى أجمل أيّامه، التي لم يطفئ الوقت جذوتها، لكنّه لم يفكّر مطلقاً بمثل هذا السيناريو، أراد أن يجلسا معاً، ويتكلّمان في السياسة والثقافة، وهما يتناولان كأساً من الكحول على أقلّ تقدير، أما أن يأتي صاحب اللّسان الإنكليزيّ على شكل مجاهد!

 

سأله سؤالاً واحداً:

- لماذا أتيت إلى هنا؟!

 

كان جالساً على كرسيّ الـ”لوي كانز” المنجّد بالساتان الأزرق، ينظر في صورتنا الموضوعة على الكونسول الرخاميّ بجانبه، صورة التقطت لنا في عرس أحد الأقارب، ماما وبابا، ونحن الثلاثة نرتدي فساتين “ديكولتيه”، تبدي أكتافنا العارية، فما كان منه إلاّ أن قلب الصورة بيده على ظهرها، فغابت وجوهنا في بياض الرخام. حوّل نظره إلى الأرض، وقال بأدب جمّ:

 – المكان الذي جئت منه شوارعه مستقيمة وواسعة، ليس في يوركشاير أو لندن مكان يشبه زوايب “السبع حارات” الملتفّة وراء هذا القصر. هل تعرف أيّها “السيد”! إنّ قصرك هذا يشبه القلعة التي كنت أتجوّل حولها كلّ يوم حينما كنت صغيراً، أمسك بيد آيشة أمّي، ونرتقي الدرج الكبير. أمّي ماتت، قتلها السرطان، لأنّ أميركا لم تسمح لها بالدخول إلى أراضيها للعلاج، قالوا إنّها إرهابيّة. تخيّل: آيشة التي علّمت اليتميمات الصغيرات الصلاة، والحياكة، والتطريز، صارت إرهابيّة!

 إنّ بلدكم تشبه وطني، تشبه قندهار، حيث القطارات حرّة، لا تأبه للوقت الإنكليزيّ المرهق، تتأخّر، أولا تأتي مطلقاً!

لم ينم بابا طوال اللّيل، وكذلك سلمى، ظلّ يقرأ القرآن، وهو يفعل ذلك فقط حينما يكون ثمّة مصاب جلل.

سألتُ سلمى: كيف! لماذا لم يحبسها بابا، لم يربطها!

- لأنّنا جميعاً استسهلنا الموت. لم يتبادل معها أيّة كلمة، فهي حتّى لو رجعت عن موقفها، سيأخذها الأفغانيّ بقوّة السلاح، فالدخول في هذا المستنقع ليس كالخروج منه إطلاقاً، أنت بعيدة، لا تعرفين الحرب، في الحرب لا أحد يملك مصير الآخر.

 

بكى بابا كثيراً، بل انهار. قالت سلمى إنّه بكى أكثر من يوم موت ماما، وأكثر من يوم علم بمرضي، وأكثر من يوم غرق نسيب. كان يعلم أنّه لن يرى جود الصغيرة ثانية، وكان يتضرّع إلى الله، ويسأل لماذا ابتلاه بقهر الرجال.»!

back to top