لعبة المغزل

نشر في 28-11-2015 | 00:01
آخر تحديث 28-11-2015 | 00:01
No Image Caption
هذه الحياة مُملة أكثر مما ينبغي..

هكذا حدّثت نفسها وهي تفتح عينيها بصعوبة، يهدّها إرهاق ليلة لم يزرها النوم فيها إلا لماماً. قاومت لتنهض وتلحق بأول يوم في وظيفتها الجديدة، دون أن تُغادرها الرغبة في إكمال نومها، وإلغاء فكرة العمل تماماً، لكنها عادت وفكّرت أنها بذلك ستغرق مجدداً في حالة الملل، وهي تُحاول جاهدة الخروج منها. شعرت أن الوظيفة الجديدة ضاجّة بالحياة منذ اللحظة الأولى لقبولها فيها. صحيح أنّها لم تكن ترغب في العمل خلف مكتب صغير وجهاز كمبيوتر، رفقة أناس لا تعرفهم. لكنّ تقدير مديرها لقدراتها، سهّل الأمر، حيث عيّنها في أحد أقسام الدائرة الهامة.

رأت الغيرة في أعين زملائها وهم يسألونها عن خبراتها، حين رأوا الفتاة صغيرة السن، رفقة المدير وهو يُطلعها على مكتبها الجديد ومهامها التي لا تختلف كثيراً عن مهامهم. لا شكّ لديها أنهم يعتقدون أنّها حازت هذه الوظيفة بناءً على مفاتنها، وليس لأمر يتعلّق بالمؤهلات. لكن لا بأس، فليس ذنبها أنّها فاتنة، وهم مجموعة يغمرهم القبح. كان يجدر أن يُسعدهم الأمر، لكنها تعرف تماماً أنّ الناس لا تكتمل متعتهم بالجمال مالم يمتلكوه.

كانت واثقة من اجتيازها لاختبار القبول، لكنّها لم تتوقع أن ينقلها المدير لوظيفة غير التي تقدمت إليها مع عدد كبير من المتقدمين.

{ليس من العدل أن تعملي في هذا القسم المتواضع، فنحن هنا نُقدّر أصحاب المواهب العالية. ستعملين في قسم أُشرف عليه شخصياً، كما أنّه قريب من مكتبي}.

ابتسمت بغنج وهي ترى نظرة المدير اللئيمة وهو يفتل طرف شاربه، وقد أدركت المواهب التي يقصدها. ها هو أحمق جديد ينضم إلى طابور الحمقى الذين يدورون في فلك جمالها. لكنّ الأمر لا يُزعجها كثيراً؛ فبدون هؤلاء كانت ستُحرم متعة الإحساس بحضورها الطاغي أينما حلّت.

كانت الدائرة حديثة التأسيس مخصصة لأرشفة وثائق الدولة إلكترونياً. وهي وثائق كتبها مناضلو حرب الاستقلال كيوميات عن أنفسهم، أو عن زملائهم، أو القليل مما كُتب من الأوامر والرسائل الرسمية، إذ كان يُعمد إلى تجنب التعليمات المكتوبة ما أمكن. أطنان من الورق المهترئ المصفرّ، كان يتوجب إدخالها إلى {السيستم}، بحيث تكون متاحة في أيّ وقت بضغطة زر. ولم يكن مطلوباً في الظاهر من شاغلي هذا العمل إلا إلماماً بسيطا بالتعامل مع الكمبيوتر. غير أنّ المتقدمين لهذا العمل كانوا يمرّون بالكثير من التدقيق، لضمان عدم استغلالهم لما يطّلعون عليه بطريقة تُضرّ بأمن البلاد.

فقد علمت الفتاة أنهم وقبل قبولها، فحصوا سجلها الجامعي، زاروا كلية الفنون التي قضت فيها أربعة أعوام مضطربة. التقوا بعض أصدقائها، المقربين منهم والأعداء. عرفوا عنها كل شيء تقريباً؛ كيف نشأت يتيمة في كنف جدّتها، وكيف قضت طفولة ناقصة دفعت بها نحو الانطواء، قبل أن يُنقذها عالم الرسم الذي لأجله أكملت دراستها، وخرجت للحياة مجدداً. كل هذه الأمور السيئة بالنسبة إليها، كانت في ما يبدو حافزاً للدائرة ليتمّ قبولها سريعاً، فكلما قلّت ارتباطات الواحد، بدا مناسباً أكثر.

ومع كل هذا التدقيق فقد كانت الدائرة تُعيّن المتقدمين الجدد مثلها في أقسام لا تتعامل بشكل مباشر مع الوثائق، على أن تتمّ ترقيتهم للأقسام الأكثر أهمية بمجرد إثبات ولاء مطلق وقدرة كبيرة على حفظ الأسرار. وهو ما لم يحدث معها على أيّ حال، فقفزت عدة مراتب لتعمل في أهمّ أقسام الدائرة وأكثرها حساسية.

خرجت من غرفتها لتجد جدّتها لأمّها وقد أعدّت لها قهوتها المفضلة. كان هذا أكثر ما تحتاج إليه في هذه اللحظة. لا تكفّ هذه المرأة عن مساندتها حتى في أدق تفاصيل حياتها، ولا تعرف كيف كان سيبدو كل شيء دون تلك المساندة.

لجدّتها الفضل في رعايتها بعد استشهاد والديها. لكنّ الأمر لا يتعلّق هنا فقط بما تقوم به الجدّات تجاه أحفادهن؛ فقد ساهمت كثيراً بحكاياتها في تخفيف شعور الفتاة بالسأم في هذه المدينة الباردة، رغم انشغالها الدائم بالسفر بشكل متكرر لقرية لا تبعد كثيراً عن أسمرا للاطمئنان على قريبة لها أقعدها المرض وتعاني العوَز.

أغرقت الجدة حفيدتها بدلالها، كانت تُريد تعويضها عن فقد والديها، حتى نشأت الفتاة وهي تعتبر كل رغباتها حقوقاً، وأن ما تريده يكتسب أهميته من رغبتها فيه مهما بدا تافهاً وبسيطاً، رغم أنها في المقابل سرعان ما تملّه بمجرد امتلاكه.

لم تكن الجدّة تُشبه حفيدتها؛ فقد كانت صحيحة الجسد، شديدة البياض، ولولا أنفها الإفريقي الأفطس، وشعرها الأجعد الكثيف المعقود عادة على شكل {راستا}، لبدت سليلة عرق وافد من البعيد. ولم يكن من السهل أمام الفتاة أن تُحدّد حجم الشبه بين جدّتها ووالدتها، فلم يبق في ذاكرتها شيء من أمّها التي غادرت بعد الأب بقليل قبل بلوغ ابنتهما الثالثة، ودون أن يتركا صورة تسند الذاكرة في مواجهة الزمن، وليقطعا بذلك آخر الخيوط التي كان بإمكانها أن تصل الفتاة بعائلتها الصغيرة. هذا الأمر لم يكن بالنسبة للفتاة سيئاً تماماً؛ فبقدر ما تمنّت أن تستحضر صورة أبويها، بقدر ما حيّد غياب الصور مشاعرها بعض الشيء تجاه فقدهما المبكر. رؤية الأطفال بصحبة آبائهم كان يستدعي حرمانها، عدا ذلك لم تكن تعبأ كثيراً بهذا الغياب، وكانت أحياناً تسخر منه بتلذذ، لكنها كانت تعود في مرات أخرى لتبكي بحرقة غير مفهومة. وفي كل ذلك، كانت الجدّة حاضرة لتعوّض احتياجها. الجدّة التي تقضي معظم يومها في الاعتناء بحديقة المنزل الصغيرة، كانت بارعة في سرد الحكايات، ولعلّ انخراطها المبكر في النضال جعلها تغرفُ من ذاكرة لا تنتهي. وكان هذا كافياً ليصبغ مساءات أسمرا الرتيبة بالوهج. كانت الفتاة تقضي برفقتها ساعات المساء الطوال، تملأ روحها بالحكايات. تتشرّب ماحدث ومالم يحدث. فبراعة الجدّة تتجاوز سرد ما جرى، إلى تفاصيل لا يمكن نسجها إلا عبر خيال خصب. وكثيراً ما كانت تُغيّر سريعاً في مسار الحكاية، إذا لم تر الدهشة في عين حفيدتها، تُبدّل النهاية، أو تحقنها بالإثارة أكثر. تحضرُ في حكايات، وتغيبُ عن أخرى. لكنها تحتفظ دائماً بقدرتها على سلب اهتمام حفيدتها حتى النهاية.

دائماً ما كان يخطر لها أنّ حياة جدّتها العريضة لا تكفّ تمدّ حكاياتها بالغنى، فهي تنقّلت بين مدارس البعثات التبشيرية، ثم المدارس الإيطالية في أسمرا التي ظلّت بعد رحيل أصحابها، قبل أن تتخرج في جامعة أديس أبابا.

كثيراً ما تمنّت الفتاة أن تمتلك قدرة جدّتها على الحكي، أن تُجاري هذا الدفق غير المنتهي من التفاصيل. فهذا كفيل بأن يُغيّر طعم وجودها، أن يقذف بالحياة في غرفتها الميتة، التي لا تبارحها إلا لحكاية جديدة.

غرفتها مليئة باللوحات، فالرسم هو كل ما تفعله حين تجلس بمفردها. لكنّ اللوحات كائنات لئيمة، تُبادلك الحياة طالما تعمل عليها، وما إن تنتهي، حتى تركن إلى الموت، ولا يُعيدها إلى الحياة إلا إحساسك بها، عدا ذلك قد يجلبك سكونها إلى منطقتها الميتة. على خلاف الحكايات التي تحتفظ بالحياة في حضورها والغياب. الحكايات لا تعرف السكون، فهي في حركة دائمة؛ من الشفاه إلى القلوب، إلى الملامح، إلى الهواء، إلى شفاه أخرى، وقلوب أكثر.

بدت في كامل أناقتها وهي تقف أمام مبنى الدائرة المكوّن من ثلاثة طوابق مصبوغة بالبرتقالي، والمقابل تماماً لبناية البريد المركزي وسط المدينة. صعدت السلالم بخفّة وهي تراقب أعين المارة تلتهم ما كشفه فستانها القصير، وتطرب للموسيقى المنبعثة من كعبها العالي وهو يطرق بخفّة العتبات الحجرية للمبنى العتيق الذي تركه الإيطاليون خلفهم بكامل سطوته.

دلفت إلى المكتب الواقع في الطابق الثاني، فاصطدمت بأعين زملائها المتطفّلة. كانوا ثلاثة رجال وسيدتان. وُضع مكتبها إلى جوار السيدتين، بتوصية من المدير الذي لم يرد لها في ما يبدو أن تجلس بقرب أحد الرجال، لكنّ هذا جعلها في مرمى نظراتهم الجائعة.

أحبّت مكتبها، فهو يقع تماماً أسفل نافذة كبيرة، يُخفّف الهواء القادم عبرها من رائحة العطن التي تبعثها الأوراق القديمة في المكان، ويُبدّد الكآبة التي ينفثها اللون الرمادي وهو يصبغ الجدران والطاولات من حولها.

لم يكن المكان يشي بالإثارة المنتظرة، الألوان والرائحة، وحتى الصمت الغالب عليه، كل ذلك كان أقرب إلى الرتابة التي جاءت الفتاة هاربة منها. لكنها لم تشأ أن تستعجل في الحكم. ستمنح تجربتها فرصة وافية.

ما إن استقرّت خلف مكتبها، حتى تسابق الرجال الثلاثة على تقديم خدماتهم، تحت وقع نظرات السيدتين الحانقة. أحدهم وقد عرفت أنه رئيس القسم، بادر بوضع خبرته الطويلة في الأرشفة تحت تصرفها، وهو يرمقها بعينين جائعتين ترمش كثيراً، والآخر قدّم لها نسخته الوحيدة من كتيّب يشرح بعض المصطلحات الصعبة التي قد تواجهها أثناء طباعة الوثائق، في ما بدا الثالث خائباً بعد أن سبقه رفيقاه إليها، فلم يجد غير أن يعرض عليها إيصالها إلى العمل كل يوم بسيارته الجديدة.

اكتفت بابتسامة مقتضبة وهي تشكر زملاءها، فهي لا تشعر بكثير امتنان للطفهم، وقد اعتادت أن تكون محطّ الاهتمام، فما يُقدّمه جمالها للآخرين، أكثر بكثير مما باستطاعتهم تقديمه لها. كثيراً ما خطر لها أنّ جمالها قد يكون سبباً في سأمها الدائم، فهو يُحيطها عادة بالحمقى، بمن يريدونها دون أن يجذبها شيء فيهم. لكنّها مع هذا تُحبّه، تحبّ جمالها الذي يُشرع أمامها كل الأبواب.

back to top