إنهاء الإرهاب المرتد

نشر في 25-11-2015
آخر تحديث 25-11-2015 | 00:01
إن المزيد من الحروب لن يحل أي شيء، فالاستثمار في التعليم والصحة والطاقة المتجددة والزراعة والبنية الأساسية، بتمويل من داخل المنطقة ومن بقية العالم، هو المفتاح الحقيقي لبناء مستقبل أكثر استقراراً للشرق الأوسط والعالم.
 بروجيكت سنديكيت لا شك أن الهجمات الإرهابية على المدنيين، سواء إسقاط طائرة الركاب المدنية فوق سيناء ومقتل 224 مسافراً مدنياً نتيجة لذلك، أو مذبحة باريس المروعة التي حصدت أرواح 129 من الأبرياء، أو التفجير المأساوي في أنقرة الذي راح ضحيته 102 من نشطاء السلام، جرائم ضد الإنسانية، ولا بد من إيقاف مرتكبي هذه الجرائم، في حالتنا هذه، تنظيم الدولة الإسلامية، ومن الواضح أن نجاح هذه المهمة يستلزم أولاً التوصل إلى فهم واضح لجذور هذه الشبكة الوحشية من الجهاديين.

رغم ما يصاحب هذا الاعتراف من ألم وحسرة، فإن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، يتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عن خلق الظروف التي سمحت بازدهار تنظيم الدولة الإسلامية، ولن ينحسر خطر المزيد من الإرهاب إلا بتغيير السياسة الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة وأوروبا في التعامل مع الشرق الأوسط.

ينبغي لنا أن نفهم الهجمات الأخيرة باعتبارها "إرهاباً ارتداديا": النتيجة المروعة غير المقصودة للعمليات العسكرية السرية والعلنية المتكررة التي تشنها الولايات المتحدة وأوروبا في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقرن الإفريقي وآسيا الوسطى بهدف الإطاحة بالحكومات هناك وتثبيت أنظمة متوافقة مع المصالح الغربية. لم تتسبب هذه العمليات في زعزعة استقرار المناطق المستهدفة وإحداث قدر عظيم من المعاناة والآلام فحسب؛ بل إنها أيضاً عَرَّضَت سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والشرق الأوسط لمستويات جسيمة من خطر الإرهاب.

لم يُطلَع عامة الناس حقاً على التاريخ الحقيقي لأسامة بن لادن، أو صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية. فابتداء من عام 1979، قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بتعبئة وتجنيد وتدريب وتسليح شباب من المسلمين السُنّة لمحاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وكانت وكالة الاستخبارات المركزية في عموم الأمر تختار مجنديها من بين السكان المسلمين (بما في ذلك في أوروبا) لتشكيل "جيش المجاهدين"، القوة القتالية السُنّية المتعددة الجنسيات التي حُشِدَت لطرد السوفيات الكفار من أفغانستان.

ثم أُتي بأسامة بن لادن من أسرة سعودية ثرية للمساعدة في قيادة العملية والمشاركة في تمويلها، وكانت هذه هي الطبيعة المعتادة لعمليات وكالة الاستخبارات المركزية: الاعتماد على التمويل الارتجالي من خلال أسرة سعودية ثرية والعائدات من عمليات التهريب المحلية وتجارة المخدرات.

ومن خلال الترويج للرؤية الأساسية للجهاد دفاعاً عن أرض الإسلام (دار الإسلام) ضد الغرباء، أنتجت وكالة الاستخبارات المركزية قوة قتالية صلبة تتألف من آلاف من الشبان النازحين من ديارهم والمشحونين لخوض المعركة. وهذه هي القوة القتالية الأولية- والأيديولوجية التي حفزتها- التي لا تزال حتى يومنا هذا تشكل الأساس لحركات التمرد الجهادية السُنّية، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حين كان هدف الجهاديين الأصلي هو الاتحاد السوفياتي، فإن وصف "كفار" اليوم يشمل الولايات المتحدة وأوروبا (وخاصة فرنسا والمملكة المتحدة) وروسيا.

في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ومع انسحاب السوفيات من أفغانستان، تحولت بعض عناصر المجاهدين إلى ما يسمى تنظيم "القاعدة"، وهو المصطلح الذي أشار إلى المنشآت العسكرية ومعسكرات التدريب التي أنشأها بن لادن ووكالة الاستخبارات المركزية للمجاهدين في أفغانستان. وبعد اكتمال انسحاب القوات السوفياتية، لم يعد المصطلح يشير إلى القاعدة العسكرية المادية، بل القاعدة التنظيمية للأنشطة الجهادية.

وبدأ الارتداد ضد الولايات المتحدة في عام 1990 مع حرب الخليج الأولى، عندما أنشأت الولايات المتحدة ووسعت قواعدها العسكرية في "دار الإسلام"، وخاصة في المملكة العربية السعودية، موطن ظهور الإسلام وأقدس مواقعه. وكان توسع الوجود العسكري الأميركي على ذلك النحو بغيضاً من منظور الأيديولوجية الجهادية التي بذلت وكالة الاستخبارات المركزية قدراً عظيماً من الجهد لتعزيزها.

ثم أطلقت الحرب غير المبررة التي شنتها أميركا ضد العراق في عام 2003 العنان لكل الشياطين، فلم تُشَن الحرب ذاتها استناداً إلى أكاذيب وكالة الاستخبارات المركزية فحسب؛ بل إنها كانت تهدف أيضاً إلى خلق نظام تابع للولايات المتحدة بقيادة شيعية ومناهض للجهاديين السُنّة وعدد أكبر كثيراً من العراقيين السُنّة الذين كانوا على استعداد لحمل السلاح. وفي زمن أقرب إلى الوقت الحاضر، أطاحت الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة بمعمر القذافي في ليبيا، وعملت الولايات المتحدة مع الجنرالات المصريين الذين أطاحوا في وقت لاحق بحكومة الإخوان المسلمين المنتخبة. وفي سورية، في أعقاب قمع الرئيس بشار الأسد العنيف للاحتجاجات الشعبية السلمية في عام 2011، ساعدت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا وحلفاء إقليميون آخرون في تحريض التمرد العسكري الذي دفع البلاد إلى دوامة من الفوضى والعنف.

وقد فشلت هذه العمليات- بشكل متكرر وكارثي في كثير من الأحيان- في إنتاج حكومات شرعية أو حتى توفير الحد الأدنى من الاستقرار، بل إنها على العكس من ذلك أسهمت، بإسقاط الحكومات الراسخة وإن كانت استبدادية في العراق وليبيا وسورية، وزعزعة الاستقرار في السودان وأجزاء أخرى من إفريقيا تُعَد معادية للغرب، في تأجيج الفوضى وسفك الدماء والحرب الأهلية. وكانت هذه الاضطرابات هي التي مكنت تنظيم الدولة الإسلامية من الاستيلاء على الأراضي والدفاع عنها في سورية والعراق وأجزاء من شمال إفريقيا.

والآن، يتطلب إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية وغيره من التنظيمات الجهادية العنيفة اتخاذ ثلاث خطوات واجبة. فأولا، ينبغي للرئيس الأميركي باراك أوباما أن يوقف عمليات وكالة الاستخبارات المركزية السرية، ذلك أن استخدام وكالة الاستخبارات المركزية كجيش سري لزعزعة الاستقرار ينطوي على تاريخ طويل ومأساوي من الفشل، الذي أخفي بالكامل عن الرأي العام تحت عباءة سرية الوكالة، ولا شك أن إنهاء الفوضى التي تحدِثها وكالة الاستخبارات المركزية من شأنه أن يقطع شوطاً طويلاً نحو وقف دوامة عدم الاستقرار والعنف والكراهية المعادية للغرب والتي يتغذى عليها الإرهاب اليوم.

وثانيا، ينبغي للولايات المتحدة وروسيا وبقية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن توقف على الفور حالة الاقتتال الداخلي وأن تعكف على إنشاء إطار للسلام السوري، فالمصلحة المشتركة والملحة في مجابهة تنظيم الدولة الإسلامية واضحة: فكل هذه الدول من ضحايا الإرهاب، وعلاوة على ذلك، لن ينجح أي تحرك عسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية إلا باكتساب الشرعية ودعم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وينبغي لإطار الأمم المتحدة أن يتضمن وضع حد فوري للتمرد ضد الأسد الذي رعته الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وتركيا؛ ووقف إطلاق النار في سورية؛ واستصدار تفويض من الأمم المتحدة لتشكيل قوة عسكرية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية؛ والانتقال السياسي في سورية ليس بإملاء من الولايات المتحدة، بل بإجماع من الأمم المتحدة على دعم عملية إعادة البناء السياسي السلمية.

وأخيرا، يكمن الحل الطويل الأجل لعدم الاستقرار في المنطقة في التنمية المستدامة، وإن منطقة الشرق الأوسط بأسرها ليست محاطة بالحروب فقط بل أيضاً بإخفاقات التنمية المتزايدة العمق؛ وتزايد حدة الضغوط الناجمة عن نقص المياه العذبة، والتصحر، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وضعف الأنظمة التعليمية، وغير ذلك من العراقيل الخطيرة.

من الواضح أن المزيد من الحروب- خصوصا تلك التي تدعمها وكالة الاستخبارات المركزية ويقودها الغرب- لن يحل أي شيء، وفي المقابل تجسد الجهود من قبيل زيادة الاستثمار في التعليم والصحة والطاقة المتجددة والزراعة والبنية الأساسية، بتمويل من داخل المنطقة ومن بقية العالم، المفتاح الحقيقي لبناء مستقبل أكثر استقراراً للشرق الأوسط والعالم.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسات الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top