بيجمان

نشر في 28-11-2015 | 00:01
آخر تحديث 28-11-2015 | 00:01
No Image Caption
دفتر جيب صغير

هذه المرة أنقذتني الصدفة من الموت، حدث هذا رغم ابتلاعي موسى حلاقة  وثلاثين حبة مهدِّئة، إلا أنني رجوت أن تكون هذه هي محاولتي الأخيرة للانتحار. وإذا ما عدتُ للحياة ثانية، فسأكتبها كما هي مرسومة أمام عيني: ذاكرة لوجدان الزمان، وللأشجار التي شدَّت أغصانها مستسلمة للخريف. عن قضية {سابينا} ومدينة أفسدوها واقتلعوا ذاكرتها الخضراء، ووضعوا بدلاً منها ذئاباً تنهش حتى رفات جدائل فتياتها الشقر. تماماً مثلما فعلت معي العرَّافة المُتصابية التي بصقتُ على شؤم فألها حين التقيتُها خارج حانة {سراييفو برويري} وهي تصوِّب سهام نظرتها إلى قامتي الطويلة:

«أنتَ تُبحر في بحر الظلمات.. ملعونة رغباتك أيها الغريب»

تسمَّرت مكاني ولم أنتبه لها وهي تسرق من عنقي تميمة أمي وتهرب بها بعيداً. لم أستطع اللحاق بها، لقد ذابت خطواتها بسرعة حين امتنعتُ عن دفع خمسين ماركاً. شعرت بضياع آخر. لقد خسرتُ التميمة التي تحسّست وجودها بعد تحسّسي لحلمات ثديي أمي الدافئين فراحت تشدها وهي تبتسم لي. آه لقد سرقت فمي فما استطعت وقتها البكاء..!

أنا في الواقع أبحث في طريق مظلم، رطب، وضيق.. لا يقود إلاَّ إلى امرأة تقيم في مجهول باطن الأرض أو عليها. دروبـي لزجة رغم الشمس التي تستأنف فيَّ كل يوم صحوها. أخاف من الأفواه التي تخبئ صهيل الحكايات والدموع، من الأوراق التي تتظاهر مع الكلمات ضدي، فلا أحسن كتابة سطر واحد لـ {سابينا}، لا يمكن لليل أن يكون أبيض اللون. فبيننا كلام طويل لكنه معلق كغيمة بلا مطر، عاجزة عن غسل أحلامنا بصبح الحقيقة. أنا أبحث عن شتات روحي الضائعة في مرافئ مهجورة، وعن صورة لفتاة جميلة تسكن قلبـي الصغير منذ سنوات عدة. هي نفسها من أحرقت سفني ومحت كل سبيل للفرار!

أين أفرُّ منها؟!

التقيتها للمرة الأولى عام 1986 في بيت صديق قديم لوالدي يدعى {عثمان رحمانوف} ذلك الشاعر الروسي الطيب الذي كان يعقد في بيته صالوناً أدبياً نهاية كل أسبوع، رغم أنه يسكن مدينة موستار التي تبعد عن سراييفو مئة وثلاثين كيلومتراً. يعشق عثمان رحمانوف سراييفو لأنها تعني له الشيء الكثير، فهي عاصمته الثقافية والشخصية، كان شديد التعلق بنهر نريتفا الذي يرافقه في كتابة قصائده التي يكتبها لعشيقته الكرواتية {إيفا} وتبادلا على ضفته أول قبلة كما تغنَّى بذلك في قصيدته الشهيرة {نديمة التوت}. ولأنه عاشق في السِّتين، فإن طباعه تتجه نحو الهدوء وثبات الفكر. كان يهوى سماع الألحان الشرقية من أصابع أبـي إذ يُحيي مجلسه بعزفه على آلة البزق والسنتور اللتين جلبهما له خصيصاً من طهران.

في ذلك اليوم الممطر وتحديداً في 13 من ديسمبر، أعلنت ميلادي الجديد وموتي على حدٍّ سواء. الموت الممتد إلى ماء عينيها اللتين أقمت فيهما، مثلما أشم عطر ذاكرتها كلما ضاق بـي البعد والحرمان. كأني أتذوق أصابعها حين وضعت فطيرة التفاح على الطاولة القريبة مني وقربتُها من فمي. لحظتها ضعت فيها. وحين ذابت في فمي أحسست بأنها أخرجتني من العدم مرتعشة في مساماتي الصغيرة. كنت في التاسعة عشرة من عمري وكانت هي حبـي الأول. تماماً مثل عثمان وإيفا. لقد سحرني جمالها العفيف ودخلت قلبـي على أطراف أصابعها دون استئذان. وأضاءت عتمتي دون أن تحتاج إلى إشعال قنديل.

لم أشأ البوح. لكن شفتي المرتجفتين باحتا لها لحظة أن مارست فينا التفاحة الغواية. تسلّلتُ إلى ثوبها المورَّد بخجلها وفضحت كل شيء فيَّ.

«من أين تأتي أهوال كل هذا الرحيق!} قلتُ لها وكدت أفسد لذيذ تجلُّدها على وجع زنديها المضغوطين بأصابعي. غير أني تداركت السيد عثمان وهو ذاهب إلى المطبخ، يسعل بشدة بعد أن سكر بعض الشيء وهو يقول: تبًّا لهذا التبغ الرَّديء! سعل أكثر حتى خسرنا خلوتنا!

لقد أفلتت من بين يدي، فبقيت مشدوهاً. أنظر إليها من نافذة المطبخ. أرسم في مخيلتي بطلة لقصة قد أكتبها غداً. إلا أن حديث السيد عثمان مع والدي بنبرته المرتفعة الحادة، أضاع مني فكرتي. حيث انفلت من بين يدي طرف الحكاية. وراح يتذكّر شكله وهو يطل من نافذة غرفتي القريبة من ساحة {فلكه دوم} وسط حينا المعروف بـ {تهرانبارس} في طهران. كان رأسي يتفرّج على سابينا أكثر من عيني!

عاد السيد عثمان إلى الصالون متحدثاً بنصف وعي:

-     منذ عام 1977 لم نلتق في هذه المدينة!

-     لكننا نحاول أن نكشف أسرارنا بعضنا لبعض.

-     هاتِ دفترك الصغير واكتب: ماذا تعرف عن النادلة هافانا؟

انفجرا بالضحك كصديقين مغتربين التقيا بعد طول غياب. وددت لو كنت وقتها عائداً إليها كغريب. أحمل غبار سفري فوق ظهري، لأقول لها: انظري! ما أقسى الغربة، لقد فنيتُ من أجلكِ. والآن عدت من جديد. قسماً بمحاسنك، هل ستعانقني سابينا؟! أيُّها الجمال البوسني الذي يشبه نهر البوسنة. أوه {إيليجا} ما الذي ذكرني بكِ الآن؟ هل تتذكّرين جدتي فاطمة؟ ذات يوم أتى بها والدي إليك لتُشفي مياهك قدميها الهالكتين. كنتِ طيبة وبفضل نهرك شفيت تماماً. لكني عدتُ ولم يبق في جسدي ماء.

«سابينا} مفقودة منذ العام 1993 وصراخي الذي ظننت أنه سيفتت الصَّخر تبدّد مثل ريش! أعرف أن ساحة {باش تشارشيا} القريبة من منزل السيد عثمان معجونة بالحياة. وبأن السنين الأربع البالية تعافت رغم تورُّم فؤادها. فهناك الحوانيت الكثيرة والمطاعم والمقاهي التي تعجُّ بالسائحين. أولئك الذين يتمتعون حتى بزيارة مقابرنا الجماعية وأخذ الصور التذكارية مع شواهد الموتى! إلا أنها لا تزال تذكّرني بشلالات الدم المسفوح، والرؤوس التي كان الجيش الصربـي يلعب بها كرة القدم على مرأى من العالم الخارجي. يا للمفارقة الصعبة! فكركرات الصبية الذين يلعبون الكرة في الزقاق القريب لا يمحون الذاكرة القاسية. أولئك وُلِدوا بعد الحرب بعد أن شابت رؤوس آبائهم حيث أُرغموا على الابتسام في وجه الرصاص الذي مزَّق طوابيرهم في معسكر صربـي قرب قرية {سيمزوفاتس».

كيف لي أن أطيق البحث في وجه بلادي الجريحة ووجه حبيبتي لم أَرَه بعد؟ ولا أعرف له اتجاه، كأني أرتطم بسماء مُهمَلَة!! بتُّ مثل الأعمى، يُرنِّحني الظلام والشمس على حد سواء، ولا أفهم سوى الأصوات التي تنوح في كل مرة تُتكشف فيها مقبرة جديدة لذويهم. لا بيت لي، لا شارع، ولا صديق. إنه الحزن الذي يصهل في كل شيء. فيخلق للطيور ظلاماً تحلِّق فيه. وللحزن ملاعق يدسها في أفواه المواليد. إنه قادر على أن يمنحنا حياة جديدة، لكنه مع ذلك يبتكر مستشفى كبيراً ويعطي كلاًّ منا سريره الخاص، ليأخذ حريته في هرس الروح. ونافذته التي يُخرج منها دمعته المشويَّة.

لا يوجد أحد في سراييفو لا يملك قصة حزينة. فمهما تتظاهر بالهدوء أمام الورود والأنهار والجسور والبساتين ورطوبة القمصان والنساء الجميلات والعجائز الطيبات، إلا أنها جميعاً ستخلِّف فيك الحرائق، واحدة تلو أخرى. ماذا يعني إذاً أن نموت بلا ضجة؟! بلا مناديل ملوَّنة؟! حتى الثياب النادبة حين نجدها في القبور، فإننا نجدها بلا أصحابها، مثل سمكة ميتة وحسب!! وحين يأتي الفجر في كل يوم نشتبك بأنفسنا! أهرب في داخلي فلا أجد إلاَّ غربة جديدة تصاحبني حيث أُقيم. وحين أتقدم خطوات أخرى في مكان آخر لأبحث عنها، وأشك بأني ربما ابتعدتُ عن مثواها: أتقيّأ كل جروحي. فأجدني محمولاً على كتف فتاة حزينة مثلي. تسند ظهري على باب المقهى المجاور للساحة. وكأنها تُصغي إلى ضجيجي. تتهدّج في كلامها وهي تقول:

- الأغلب أنك مريض متعب!

لا أجيبها، أبكي حتى يخضرُّ دمعي فتدنو مني لتمسحه. أحاول أن أقول لها كلاماً مفهوماً، لكني أهذي:

- شفتاكِ مسالمتان! وأنا فانٍ في شفتيها، فلا تحترسي مني!

- ماذا تقول؟ عن أي شيء تتحدث! بمن فنيت؟ فعلاً أنت متعب وهذيانك دليل على ذلك..

- قولي لي يا..

- ياسمينة.

- أين ذهب الناجون من سربرينيتسا! أريد أن أفنى مع من بكوا عليه.

سحبت ذراعها من تحت رأسي بلطف لتمسح دمعتين سقطتا على خديها المتورِّدين كقطرتي ندى، ثم كشفت عن ذراعها النحيف، مدركة أنني أحد المجانين الذين يأتون إلى هنا للبحث عن ضحاياهم المفقودين. قد لا أكون أول مجنون التقت به:

- انظر، إنه وشم وشمني إيَّاه عمي الذي كان يربيني. وشمني كي يتعرف إليّ لو التقينا بعد الحرب في أحد الملاجئ وتكون قد ضاعت أسماؤنا! لذا دفعني إلى صديق له أسرع في هروبه إلى مقدونيا قبل فرض الحصار على سراييفو. وحين انتهت الحرب عدتُ إلى هنا، لكن الوشم لم ينفعني، فعمي كان من الضحايا المفقودين حتى الآن، وأسرته ترفض إعالتي بعد هجرتها إلى ألمانيا. المعذرة، وددت أن أساعدك، لكني أعمل في مطعم تركي قريب من بحيرة {يابلانيتسا} لذا علي أن ألحق بالقطار.

ابتعدت بعض الخطوات ثم قالت: وداعاً.

فأجبتها بالمثل: وداعاً..

مضت أسفل الشارع المنخفض دون أن توقظني من هذياني ولو بهزِّ كتفي قليلاً.. أسأل نفسي، هل ما زالتُ الشخص ذاته الذي يجرجر جسده كل يوم إلى مركز المفقودين، لأقف عند مفرق الشارع الذي تقسمه النافورة قسمين متساويين في الحُسن والحزن معاً. لم يبقَ هناك سوى السوق القديمة نهاية النفق. أمشي كمتسوّل يمد يده: سابينا يا محسنين!! لا أحد يمد يده. أفكر بالسير نحو دار العجزة، فقد أجدكِ هناك. فأنا شخت وأنتِ لا تصغرينني إلا بثلاث سنوات. الجميع هناك يعود إلى الماضي. الماضي الذي لم يسلم من تدمير الصرب لدور المسنين أثناء حرب الأربعة أعوام. لكنه اليوم الأول من شهر مارس. إنه عيد الاستقلال والرجل الذي استقبلني بملابسه الملونة وسلاله المليئة بالزهور والحلويات وشرائط البالونات الطويلة لم يكن مستعداً لأخذي إلى دار العجزة، ولا حتى وصف الطريق إليها. كان يضع في فمه صفّارة صغيرة ويغني ثم اختفى في الزحام.. هبط سرب من الحمام قرب النافورة التي تحلَّق حولها فتيات يتبادلن الأسرار ويغمسن أرجلهن فيها. أولئك العاشقات لا يختلفن كثيراً عمن كنَّ يقفن في طوابير الخبز والملاجئ! كلاهما تتبادلان غرف القلب!

لم يختلف الوضع كثيراً، فالشاب الثلاثيني الذي كان يجلس في مقهى {تيتو} يغني للعاشقين {السَفدالينكا} تلك الأغاني الشعبية العاطفية. وُجد مطموراً، ومشطوراً بالطول. هل عليَّ أن أقول كم كنت غبياً حين نظرت إلى نصف وجهه، هل كان فرجة لعينيّ اللتين عصرتهما بطرف شال رمته عليَّ إحدى النائحات بحنجرة مدهونة بزيت الله. لقد نصحتني بخلع نظارتي لكني لم أجبها! على الأرجح أن نهايته لا تختلف عن نهاية الحب والولع والحزن والأسى. لذا ابتدع البوسنيون

الـ: {الحب الحزين» karasevdah.

يا لشفقتي على نفسي. لكن هل من نفع أن أصف فداحة ما حلَّ بـي! بكِ! بنا! بهذا الزمن المخدوش الذي لو التفت إلى الوراء فإنه لن يجد إلا بيتاً مدمراً، وشجرة تُغري الفأس لاحتطابها. وإبريق أسئلة يفيض كلما ارتفعت النار. حتى الشكوى رمتني خارج الحانة وقالت لي: أنت وقح ثرثار! هاكَ العنوان. وحين أمسكتُ به، وجدته معلوكاً في فم بقرة أكول! اللعنة.. اكتشفت بأن تلك العجوز، كانت نفسها الطاهية الصربية في دار المسنِّين. ذاتُها المدمَّرة أرواح من كانوا ينتظرون الموت. دون أن تهز توسّلاتهم شفقة المدفعية الصربية!

أوه سابينا.. أنت من كنت تهزِّين فيَّ كل شيء!!

back to top