ملالا يوسف زي... تعلمت الإلهام من والدها

نشر في 11-10-2015
آخر تحديث 11-10-2015 | 00:01
تتنقل بملابسها المطرزة بالبرتقالي، والأصفر، والذهبي. لا ترتدي أي خواتم أو تضع مساحيق تجميل. أما أظفار قدميها فمطلية بالوردي. لربما تعشق روجيه فيديرير، إلا أنها تخجل من التعبير عن ذلك. إنها حادة الذكاء، وذكرياتها واضحة. تقول إنها تتمنى ألا يتكرر ما حدث سابقاً. ومن خلال هذه الحكمة تدرك أن أصغر حائزة على جائزة نوبل للسلام أصبحت اليوم امرأة.
قبل رصاصة «طالبان» التي كادت تقتلها وشهرتها التي تلت، وُلدت ملالا يوسف زي في جبال باكستان، حيث دوّن والدها اسمها في شجرة عائلة لم تحمل طوال أجيال سوى أسماء الرجال. وقد شكل هذا عملاً جريئاً، كما لو أنه كان يعرف ما يخبئه المستقبل: طفلة جريحة تتحوَّل إلى صوت بليغ ينادي بحقوق الإنسان ويتحدى رؤساء، يقف في وجه متطرفين، ويسحر العالم.
تُروى هذه القصة في He Named Me Malala، فيلم وثائقي يكشف عن سنوات ملالا الباكرة في وادي سوات، تعرضها لإطلاق نار، تعافيها، ونفي عائلتها إلى إنلكترا، حيث تدير صندوقاً لتمكين الفتيات عبر التعليم.

 يشكل فيلم شركة Fox Searchlight بعنوان He Named Me Malala، الذي أخرجه ديفيد غوغنهايم الحائز جائزة أوسكار، رواية تجمع الطابع الخيالي مع نهوض فتاة من عتمة الريف الباكستاني لتنصح الرئيس باراك أوباما بإرسال الأقلام والكتب، لا الطائرات من دون طيار، إلى باكستان.

تقول ملالا، التي منحت جائزة نوبل للسلام حين كانت في السابعة عشرة من عمرها: {من الصعب أن تشاهد فيلماً عن حياتك. أشعر ببعض الإحراج عندما أجلس هناك وأرى نفسي وأنا أتكلم وأنظر إلى نفسي على الشاشة}.

يركز الفيلم على علاقة ملالا بوالدها ضياء الدين، مدرّس وناشط في مجال التعليم في شمال غرب باكستان، حيث منعت التقاليد وحركة طالبان الكثير من الفتيات من الذهاب إلى المدرسة. لكن إلهام الأب تحول إلى طموح ابنته، فتاة موهوبة بالفطرة تتكلم بأسلوب ساحر وقناعة كبيرة ونشرت على شبكة الإنترنت مذكرات عن الحياة في ظل التطرف.

يوضح ضياء الدين: {أصبحنا نعتمد أحدنا على الآخر، كما لو أننا روح واحدة في جسدين}.

تحمل ملالا، التي تعرضت لإطلاق نار في الرأس أثناء اعتداء عام 2012، اسم بطلة من القرن التاسع عشر في التراث القبلي. وتؤكد أنها معجبة كثيراً بأبيها، إلا أنه لا يؤثر في قراراتها. تقول في الفيلم: {اخترت أنا هذه الحياة وعلي المضي قدماً فيها}. وفي إحدى المقابلات، يذكر ضياء الدين، الذي هُدد بالاغتيال لدعمه الحقيقي للمرأة: {كانت قائدة عظيمة تعيش في منزلي ولم أردعها}.

عندما يتواجد الأب والابنة معاً، يتفاعلان كمتآمرين، فيطلقان الدعابات والتعليقات الجانبية الذكية، كما لو أنهما يتخاطبان بلغة يفهمانها هما وحدهما. ولا شك في أن هذا الإخلاص يحصنهما ضد الأعداء في زمن يتوسع فيه التطرف الإسلامي. ما زال من غير الآمن أن تعود العائلة إلى وادي سوات. فثمانية من الرجال العشرة الذين أدينوا بتهمة الاعتداء عليها نجحوا في نقض الحكم الصادر ضدهم وباتوا اليوم أحراراً. صحيح أن غالبية الباكستانيين يكنون لها الاحترام، إلا أن منظمة تعليمية انتقدت مذكراتها I Am Malala (أنا ملالا) واعتبرتها مناهضة للإسلام ونعتتها بعميلة الغرب.

أعلنت ملالا في مقابلة في سانتا مونيكا، حيث كانت منهمكة مع ضياء الدين بطلبات الترويج للفيلم، بما فيها تنظيم ظهورها في المهرجانات وسط ضغط سياسي لا تألفه استوديوهات هوليوود: {أحارب ضد عقيدة تعيق حقوق المرأة وتنكرها. لن تزول الانتقادات إن كنت تفكر في السياسة أو إحداث التغيير في بلدك. لكن لا آبه لما يقوله الناس. سأمضي قدماً في مهمتي التي تهدف إلى حصول كل طفل على تعليم عالي الجودة}.

تدخل الغرفة مع نسمة خفيفة من الهواء. من تحت حجابها يطل شعرها الأسود وترفرف يداها كما لو أنهما جناحان عندما تتكلم. تمتاز كلماتها بدقة وتتدفق بتيارات، حاشدة قوة هائلة. فهي ترغب ذات يوم في أن تقود بلدها {بمحبة تمنحها أم لولدها}. وتعلو ابتسامة خجولة ثغرها عندما تنطق بأمور مماثلة. ورغم براعتها على المسرح العالمي، لا تزال تحمل حقيبة الكتب، تواجه صعوبة في الفيزياء، ولم تتخطَ بعد سن المراهقة بالكامل.

ملالا صغيرة القد، تصغي بتأنٍّ وتفهم ميول الأمم بمهارة سياسي بارع.

تقول: {إن واصلنا تجاهلنا سورية، العراق، باكستان، وأفغانستان، فلن يصبح هذا العالم أفضل}. وعند سؤالها عن الدور الذي قد تضطلع به الولايات المتحدة والقوى الغربية في وقف هذه الصراعات، تضيف: {تُنفق أموال طائلة على الحلول العسكرية. لكنني لا أؤيد إنفاق المال على الأسلحة لأنني تعرضت لهجوم بسلاح. ولست الوحيدة التي واجهت اعتداء مماثلاً، بل يعاني مئات الآلاف من الناس}.

أما عن الأولاد الذين يضيعون بسبب التطرف، فتذكر: {عندما ترى أولاداً يصبحون انتحاريين، تدرك أنهم لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يتوافر لهم أي سبيل آخر لجني المال. لا يملك هؤلاء أي حلم. لا يحلمون بأن يصبحوا أطباء أو مدرّسين أو أي أمر يريدونه، ومن ثم يفكرون: لنحمل السلاح وأنا أخدم ديني. من السهل غسل أدمغتهم}.

خرب الفقر والفساد حياة الملايين في وطنها. تذكر: {في باكستان ما من قادة نزيهين. لذلك يصعب على الشعب الباكستاني الوثوق بأحد}.

لا يمكنك التغاضي عن شخصيتها وحضورها القويين. ومن الصعب تخيل ممثلة من هوليوود تؤدي دور ملالا، احتمال دفع منتجي الفيلم المخضرمين في عالم السينما والتر باركس ولوري ماكدونالد إلى إنتاج فيلم وثائقي بدل فيلم سينمائي عن قصة حياتها. يشكل هذا الوثائقي لمحة عن عالمها الخاص: اللعب بمرح مع أخويها، صراع والدتها للتكيف مع الحياة في بريطانيا، مشاهد من عملية إعادة التأهيل الجسدية التي خاضتها بعد تعرضها لإطلاق التار، رحلاتها الإنسانية إلى الأردن ونيجيريا، وصداقتها الحرة والمنطلقة مع والدها.

يقول غوغنهايم، الذي فاز بجائزة أوسكار عن فيلم الوثائقي البيئي Inconvenient Truth عام 2006: {ما الرابط الذي يجمع الأب بابنته؟ ما الذي أدى إلى بروز هذه الابنة المميزة؟ بصفتي أباً اليوم، أود أن أعرف الجواب}. ويتابع المخرج مشيراً إلى أنه ركز على هذه العلاقة ليمنح بعداً إنسانياً للسياسات المعقدة في المنطقة. ويضيف: {كان علي العثور على طريقة أخرى لأسرد تفاصيل هذه القصة}.

أدار ضياء الدين بشاربيه الكثيفين ونظراته السريعة، بعد أن تغلب على تلعثمه، مدرسة وأثار استياء طالبان بدعوته لتعليم الفتيات. اشتهر في مختلف أرجاء وادي سوات وتعرض غالباً للتهديد. فألهم نشاطه هذا ابنته، التي قدمت النصائح لرجال القبائل في مطلع مراهقتها عن الحقوق المدنية وتحولت إلى تجسيد لرؤية والدها ومصدر جذب بارز لوسائل الإعلام الدولية.

الشجاعة والمخاوف

يتناول He Named Me Malala الشجاعة والمخاوف، معيداً أحياناً تمثيل بعض المشاهد بالاعتماد على الأنيمايشن، فيما تحدى الأب وابنته طالبان، ففجر المتطرفون المدارس وقتلوا الأصدقاء. لكن قليلين ظنوا أنهم قد يستهدفون فتاة صغيرة. اعتقدت العائلة أن ضياء الدين، الذي انتقد أساس هذا المجتمع الذكوري، الأكثر عرضة للخطر. ولكن في 9 أكتوبر عام 2012، رصد قاتل مسلح ملالا على متن حافلة وأطلق عليها بضع رصاصات، فأصابت إحداها الجانب الأيسر من جبينها.

يخبر ضياء الدين: {بكينا أنا وزوجتي طوال الليل. أخبرني الأطباء أنها قد تنجو، إلا أنها قد لا تعود إلى سابق عهدها}.

لا يزال خدها الأيسر متصلباً بسبب الرصاصة، ويسيطر على وجهها أحياناً جمود أشبه بجمود لوحة. تؤكد ملالا أنها هي، لا والدها، مَن اختار الروح الناشطة التي رافقت اسمها: {أعطاني والدي الاسم ملالا، إلا أنه لم يجعلني ملالا}.

لِمَ لا تصبح المرأة قائدة؟

أرادت أن تصبح طبيبة، إلا أن هذا مع الكثير من التفاصيل الأخرى، تبدل في السنوات الأخيرة. تذكر في إحدى المقابلات، مشيرة إلى أنها معجبة برئيسة وزراء باكستان السابقة بينظير بوتو، التي اغتيلت عام 2007: {لمَ لا تستطيع المرأة العمل في مجال السياسة؟ لمَ لا يمكنها أن تصبح قائدة؟ أريد أن أصبح رئيسة وزراء بلادي وأجعل وطني أفضل}.

تبقى ملالا على اتصال مع صديقاتها في باكستان وتحضّهن على البقاء في المدرسة، رغم الضغوط العائلية للزواج وإنجاب الأولاد. تقول إن {من المحزن} أن يتركن المدرسة. تدرس ملالا حالياً التاريخ والاقتصاد وستذهب قريباً إلى الجامعة. وعندما تتسنى لها بضع لحظات هادئة وسط معمعمة أسفارها ومتطلبات حياتها، تطالع كتاباً. ويبقى {الخيميائي} لبابلو كويلو المفضل لديها.

تذكر: {تشكل القراءة وسيلة جيدة للخروج من حياتك ودخول قصة حياة أخرى. أعيش تلك القصة في الكتاب وأشعر بجزء منها}. تتوقف قليلاً عن الكلام ثم تتابع متحدثة عن الجبال والحقول في وادي سوات، عن السماء والغبار، عن ذلك الجزء منها الذي زال. لكنها تشدد على أن المستقبل لا يُبنى بالإفراط في التفكير في المستقبل. إلا أن الفتاة التي كبرت وأصبحت امرأة في المنفى تحمل ذكريات مكان بعيد.

تقول ملالا: {أذكر خصوصاً حين ذهبنا في رحلة مدرسية وكنت مع صديقاتي. كان أبي يقدم محاضرة للفتيات وهو واقف على صخرة كبيرة. فذهبت أنا وصديقاتي وبدأنا ننشد الأغاني. أذكر تلك اللحظة جيداً وأحبها كثيراً. فالعيش في تلك الجنة هو النعيم بحد ذاته}.

back to top