إعادة اكتشاف جان بريفوست

نشر في 01-12-2015 | 00:01
آخر تحديث 01-12-2015 | 00:01
No Image Caption
حان الوقت لوضع حد للأحكام المسبقة والأفكار المبتذلة عن فرنسا {الهَرِمة} حيث يمر الوقت بوتيرة أبطأ من جميع المناطق الأخرى. تبذل فرنسا قصارى جهدها لرفع شأنها باعتبارها معقلاً قديماً للذوق الرفيع والرقي الأوروبي وآخر بلدٍ لا يزال يرفع راية آداب السلوك واللياقة. لكن حتى على الضفة اليسرى من الرين، لطالما كانت هذه الصورة تقضّ مضجع الفنانين والمفكرين والكتّاب منذ قرن تقريباً. ثم حصلت نهضة كبرى بعد الحرب العالمية الأولى، فتحول أشهر أعداء التقاليد إلى سرياليين. لكن برزت أسماء مهمة أخرى، منها اسم جان بريفوست الذي نسيه مواطنوه فترة طويلة قبل أن يعود إلى الواجهة خلال التسعينيات ولو بشكل خجول. نظرة إليه من «بوكس».

بدأت ألمانيا أخيراً تترجم مؤلفات الكاتب جان بريفوست الذي جسّد العصرنة الأدبية ومات مناضلاً في فيركور... راحت دار نشر {مانيس} تترجم مؤلفات بريفوست وتنشر اسمه، علماً أن أي كاتب فرنسي آخر من أبناء جيله (هو عاش بين عامَي 1901 و1944) لم يجسد ما يسمى {الموضوعية الجديدة}. تميز في كلماته وكتاباته وتصرفاته بأسلوب مباشر وصدامي واستفزازي وبذيء أحياناً! لم يكن فظاً أو يفتقر إلى اللياقة ولكنه كان عدائياً ومتمرداً. فهو نشأ في بيئة متواضعة وقصد مؤسسات لا مفر من المرور بها في فرنسا كي يتمكن أي كاتب من إثبات نفسه على الساحة. باختصار، كان يمكن أن يصبح رجلاً مختلفاً لكنه فضّل أداء دور المشاكس وبرع فيه، وساعده في ذلك مظهره الخارجي: تكشف الصور أنه كان يتمتع ببنية عضلية قوية. لكن يحمل وجهه ملامح ناعمة وهادئة وودية.

أهدى كتابه الأول الذي صدر في عام 1925 إلى {هواة الرياضة} وأشاد فيه بالمنافع التي تعطيها التمارين الجسدية. كانت أساليبه المختلفة قد جذبت انتباه المسؤولين عن تقييم الحياة الأدبية الفرنسية. سرعان ما طلب منه رئيس نخبة المفكرين، أندريه جيد، الكتابة عن مواضيع لا تصدم كبار الشخصيات الفكرية مثل العروض الشعبية والسينما. لا شك أن أندريه جيد الراقي لم يكن معجباً بالكاتب بريفوست الشعبي والحيوي. لكنه كان يقدّر كبرياء ذلك الكاتب الشاب وموهبته.

نجح جان بريفوست أيضاً في توجيه أشخاص طموحين آخرين، فحرص على تشجيع كل من يشاركه ميوله من أبناء جيله. قابل فتىً في العمر نفسه كان منبهراً بالطيران ونجح في إقناعه بتحويل شغفه إلى شكل أدبي: هكذا بدأ أنطوان دي سانت إكزوبري الشهير يكتب بتأثيرٍ من بريفوست! شعر الكاتب أيضاً بأنه قريب من رامون فرنانديز. كانت مواصفاتهم الفكرية متشابهة وقد شكلوا فريقاً متماسكاً. رغم الاختلافات السياسية، تابع الرجال الثلاثة التواصل حتى النهاية فكانوا يتبادلون الكتب ويذكرون بعضهم البعض كمراجع في مؤلفاتهم. لكنهم باتوا اليوم شبه منسيين في الذاكرة الجماعية، باستثناء سانت إكزوبري طبعاً لأن اسمه ارتبط بكتاب {الأمير الصغير} الشهير. مع ذلك، كان الرجال الثلاثة من رواد العصرنة خلال الثلاثينيات والأربعينيات.

سافر الثلاثة إلى أميركا وتزوج كل واحد منهم امرأة رائدة في مجالها. كانوا يطمحون جميعاً إلى تجديد النخب وراحوا يناضلون من أجل عصرنة فرنسا. وحين اتكلوا على التقاليد الأدبية في ثقافتهم الوطنية، فعلوا ذلك لتكييفها مع متطلبات العصر. تغذي هذه المقاربة أهم رواية كتبها جان بريفوست وقد صدرت اليوم للمرة الأولى باللغة الألمانية.

{ملح على الجرح}

نُشرت رواية {ملح على الجرح} (Le Sel sur la plaie) في فرنسا في عام 1934 وقد جسدت أحدث المواضيع الفرنسية في عالم الروايات. يسرد الكتاب قصة ارتقاء اجتماعي. لكن على عكس ما يحصل مع نماذج بريفوست الشهيرة، لا يكون بطل القصة هذه المرة رجلاً محروماً يخوض التجارب ويتجاوز المشقات قبل أن يحقق نجاحاً باهراً. بل يكون الشاب {ديودونيه} بلا أبوين ويتخذ مساراً معاكساً. يتعرض لسوء المعاملة من أصدقائه الأكثر ثراءً في العاصمة، فيغادر إلى مقاطعة بعيدة ويحقق النجاح ويعود منتصراً إلى العاصمة بعد أن أصبح مليونيراً وتزوج امرأة من عائلة مرموقة. هكذا انقلبت المغامرة وبات الناس يغادرون باريس لتحقيق النجاح بدل فعل العكس. هناك، يبدأ الشاب العمل كصحفي ثم يهتم بتصميم الملصقات الإعلانية ويشتري مطبعة وينخرط لاحقاً في السياسة المحلية بدعمٍ من صديقة له. لكن يستفيد {ديودونيه} بشكل أساسي من الأزمة الكبرى في عام 1929 ومن تداعياتها اللاحقة.

يتعرف القراء إلى تفاصيل ما فعله أبطال القصة لجمع المال لدرجة أنّ بعضهم سيشعر بأنه يشاهد تقريراً اقتصادياً. في هذه النقطة بالذات، يبرز تأثير {الموضوعية الجديدة} التي تهدف إلى نسف النثر التقليدي وإدراج أشكال صحفية في الروايات. بالنسبة إلى الجمهور الفرنسي المثقف، لم يكن مألوفاً الغوص في عالم الاقتصاد والمنافسة وقراءة قصة معاصرة لهذه الدرجة (تنتهي أحداث القصة في السنة التي نُشر فيها الكتاب).

لكنّ أكثر ما يجذب في هذه الرواية ليس الجانب الاقتصادي المفصّل بل الشخصية الطموحة التي يطورها الكاتب. إنه النموذج الاجتماعي الذي نقدّره اليوم في ألمانيا (غداة الانقلابات التي سببتها الحقبة النازية والحرب العالمية الثانية وأحداث عام 1968 وأخيراً الثورة الرقمية) أكثر مما كان ليقدّره الفرنسيون في عام 1934. بقيت تلك الظاهرة بالنسبة إليهم هامشية ومحصورة ضمن نخبة صغيرة من المفكرين.

بنظر بريفوست، يمكن تعريف الشخص الطموح بما يحققه وليس بشخصيته. لذا يرفض الكاتب أي شكل من التحليلات النفسية الحساسة. كان بطله بسيطاً ولاذعاً ولا مكان في قصته لمظاهر الخمول والجمود والغرور التي عُرفت بها النخب القديمة.

يكون بطل القصة مستعداً لفعل كل شيء ولتحمّل العذاب والتعب في سبيل تحقيق النجاح. كان يرفض التنازل ويركز على العمل. حتى إنه كان يخشى الحب والصداقة لأن هذه العلاقات ستلهيه عن هدفه الأساسي. لذا كان يحتاج إلى {الكره والصبر}: الكره تجاه كل من أهانه أو أعاق طريقه، والصبر لأن الطريق أمامه كانت طويلة ومحفوفة بالشكوك والاضطرابات على أنواعها.

كان {ديودونيه} يتمتع بهذه الصفات كلها. لم يحرمه بريفوست من منزل عائلي فحسب، بل من تربية عاطفية ونزعة فردية أيضاً، وهو لم يكتفِ بمنح بطل قصته نجاحاً اجتماعياً كبيراً بل إنه يشدد في النهاية على أنه أصبح ناضجاً. بعد عودة الشاب إلى باريس، كان يستطيع التباهي أمام أصدقائه المزيفين القدامى لكنه يرفض الانتقام منهم. تستنتج القصة في النهاية أن {النبل هو من شيم الأغنياء الجدد فقط}.

إنه استنتاج جريء لأننا نستطيع نَسْب صفات كثيرة للأشخاص الطموحين مثل الانضباط والحيوية والحذر وحتى الذكاء. لكن النبل؟! حتى أجرأ الأشخاص لا يستطيعون ادعاء ذلك! لكن هذا ما أراده بريفوست. إنها رؤية الكاتب في هذه الرواية التي تعرض انتصاراً فردياً لشاب يعيد تأهيل نفسه وكأنه ظاهرة اجتماعية عامة: يطرح الكاتب نظرة مثالية لدرجة أنه ينسب صفة النبل إلى بطل قصته بعد أن كانت حكراً على النخب القديمة. إنها أقصى مظاهر الاستفزاز في كتابه!

back to top