دونالد ترامب لن يتغير!

نشر في 14-10-2015
آخر تحديث 14-10-2015 | 00:01
قال لي دونالد ترامب حين كنا على متن طائرته في طريقنا إلى مناظرة جمهورية في {مكتبة رونالد ريغان الرئاسية} في كاليفورنيا: {لا أقلق من شيء!}. كان يوزع انتباهه بين التهام قطعة من الحلوى ومشاهدة التلفاز حيث ظهر معلّق على قناة {سي إن إن} وكان يتكلم في تلك اللحظة عن ترامب، كما فعل معظم المعلّقين طوال الأشهر الثلاثة الماضية. كان المعلّق ديلان بايرز يقول إن ترامب يجازف الآن بخسارة شعبيته لأن الناخبين باتوا يعرفون طبيعة تصرفاته. لكن رفض ترامب هذا التعليق وهو يرسم ابتسامة متكلفة أمام الشاشة. وفق نظرة صاحب العقارات الثري ومبتكر برامج الواقع، سيكون الفوز حليفه في جميع الأحوال.

قد تكون حملة ترامب رابحة في جميع الأحوال، لكنها تطرح معضلة هائلة بالنسبة إلى عدد كبير من الناس. إنها معضلة بالنسبة إلى الحزب الجمهوري والذين يترشح ترامب ضدهم. يفضّلون اعتباره مجرّد عرض جانبي والتأكيد على فشله، لكنه يطغى على جميع الحملات والأحاديث، وهم لا يعرفون رد الفعل المناسب تجاهه: هل يجب أن يساعدوه أم يهاجموه أم يتجاهلوه أم يستوعبوه؟ إنها معضلة أيضاً بالنسبة إلى وسائل الإعلام التي تخشى بث عرض سخيف يكون أشبه بالسيرك. لذا أعلنت صحيفة {هافينغتون بوست} أنها لن تنشر قصصاً عن ترامب إلا في قسم الأخبار {الترفيهية}. وحين تنتهي هذه المعمعة كلها، وسيحصل ذلك قريباً طبعاً، سيكون الموقع الإلكتروني قد حافظ على سمعته ومستواه. التقينا ترامب للمرة الأولى في بداية سبتمبر الماضي في مكتبه الواقع في الطابق السادس والعشرين في {برج ترامب}.

ترامب رجل طويل القامة (190 سنتم). يبدو شخصياً أطول مما نتوقع لأننا لا نشاهد في العادة إلا رأسه وشعره وتعابيره الجامدة وراء الطاولات والمنصات. كان يقف وراء مكتب يعج بالأوراق والمجلات الحديثة التي يظهر على غلافها وعليه دمية تمثّله. قال وكأنه يريد تبرير الفوضى السائدة في المكان: {هل يمكن أن تقابل رجالاً تكون مكاتبهم فارغة؟ مستحيل! لا أعرف حقيقة الأمر. أنا ألاحظ ذلك منذ سنوات}.

لا يشبه التقرب من ترامب التعرّف إلى مرشحين آخرين من أمثال هيلاري كلينتون. إنها تجربة جاذبة ومختلفة بالنسبة إلى المراسلين السياسيين الذين اعتادوا على أسلوب التجاهل والتحيز والفوقية من السياسيين النموذجيين والحراس الجامحين الذين يحيطون بهم. بشكل عام، يتفهم ترامب المراسلين ويدرك أنهم يحبون أن يحصلوا على التقدير الذي يستحقونه.

أدلى ترامب في مقابلته معي بمعلومات قابلة للنشر وأخرى غير معدّة للنشر، مع أن بعض المعلومات لم تكن حساسة أكثر من غيرها لكنها كانت مختلفة بما يكفي كي تثبت أنه يستطيع احتساب أدق التفاصيل وتقييم مختلف المعطيات. في مرحلة معينة، أعلن ترامب أنه يدلي بمعلومات {شبه علنية}. لم يكفّ عن تشجيعي على كتابة مقالة {منصفة} عنه، ما يعني ضرورة أن أقوم بتحليل شامل ومناسب لـ{ظاهرة ترامب}. وإلا سيكون الوضع {مشيناً} كما حصل حديثاً حين كتب أحد المراسلين أنه تلقى {تصفيقاً خجولاً} في إحدى المناسبات في أيوا، مع أن التصفيق كان أقوى من ذلك بحسب قوله: {لا أتلقى تصفيقاً خجولاً!}.

حين كنت أشاهد أغلفة المجلات المعلّقة على الجدار وأتحمّل سلوكه الفوقي، تساءلتُ بصوت مرتفع عن ميل الأميركيين إلى تفضيل الرؤساء التنفيذيين المتواضعين أو المتكلفين. فأجاب بسخرية: {لا! هم يريدون من يحقق النجاح. كانوا يفضلون صفة التواضع في الماضي ويميلون إلى تأييد الشخص اللطيف} (هو أكد على أنه شخص لطيف أيضاً!). لكنّ ما يريدونه فعلاً هو شخص يستطيع الفوز كما يفعل ترامب دوماً: {سنحقق انتصارات عدة لدرجة أنكم ستضجرون من كثرة الانتصارات}.

سألتُ ترامب إذا شكك بنفسه يوماً. يبدو أن السؤال فاجأه، فبدا للحظة متردداً ثم قال لي: {نعم، أنا أفكر أكثر مما يفعل الناس}. حين سألتُه متى حصل ذلك، أجاب أنه لا يريد التحدث بالموضوع. ثم ابتسم وقال متلعثماً: {نعم، أفكر أكثر مما يفعل الناس على الأرجح. أنا أفهم كيف تسير الحياة. يمكن أن تحدث أمور غير متوقعة}.

أكثر ما ميّز المشهد الذي يحيط بترامب في معظم المناسبات العامة منذ شهر أغسطس أنّ الناس لا يكفون عن تقديم الأموال له كي يوقّع عليها. رأيتُ هذا المشهد للمرة الأولى في 11 سبتمبر، وهو يوم حداد وطني. كان ترامب يمرّ في ردهة {مركز روكفلر} بعد ظهوره في برنامج The Tonight Show Starring Jimmy Fallon وكان بانتظاره حشد صاخب. اعتبر حارس أمن في المبنى أنّ الوضع كان أشبه بمرور جاستن بيبر! تألّف الحشد بشكل أساسي من سياح وزوار أجانب، وكان معظمهم من الشباب. حضر أيضاً مصورو الباباراتزي وراح بعضهم يصرخون لطرح الأسئلة عليه. لكنّ أكثر ما صدمني وسط هذه الأجواء الصاخبة هو كمّ الدولارات التي راح ترامب يوقّع عليها، وكان كل من يأخذها يتعامل معها وكأنها بطاقة يانصيب رابحة. تباهى ترامب بمئة دولار أعطتها له امرأة من لونغ آيلند كي يوقّع عليها. حتى السياسيون لا يوقّعون على الأموال بهذا الشكل! يرفض البعض هذا التصرف حتى لو طُلب منه ذلك (هذا ما فعلته هيلاري كلينتون في إحدى المناسبات) لأن تشويه العملة سلوك غير قانوني عملياً. لكنه يذكّرنا بأبرز مؤيدي تيار علماني وطني عُرف بالنزعة الاستهلاكية الطموحة. كان ريغان رأسمالياً ورمزاً للسوق الحرة، لكن كان الاستهلاك الطاغي مفيداً لنشر الحرية والازدهار في الولايات المتحدة، وهو لم يكن هدفاً وطنياً بل فضيلة بحد ذاتها. لكن لا ينطبق ذلك على ترامب مع أنه يملك أغراضاً جميلة وفخمة طبعاً. ثمة عامل ناجح في مقاربة ترامب الجاذبة، أي فكرة أن نتبع وزيراً لأنه غني ولديه طائرته الخاصة وهو يعدنا ضمناً، أو صراحةً أحياناً، بأن نصبح أغنياء بدورنا!

مع ذلك، عُرف ترامب بالرجل {الشعبوي} طوال الفترة التي ازداد فيها نفوذه. لطالما ساويتُ بين الشعبوية والانتفاضات الاقتصادية التي يقوم بها المحرومون في وجه أصحاب الامتيازات. نشأ ترامب في حي كوينز وكان ابن رجل ثري يعمل في مجال التطوير العقاري، وهو يسوّق لثروته الخيالية ومؤهلاته الأكاديمية النخبوية و}جيناته المميزة} ({كان عمي أستاذاً في {معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا} وكان الأذكى هناك}!). يمكن اعتباره أول مرشح رئاسي {شعبوي} يذكر الشهادة التي نالها من جامعة وارتون أمام حشد انتخابي في ألاباما.

ترتبط النزعة الشعبوية عموماً بالحركات الشعبية، لكن لا تتطور حملة ترامب بشكل تصاعدي كما فعلت حملة أوباما في عام 2008 أو حتى حركة {حزب الشاي} في السنوات اللاحقة. بل إن ترامب يرتكز بالكامل على {الشعبوية} الإعلامية التي تتكل على بناء الشخصية على مر العقود. بفضل الشعبية التي اكتسبها ترامب من برنامج الواقع The Apprentice الذي عُرض على قناة {إن بي سي}، تحول إلى شخصية ثقافية نافذة. ربما تتفوق قوة تلك الشخصية (رب العمل العابس والصارم) على المعايير الاستراتيجية المألوفة التي يحب السياسيون المتزنون التحدث عنها دوماً. بشكل عام، يتعلق جوهر ظاهرة ترامب بشهرته التي تبدو على قدر كبير من {الشعبوية} في الولايات المتحدة اليوم.

هتافات سلبية

في الخارج، على الرصيف المجاور لـ}مركز روكفلر}، كان الحشد الذي قابله ترامب مضطرباً وشمل بعض المحتجين. عَلَت هتافات سلبية ({ترامب عنصري!}) وعبارات ساخرة ({دونالد، هل تريد ترحيلي؟}) وشعارات من برنامجه ({أنت مطرود!}).

راح البعض يطرق على جانب من السيارة أثناء مغادرتنا. جلست هوب هيكز (26 عاماً)، المسؤولة عن الشؤون الدعائية الخاصة بترامب والعارضة السابقة في دار رالف لورين، في الجهة المقابلة لنا. بالقرب منها، كان مدير حملة ترامب، كوري ليفاندوفسكي، منشغلاً بتصفح جهاز {الآي فون}. بعد ثوانٍ من الهدوء في سيارة الليموزين، بدا ترامب فجأةً محروماً من الأوكسجين. فأصر على فتح النافذة بشكل متكرر للاستمتاع بالصخب في الخارج والتوقيع على المزيد من أغلفة المجلات التي يظهر عليها. صرخت له امرأة وطالبته بالتقاط صورة معه وأدخلت رأسها إلى السيارة، فلبّى ترامب طلبها قبل أن يغلق النافذة مجدداً.

التفت إليّ ترامب وقال: {يحتاج بلدنا إلى نفحة من السحر والرقي}. فتدخلت هيكز وقالت إن وكالة Bloomberg Politics حللت حديثاً مجموعة نقاش تتألف من ناخبي نيوهامبشير حيث استعملت امرأة كلمة {راقية} لوصف الرئاسة التي يمكن أن يتولاها ترامب.

تتعارض فكرة انتخاب رئيس عادي مع الرؤية {الراقية} التي يحملها عن الوطن. يجب أن يكون الرئيس رجلاً مختلفاً واستثنائياً ولامعاً على جميع المستويات. أضاف ترامب: {كان جيمي كارتر ينزل من الطائرة الرئاسية وهو يحمل أمتعته. كنت أقول إنني لا أريد رئيساً يحمل أمتعته بنفسه}. كان كارتر رجلاً لطيفاً بحسب رأي ترامب {لكننا نريد شخصاً مستعداً للتحرك والهجوم والفوز}. لا يمكن تحقيق ذلك طبعاً مع شخص {يظهر وهو يحمل حقيبة كبيرة من الملابس الداخلية!}.

في منتصف شهر سبتمبر، أخبرني مات يلند، مهندس كهربائي عمره 60 عاماً، قبل أن يصعد ترامب على المسرح في {مركز الخطوط الجوية الأميركية} في دالاس: {لقد تعبت الولايات المتحدة من مواجهة المواقف الصعبة}. كانت المناظرة التي ستحصل في {مكتبة ريغان} على بُعد أيام، واجتمع حشد من 17 ألف شخص لحضور الحدث. وراء يلند، حمل رجل لافتة كُتب عليها {الأغلبية الصامتة ترفع صوتها!} في إشارةٍ إلى مفهوم نيكسون القديم ({الأغلبية الصامتة}) الذي استعمله ترامب كشعار لحملته وكوسيلة لإنشاء سوق مستهدفة. أضاف يلند: {نحن لطفاء لكننا تعبنا من الضغوط المتلاحقة}.

دام خطاب ترامب في دالاس 70 دقيقة وبدا أشبه بهجوم صاروخي متعرج ضد قطاعات عدة من المؤسسة السياسية. بحسب رأي ماريو كومو، قد يرتكز سياسي في حملته على الشعر ثم يستعمل الكلام المبتذل حين يحكم، لكن يمكن أن نضع هذا المفهوم جانباً مع دونالد ترامب. هو يخوض حملته بناءً على الأشعار ظاهرياً، فقد سخر من جون كيري لأنه كسر ساقه في حادث على دراجة هوائية خلال المفاوضات النووية الإيرانية واعتبره ضعيفاً ومثيراً للشفقة. قال ترامب عن وزير الخارجية: {لا شك أن الإيرانيين يعتبرونه غبياً}.

طابع غير إيديولوجي

لكنّ أبرز العوامل المقنعة بنظري في ذلك الخطاب وفي الروحية التي سادت في تلك القاعة كانت تتعلق بطابعها غير الإيديولوجي. عدا موضوع المهاجرين غير الشرعيين الذي يلجأ إليه اليمينيون لنشر الذعر، استهدف ترامب {الطبقة السياسية الدائمة} التي تنتمي إلى الحزبين والتي وصفتها جوان ديديون في كتابها {الروايات السياسية} (Political Fictions): إنها مجموعة مشبوهة من المتحدثين على التلفزيون، والخبراء الاستراتيجيين الذين ينظمون الحملات، والمرشحين الذين قاموا {بتزوير اللعبة} ومارسوا سيناريوهات مريعة في عالمنا السياسي. كتبت ديديون: {يعلم الجميع أنّ ما نشاهده في عالم السياسة مزيف أو مفبرك. لكن لا أحد يعترض على هذا الوضع لأنه يرتكز على آراء مجموعات النقاش}.

تراكمت مشاعر البغض تجاه هذه الطبقة على مر السنين. وقد تم التعبير عنها ضد المعسكرين واتضح ذلك عبر نشوء حركات متمردة مثل {حزب الشاي} وحركة {احتلال وول ستريت}.

قال ترامب أمام الحشود في دالاس إن كارل روف هو مجرّد {نذل غير كفوء}، في إشارةٍ إلى المعلّق في قناة {فوكس نيوز} وكبير الاستراتيجيين الجمهوريين في عهد جورج بوش الإبن. أصيب الحشد بالجنون بعد انتقاد روف، وهو أمر لافت لأن {مهندس} رحلة بوش السياسية يتعرض للإهانة من جانب حشد يميني في بلدة بوش.

في هذه المرحلة بالذات، بدأتُ أشعر بالسرور لأنني قررتُ أن أكتب عن ترامب الذي سئم بكل وضوح من سياستنا. ما من فارق كبير بين ترامب قبل الترشح للرئاسة وبعده، باستثناء إطلالاته العلنية المتزايدة. لا يزال ترامب الرجل الاستعراضي الفظ الذي نعرفه. لكنه نجح لسببٍ ما في جذب الأنظار إليه في هذه اللحظة السياسية. تكرر الأمر نفسه عشية أول مناظرة، حين تخلت القاعة كلها عن المرشحين المحترفين وفضّلت الفوضى العارمة التي ترافق ترامب. هل كان ترامب نتاجاً منطقياً لنظام سرطاني حوّل الديمقراطية الأميركية إلى مستنقع ذهبي من الشهرة الرخيصة وأساليب جمع الثروات والجنون النرجسي؟ أم أنه حرص بكل بساطة على تسويق أدوات ذلك التحول (ماله وشهرته وهيمنته على وسائل الإعلام) ضد القوى التي سببت أصلاً هذا الاشمئزاز من النظام؟

قال لي ترامب في سيارته حين كنا نغادر المكان: {كانت الطاقة إيجابية جداً في تلك الغرفة!}. بدا وجهه أحمر من الخجل وكأنه مراهق لا يستطيع تصديق ما يحصل معه: {لا يسهل أن نجذب حشداً مماثلاً!}.  يقول إن زوجته التي شاهدت خطابه على الشاشة أخبرته بأنه يستحق أعلى علامة.

معضلة

يُعتبر دونالد ترامب معضلة بحد ذاتها بسبب الإجهاد الذي يسببه. كل يوم، ثمة خلاف جديد واستفزاز جديد ووصف {غير لائق} أو قصة {مشينة} عنه في مكانٍ ما. بعد فترة قصيرة على عودتي من كاليفورنيا، برزت مؤشرات على أنّ {صيف ترامب} ينذر بخريف قاسٍ عليه. تبين أنه بدأ يخسر تفوقه بعد المناظرة الأخيرة. بدت نتائج الاستطلاعات متقاربة. لكنه بدأ يسخر من ماركو روبيو الذي سجل نتائج أفضل بعد المناظرة لأنه كان يتعرق كثيراً.

مع ذلك، طلب ترامب من مساعديه أن يرسلوا لي أحدث {استطلاعات جميلة}. تحدثتُ قليلاً معه قبل أن يظهر في برنامج The Late Show With Stephen Colbert، فقال لي: {لقد أبلينا حسناً في استطلاع موقع Morning Consult. أظن أنك شاهدت ذلك الاستطلاع}. رأيتُ ترامب الذي لم أره يوماً، أي المرشح الذي يكلّمني كثيراً عن أحدث الاستطلاعات. وقد أكد لي على أنّ أحداً لا يتفوق عليه. في النهاية، تمنى ترامب أن تكون مقالتي عادلة بحقه معتبراً أنّ شيئاً لا يمنع ذلك لأنه لم يقم بأي أمر سيء! هل أخفق في شيء؟ كيف يمكن الإجابة عن سؤال مماثل؟ قد يكون ترامب أكثر شخص ينشغل بأفكاره الخاصة داخل عالم السياسة وخارجه، ولكنه أقل شخص يحلل الأمور. أظن أنه سيعتبر هذه الصفة إيجابية في أي رئيس. هذا السلوك يبعده عن المعضلات الشائكة. لكن من المزعج أن نقابل زعيماً محتملاً يتمتع بشخصية دقيقة وواضحة ولكنه يفتقر في العمق إلى الذكاء. شبّه مساعد أوباما السياسي، ديفيد أكسلرود، حملاته بـ»تصوير الروح بالرنين المغناطيسي». تكوّنت الصورة التي انطبعت في ذاكرتي عن رحلاتي مع ترامب بعد أن هبطنا في وقت متأخر في لوس أنجلوس، عشية اجتماع دالاس. بدا ترامب الذي يكتفي دوماً بأربع ساعات من النوم منهكاً للمرة الأولى. كان وجهه شاحباً وتباطأت مشيته وبدا وكأنه مرّ بعاصفة قبل وصوله إلى السيارة التي كانت تنتظره. في اللحظة الأخيرة، دعاني أحد مساعديه للقيام برحلة مع ترامب في بفرلي هيلز حيث يملك مزرعة. كنت أنوي ركوب سيارة أجرة لأني أتوق للبقاء وحدي ولترك ترامب بسلام بعد 18 ساعة متواصلة. لكن كان يصعب الوصول إلى محطة سيارات الأجرة، لذا اضطررتُ للركوب مع ترامب مجدداً! طلب مني ترامب ألا أتكلم حين كنت أجلس بالقرب منه في السيارة. لم أجد مشكلة في ذلك. لم يتفوه أي من الموظفين الخمسة وحراس الأمن الموجودين في السيارة بكلمة. جلسنا هناك والتزمنا الصمت كما طلب منا ترامب طوال فترة الرحلة التي دامت نصف ساعة. سررتُ شخصياً لأنه قرر أخذ استراحة من دور {دونالد الصاخب} والتخلي عن أساليبه الاستعراضية بحضوري، ولأنه تمكّن من الانزواء مع نفسه قدر الإمكان. رحتُ أتساءل عن ما يفكر به.

بعد بضع دقائق، شاهدتُ ترامب وهو يحدق بهاتفٍ انعكس وهجه على وجهه اللامع. تحققتُ من هاتفي أيضاً وقرأتُ على حسابه عبر تويتر: {الخطاب في دالاس كان ممتازاً}! إنها التغريدة التي كتبها دونالد ترامب وهو يجلس في الظلمة بالقرب مني.

المناظرة

توجهنا إلى مطار {لوف فيلد} حيث كانت طائرته الخاصة من طراز {بوينغ 757} تنتظرنا لنقلنا إلى جنوب كاليفورنيا لحضور المناظرة.

سألني ترامب حين انضمّيتُ إليه في الحجرة الأساسية: {هل تريد غسل يديك أولاً؟}. يكره ترامب الجراثيم ({أنا نظيف جداً!}) وقد كان جائعاً جداً. فاتجه إلى غرفة مليئة بأطباق الدجاج والروبيان والسمك واللحوم. أبدى ترامب إعجابه بالطعام قائلاً: {إنها مائدة جميلة. ثمة مأكولات أكثر مما يمكن أن يأكله أحد}. ثم سكب ملاعق كبيرة من البطاطا في طبقه قبل أن ينتقل إلى الروبيان وسألني: {هل تحب الروبيان؟}. ثم دعاني لبدء الأكل. قال ترامب إنه لا يتبع أي حمية خاصة أو جدولاً رياضياً استعداداً للحملة الانتخابية: {جميع أصدقائي الذين يمارسون الرياضة طوال الوقت سيخضعون لجراحة استبدال الركبة أو الورك. حالتهم كارثية}. هو يجهد نفسه حين يقف أمام الجمهور طوال ساعة كما فعل للتو. هذا هو تمرينه الرياضي. لم يعبّر ترامب عن اهتمامه باستعمال الإيقاعات التقليدية للاستعداد للمناظرة الرئاسية التي كانت على بُعد 48 ساعة. يمكن أن يسأله مذيعو {سي إن إن} مليون سؤال مختلف، لذا لا نفع من أن يحجز نفسه في غرفة مع الكتب و20 خبيراً: {هذا ما فعله رومني ولكنه عجز عن الكلام!}.

بدل اتباع هذا النهج، أخذ ترامب كومة الطعام التي اختارها وجلس على كنبة بالقرب من شاشة تلفاز كبيرة. أمضى جزءاً كبيراً من الرحلة التي دامت ثلاث ساعات وهو يحدق في صورة عملاقة لدونالد ترامب وهو يلقي خطابه. هو لم يتوقف عن التنقل بين قنوات {فوكس نيوز} و}سي إن إن} و}إم إس إن بي سي} لأخذ فكرة عن التعليقات. كلما ظهر مذيع جديد على الشاشة، كان ترامب يصفه بحسب طريقة تعامله معه. فقال عن بيل أوريلي على قناة {فوكس}: {هذا الرجل كان ممتازاً معي}. أما كيفن مادن على قناة {سي إن إن} (خبير استراتيجي جمهوري)، فهو {مجرد تابع لرومني}. وكانت آنا نافارو، المستشارة الإعلامية الجمهورية التي تؤيد جيب بوش، {سيئة جداً ومثيرة للشفقة ومريعة ولا أعرف لماذا تظهر على التلفزيون}. ثم انتقل إلى {فوكس نيوز} حيث كان جيب بوش يقول كلاماً باللغة الإسبانية. ثم انتقل إلى قناة {إم إس إن بي سي} حيث كانت هيلاري كلينتون تقول إنها تتمنى أن يبدأ ترامب {باحترام النساء} بدل {تدليلهنّ} (فقال عنها: {هي لا تجيد الكلام. أظن أنها في مأزق}). ثم عاد إلى {سي إن إن} التي عرضت تقريراً بيانياً أظهر أن 70% من اللاتينيين يحملون نظرة سلبية عن ترامب. ثم انتقل إلى {فوكس نيوز} مجدداً.

back to top