لامع الحرّ في «عشق عرضُه السماوات والأرض»... حبٌّ له العمر وسرير القوافي

نشر في 29-11-2015 | 00:01
آخر تحديث 29-11-2015 | 00:01
No Image Caption
لا شكّ في أنّ مأساة الشعوب تستحقّ أن يزورها الشّعر متبنّياً ما فيها من ألم كبير، إلاّ أنّ قصيدة تأوي إلى كهف الحبّ آخذة قوافيها من ظلامه المضيء تعزّي في زمن الرصاص وهندسة مجاري أنهار الدماء، فالحبّ وطن بديل، ووجود أقلّ خيبات من الوجود، تبقى هزائمه رغم آلامها أميرة تُذكر بالخير على عرش الذكريات.

في جديده الشعريّ «عشق عرضُه السماوات والأرض» يتفرّغ الشاعر لامع الحرّ للعشق مزنِّراً به خصر سماء وأرض إذ هو الأكثر اتّساعاً والأقدر على أن يكون عزاءً وجوديّاً هنا على الأرض، أو فوق تحت القنطرة الزرقاء.

يستهلّ لامع الحرّ بوحَه بعشق كربلائيّ الإيقاع، إذ اصطاده الحنين بشبكة دائمة وأمسى مياهاً تكسر عطش الدمع: «أصار الحنين شقائي الوحيد... فتهتُ إلى غابة العمر حتّى ارتوى الدمع منّي وصار المدى كربلاء؟» وما الغابة التي تستوطن العمر إلاّ نتيجة الغدر حين تأتيه حبيبة فتغادر ذاتها إلى امرأة أخرى حاملةً في روحها جرثومة الخبث: «غدرتِ... فهل أنتِ أنتِ... بُعَيد ارتطام هواكِ بروح خبيث»... وتحت سحابة غدر يقف الشاعر عارياً إلاّ من قلبه وهو لا يزال يراهن على استرجاع الفردوس المفقود، وكأنّ حبّه لا يمكن أن يفتح شراعه إلاّ في اتّجاه امرأة واحدة: «جمالُكِ ضوء يكذّب حلمي. فهل ما يزال لحلمي طريق إليك؟»... ولها وحدها أن تفيض جمالاً على الوجود، وتزيّن الحزن، وترتجل الورد الذي يعلو كلّ وجود بقليل من عطره:» أو أبقى أحبّكِ. عودي جمالاً يفيض على العالمين/ بحسٍّ نقيّ يوشّح حزني. ويورق ورداً يعادل هذا الوجود بلمسة عطر»...

وتبدو الغيرة ظلاًّ من ظلال الشاعر الدائمة، فهو يريد وجه أنثاه بعيداً من ملامسة الضوء الذي يتمادى ويصل إلى أن يتوّج الجبين بقبلة: «أغار عليك من الضوء حين يلامس وجهك. أو حين يمضي إلى قبلة في الجبين». ويرغب في ردّ الطبيعة بكلّ عناصرها عن التلاحم مع المرأة التي تخصّه عاطفيّاً: «أغار عليك من الشمس – أغار عليك من البرد» – فالمسألة هي أكثر من غيرة، هي شهوة امتلاك وأسر، فكأنّ كلّ ما هو خارج الحرّ هو رجل آخر ولو كان من ضوء أو من نسيم أو من دموع... وتحت وطأة الغيرة القاتلة يتحوّل الشاعر جرّة ذهبيّة من جرار الكآبة، ويعتمر حياة تصلبه على أسوار الحبّ، ليغدو وكأنّه يقطف اللّذة من صدر وهم معطياً ما فيه من إصغاء إلى جمال لم تضمّه أمّ ولم تُعَزِّه نظرة أب: «وها إنّني سيّد الحزن/ أحيا كأنّي أرابط خلف صروح الغرام المبين/ أغار عليكِ كأنّي أضاجع وهماً/ وأمضي كنبض الجمال اليتيم».

أسير الحب

وبين إبحارٍ عاشقٍ وآخر، يظهر الشاعر في الحبّ أسير مدّ وجزر، وتتجلّى أنثاه شلاّل عبير ترتديه نار الكتابة: «... ووردة شوق تغطّي المكان عبيراً يفوح على وقع نار الكتابَه»، فهي الآتية بدلاً من ضائع لزمن فقير: «أسمّيكِ خوفي على زمن ضاع منّي»، إلاّ أنّها تنسحب من مدار الحبّ قبل أن تكتمل شمسه: «زمانكَ ضاع قبيل اكتمال غصون الهيام، وبعد الوصول إلى ذروة الدفء»، وتترك شاعرها مسوَّراً بالقوافي، طالباً من الصدى أن يزوره تعزيةً لشيخوخة زمنه: «هنا الشعر يحرس أبياته الهائمات ويسأل ذاك الصدى أن يجيء ليحضن وقتي الهرم»،... وعلى رصيف الانتظار الطويل يحاول الحرّ تأليف زهرة تتّسع لما فيه من عطر الحزن: «لا زهرة تحتويني»، ويعد ظلاله الباردة في عراء وجوده بدفء تجود به ظلال امرأة: «فحتّامَ أبقى أُمَنّي ظلالي بدفء ظلالِك...».

والحبّ عند الحرّ سبيل إلى اصطياد الشموس برؤوس الأصابع وإلى ترميم الخراب الروحيّ المزمن وصولاً إلى فتح باب المستحيل بمفتاح من جمر مواقد عاشقة: «أحبّكِ حتّى تصير الشموس بقبضة كفّي. وحتّى أفكّك هذا الخراب المقيم. وحتّى تفجّر ناري لظى المستحيل». ومن اللافت أنّ الحرّ يرتاح إلى جملته الطويلة، وأسراب المفردات، ولو أتى ذلك أحياناً على حساب الإيحاء، وعرّض النصّ للاتّهام بالهدر اللغويّ: «... فهل تجهدين ليمسي هوانا الطهور شهيداً؟ وهل زال شوقُكِ في لحظة. وانتهى ذلك العمر في لحظة، وانتهت قبل هذا الشتاء فصول هوانا»... إنّ جملة الحرّ تنتهي ولا تنتهي، فكأنّه يريد أن يقول كلّ شيء حين يقول فيقود مياه معانيه إلى الطاحونة نفسِها وإن تعدّدت الصُّوَر، وكأنّه يرغب في أن تسمعه أنثاه فقط؛ تسمع ولا تتكلّم لتعرف كم هي طاعنة في الانتساب إليه وكم أنّ جذوراً لها مرتاحة في أعماق روحه...

ويواصل الشاعر حبّه الشعريّ بلا تعب، مشاهِداً تاجه تحت سكّين الهوى اللائذ برايات الحنين ليبكي في ظلال خفقانها: «ينحر التاج ويبكي خلف رايات حنيني»، وطالباً تعَلُّم أبجديّة الصبر هرباً من أن تعذّبه دموعه في وحدته: «علّميني الصبر كي أبكي وحيداً. كي يظلّ الصبر إحساسي وديني، كي أغنّي مثلما غنّى كنارٌ مهرجان الورد»... الحرّ يعرف تمام المعرفة أنّ الحبّ وجه آخر للخرافة وأنّ من النساء ظلالاً تحييها شمس ويذهب بها ظلام: «حبّكِ وحده/ يعطي الخرافة بُعدها الحقيقيّ»، ويعرف أيضاً أنّ الحبّ اسم من أسماء الإثم، وعليه، فإنّه يتمسّك بجحيمه الجميل ويعدّ الآثام على أصابعه المزقزقة طمعاً بنار فردوسيّة: «إن كان حبُّكِ إثماً/ فلتتراكم الآثام/ لأحتضن جهنّمي الموعودة».

في «عشقٌ عرضُه السماوات والأرض» فاضت لغة لامع الحرّ عشقاً، وفي خيمة أنثى كان لقاء للجمال والألم واللانهاية، موشوم على بحّة ناي القصيدة.

سديم

في قصيدة «سديم» يعتمر الشاعر عمامة حزنه، ويقف في حدائق ذاته تمثالاً خريفيّاً، يقرأ عراء الشجر، ويحنّ على الأرض فيأخذ منها أصفرها باعتباره تراباً نادراً لا يخبِّئ الدهر إلاّ في جروحه شوك أحزانه: «خريف يعرّي هنا شجر الحبّ. تحتضن الأرض أوراقه. وتعيد الذي اصفرّ منها إليّ. كأنّي أخزّن ممّا خبّأ الدهر من شوكة الحزن»... ويستمرّ الشاعر في أنفاق الأحزان وسراديبها متذكّراً مرارة غدر لا يسقط من ذاكرة القلب: «يا غدر زقزق على جانحيها نسيماً يمزّق وجهي».

    ومرّة أخرى، وليست أخيرة، يصفح الحرّ ويتنازل عن كأس النسيان وكأس الثأر، ويعلن أنّه لا يزال في فيء شجرة الحبّ منتظراً امرأة قد تعود، وقد تكون عودتُها قبضاً على الوجود وخلاصاً من ثقل نير وظلمة سجن: «أحبّكِ رغم الذي كان. عودي إليّ لأمسك نارك آناً./ وأقبض آناً على الأفق. عليّ أحرّر روحي/ وأهزم نيري وحبسي».

back to top