الأرق... أسباب وعواقب

نشر في 14-10-2015
آخر تحديث 14-10-2015 | 00:01
No Image Caption
بينما تضع اللمسات الأخيرة على تقريرك، تلاحظ أن الشمس بدأت تشرق وتحلم بالتسلل إلى سريرك الدافئ. تلاحظ تشوشاً في بصرك وسمعك، وتخال أن الكلمات على الشاشة تحدق بك بعدما فقدت كل معنى.
أما دماغك فيشعر بالإنهاك. مررنا كلنا بتجربة مماثلة. يرخي ذلك الضباب بظلاله على دماغك ويمنعك من التفكير بشكل سليم، ما يدفعك إلى التساؤل بعد السهر طوال الليل: ما تأثير الحرمان من النوم في الدماغ؟
قرر علماء أعصاب في النرويج الإجابة عن هذا السؤال في دارسة نُشرت أخيراً في مجلة PLOS ONE وتناولت تأثيرات عدم النوم ليلاً في بنى الدماغ الصغيرة. ومن بين اكتشافاتهم أن الحرمان من النوم يؤدي إلى تبدلات بنيوية واسعة في الدماغ. وقد أطلعنا الباحث المشرف على هذه الدراسة على أفكاره عن الأسباب البيولوجية المحتملة لهذه التغييرات وما إذا كانت طويلة الأمد.

التسبب بحرمان النوم

قيَّم الباحثون مجموعة من 21 شاباً أصحاء طوال يوم كامل. خضع المشاركون لتصوير موتر انتشاري (نوع من التصوير بالرنين المغناطيسي يقيس انتشار الماء ومن الممكن اعتماده لتقييم سلامة المادة البيضاء) عند استيقاظهم في الصباح نحو الساعة السابعة والنصف. وسمح لهم بمواصلة نهارهم بشكل طبيعي قبل العودة للخضوع لعملية تصوير أخرى عند الساعة التاسعة والنصف مساء. وظلوا في المختبر للمراقبة حتى خضعوا لمسح أخير في السادسة والنصف من صباح اليوم التالي، ما يعني أنهم ظلوا مستيقظين طوال 23 ساعة متواصلة. وبما أننا نعلم اليوم أن الأمور كافة قد تؤثر في بنية الدماغ على نطاق صغير، حاول الباحثون التحكم بدقة في أكبر قدر ممكن من العوامل. فلم يُسمح للمشاركين بالتمرن أو باستهلام الكحول، الكافيين، أو النيكوتين خلال الدراسة، أو تناول الطعام قبيل الخضوع لعمليات المسح. وبما أن تصوير الموتر الانتشاري يقيس انتشار الماء، قيس معدل رطوبة الجسم في الجلسات كلها وأخذ في الاعتبار عند تحليل البيانات.

تبديلات

صبَّ الباحثون اهتمامهم على سؤالين رئيسين: كيف يتبدل الدماغ بعد يوم عادي من اليقظة وبعد الحرمان من النوم؟ ركزوا على ثلاثة قياسات في تصوير التوتر الانتشاري بغية تحديد التغييرات التي تطرأ على الخصائص المختلفة للأنسجة العصبية مع اليقظة.

تقيس {الانتشارية الشعاعية} طريقة انتشار الماء في الألياف، في حين أن {الانتشارية المحورية} تقيس انتشار الماء على طول مسار محدد. أما {تباين الخواص التجزيئي}، فهو معدل الانتشارية المحورية إلى الشعاعي، ما يعني أنه يقيس بفاعلية قوة انتشار الماء في اتجاه واحد.

من الصباح إلى المساء، يرتفع تباين الخواص التجزيئي ويعود ذلك إلى تراجع في الانتشارية الشعاعية. أما من المساء إلى الصباح التالي، بعد الاستيقاظ طوال الليل، فتتراجع قيم هذا التباين إلى معدلات قريبة إلى ما سجله في الصباح السابق. ويترافق التراجع مع انخفاض في الانتشارية المحورية. وهكذا اتضح أن تباين الخواص التجزيئي يتقلب خلال يوم من اليقظة، فيرتفع مؤقتاً ليعاود الانخفاض. في المقابل، تراجعت الانتشارية الشعاعية والمحورية بمعدلات مختلفة، مع انخفاض الانتشارية الشعاعية مع نهاية يوم عادي وتراجعت الانتشارية المحورية في وقت لاحق بعد التعرض لمقدار كبير من الحرمان من النوم.

 لم تتركز هذه التغييرات، بحسب الباحثون، في منطقة محددة، بل حدثت في أنحاء الدماغ كله، بما في ذلك جذع الدماغ إلى المهاد والمسارات الأمامية، الجبهي، والجداري، القذالي.

تأثيرات سيئة

تؤكد دراسات أخرى هذه التقارير عن أن اليقظة تؤدي إلى تبدلات في الدماغ، وخصوصاً تراجع الانتشارية مع تنامي فترة اليقظة وتغير الاتصال الوظيفي بعد الحرمان من النوم. ولكن لم يتضح بعد كيف تعكس هذه المرونة عواقب اليقظة في الدماغ. من المعروف أن النوم ضروري لإصلاح الأنسجة، وهو بالغ الأهمية لتعزيز التكامل الدهني بغية الحفاظ على صحة أغشية الخلايا وتكوّن الميالين. ولكن يبقى السؤال: كم مؤذية عملية إعادة التنظيم البنيوية هذه الناتجة من الحرمان من النوم؟ وهل المرونة المذكورة هنا وفي تقارير أخرى تستمر لأيام، أسابيع أو أكثر، أم أن ليلة نوم طويلة كافية لتعيد ملء مخزون النوم والتعويض عن أي تغييرات سببها السهر طوال الليل؟

يذكر المشرف على البحث الدكتور توربيورن إلفساشاغن: {تقوم فرضيتي على أن التأثيرات المفترضة في البنية الصغرية للمادة البيضاء الناتجة من الحرمان من النوم لليلة واحدة قصيرة الأمد وتختفي بعد بضع ليالٍ من النوم الطبيعي. ولكن قد يفترض البعض أن نقص النوم المزمن قد يؤدي إلى تبدلات تدوم أطول في بنية الدماغ. وتتلاءم هذه الفكرة مع الأدلة التي توصل إليها العلماء بربط اضطرابات النوم بتراجع الكثافة القشرية الموضعية التي تتجلى لدى مرضى متلازمة انقطاع النفس الانسدادي أثناء النوم، الاضطراب السلوكي لنوم حركة العين السريعة المجهول السبب، والإعاقة المعرفية الخفيفة، فضلاً عن البالغين الذين يعيشون في مجتمعات كبيرة. ولكن ما زال علينا التأكد مما إذا كان نقص النوم المزمن يؤدي إلى تغييرات أطول في بنية المادة البيضاء}.

هل الأرق الملوم؟

تساهم عوامل عدة على الأرجح في هذه الأنماط المختلفة من التغيير في الأنسجة العصبية. بعد الحرمان من النوم، يرتبط مدى تراجع الانتشارية المحورية بمعدلات النعاس الخاص بالفرد، ما يشير إلى أن التبدلات البنيوية الصغرية قد تُعزى إلى تبدلات في اليقظة أو التنبه. ويتلاءم هذا الاحتمال مع اكتشاف أن التغييرات تحدث في المهاد وجذع الدماغ على حد سواء، علماً أن هاتين المنطقتين تؤديان دوراً مهماً في اليقظة والتنبه. لكن التغييرات اللاخطية في تباين الخواص التجزيئي يُظهر أن بعض التبدلات الصغرية قد يكون أقل ارتباطاً بالشعور بالنعاس منه بالتأثيرات اليوماوية. فيرتفع تباين الخواض التجزيئي نحو نهاية النهار، إلا أنه يعاود الانخفاض (رغم التعب) بعد الحرمان من النوم إلى المعدلات عينها كما في اليوم السابق. وربما يعود هذا الارتفاع إلى تراجع بلوغ معدلات الانتشارية المحورية والانتشارية الشعاعية التوازن (لا ننسى أن تباين الخواص التجزيئي هو معدل الانتشارية الشعاعية إلى الانتشارية المحورية) أو إلى خصائص عصبية تشهد تقلبات في نظمنا اليوماوية مستقلاً نسبياً عن عادات نومنا. علاوة على ذلك، اكتشفت دراسات أخرى أن النشاطات التي تُعتبر يومية، مثل الركض أو التعلم المكاني، تشمل أيضاً تبدلات في المادتين الرمادية والبيضاء في غضون ساعات أو ربما أكثر، بما أن نشاطات لم تُدرس بعد تسبب أيضاً مرونة سريعة مماثلة. ونظراً إلى أن المشاركين حظوا بحرية القيام بالنشاطات المعرفية والجسدية التي يريدونها بين عمليات المسح، من المنطقي الافتراض أن عدداً من أنماط السلوك هذه ربما أثَّر في بنية الدماغ. ولكن بغض النظر عن الآلية، تشدد هذه التأثيرات على أهمية أخذ الفترة من النهار في الاعتبار في دراسات التصوير العصبي البنيوي.

يستفيض الدكتور إلفساشاغن في توضيح هذه العوامل المحتملة: {ما زال علينا أن نوضح الركيزة العصبية الحيوية المحددة للتغييرات الظاهرة في تصوير الموتر الانتشاري بعد الاستيقاظ. فلا يمكننا أن نستبعد احتمال أن تساهم العمليات المرتبطة بالنشاطات أو المستقلة عنها كلتاهما في تغييرات تصوير الموتر الانتشاري بعد الاستيقاظ. ودعماً لتبدلات المادة البيضاء المحتملة التي ترتبط بالنشاطات، يتوافر دليل مثير للاهتمام من دراسات التلقيح في الأنبوب. يشير هذا الدليل إلى أن ساعات من النشاط الكهربائي قد تؤدي إلى تبدلات في تكوّن الميالين. وبغية الغوض أكثر في احتمال حدوث تغييرات في المادة البيضاء تعتمد على النشاطات، يستطيع العلماء التحقق مما إذا كانت المهام الجسدية والمعرفية تؤدي إلى تغييرات في المادة البيضاء خاصة بكل مهمة».

السهر رغم النعاس

من اللافت أن اثنين من المشاركين الأحد والعشرين لم يختبروا الارتفاع عينه في تباين الخواص التجزيئي خلال اليوم كما الآخرين، وعانوا التبدلات الأصغر في الانتشارية المحورية والانتشارية الشعاعية بعد الحرمان من النوم. صحيح أن العلماء توقعوا متغيرات بين الأفراد من حيث بنية الدماغ أو ردود الفعل البيولوجية تجاه البيئة، إلا أن الثبات اللافت في اكتشافات الدراسة الأخرى يزيد احتمال العثور على عوامل أخرى توضح هاتين الحالتين الشاذتين. يقول الدكتور إلفساشاغن: {كان هذان المشاركان أيضاً الأقل شعوراً بالتعب بعد الحرمان من النوم. وقد يكون أحد تفسيرات لهذه التغييرات الأقل لدى هذين المشاركين (وإن كان يعتمد إلى حد كبير على التخمينات) نوعاً من المقاومة لتأثيرات اليقظة والحرمان من النوم}. لذلك، من الممكن للمتابعة بإجراء المزيد من المسوح وبمراقبة النشاطات عن كثب أن تساهم في تحديد بدقة أكبر كيفية تبدل أنماط التغيير في بنية الدماغ الصغرية بين فترات اليقظة وباختلاف الأشخاص.

ربط الانتشارية بالخلايا العصبية

ما زال على العلماء أن يحددوا تأثير النوم، التعب، النشاط، والنظم اليوماوية في خصائص بنيوية خلوية عصبية معينة في الدماغ. ولكن يسود الاعتقاد أن الانتشارية الشعاعية والمحورية تعتمدان على الميالين وتكامل المحور العصبي على التوالي. لكن قياسات تصوير التوتر الانتشاري تتأثر بخصائص نسيجية أخرى أيضاً، بما فيها نفاذية أغشية الخلايا، قطر المحور العصبي، تروية الأنسجة الدموية، وعمليات الخلايا الدبقية. وبما أن من الصعب تصوير هذه الخصائص لدى الإنسان الحي، تساهم المعلومات التي نستمدها من دراسات الحيوانات في تحديد كيفية تأثير اليقظة في بعض الخصائص العصبية المحددة.

نحتاج إلى دراسات طويلة الأمد للإجابة عن أسئلة مماثلة. لكن الدكتور إلفساشاغن أخبرنا أن فريقه نجح منذ ذلك الحين في محاكاة نتائجهم في عينة أكبر، وأنه يخطط لإجراء دراسة متابعة تتناول تأثيرات اليقظة والحرمان من النوم في بنية المادة الرمادية. وإلى أن نتمكن من الإجابة عن هذه الأسئلة المذهلة، اتبع جدول نوم منتظماً وتفادَ ماراتون إعداد التقارير في الصباح الباكر لأن هذا قد يكون خياراً أفضل لصحة دماغك.

back to top