ملعون دوستويفسكي

نشر في 10-10-2015
آخر تحديث 10-10-2015 | 00:01
No Image Caption
ما كاد الرسول يرفع الفأس ليهوي بها على رأس السيّدة العجوز حتى خطرت على باله الجريمة والعقاب فصعقته. ارتجفت ذراعاه، واصطكّت ركبتاه، وأفلتت الفأس من يديه، وهوت على جمجمة المرأة فشقتها وانغرزت فيها. تهاوت العجوز على السجّادة الحمراء والسوداء من دون أن تندّ عنها صرخة. تموّج غطاء رأسها المطبّع بزخارف من زهور شجرة التفاح في الهواء قبل أن يسقط على جسدها الرّخص والممتلئ. هزّتها التشنّجات. شهقت مرّةً، وربما اثنتين. شخصت عيناها المحملقتان في وجه رسول، الواقف في وسط الحجرة، منقطع الأنفاس، وأشدّ شحوباً من جثّة. اقشعرّ بدنه. سقطت شملته عن كتفيه الناتئتين. سرحت نظرته المرتاعة في فيض الدم؛ ذلك الذي كان ينحدر من جمجمة العجوز، ويمتزج بلون السجّادة الأحمر مغطياً تخاطيطها السود، ثم ينساب بطيئاً نحو يد المرأة البضّة القابضة بقوةٍ على رزمة من الأوراق المالية. لسوف تغدو النقود ملطّخةً بالدم.

تحرّك يا رسول، تحرّك!

شلل تامّ.

رسول؟

ماذا دهاه؟ فيمَ يفكّر؟

في الجريمة والعقاب. هذا ما فكّر فيه، راسكولنيكوف، في مصيره.

لكن قبل أن يقترف هذه الجريمة، حين عزم على تنفيذها، ألم يفكّر فيها أبداً؟

في الظاهر كلاّ.

أو لعلّ تلك الرواية، المدفونة في أعماقه، هي التي حرّضته على القتل.

أو لعلّ...

أو لعلّ... ماذا؟ أحقاً هذه هي اللحظة المؤاتية للتفكير في ما أقدم عليه؟ الآن وقد قتل العجوز، ما عليه إلاّ أن يأخذ مالها ومجوهراتها...

ويهرب.

اهربْ.

لم يتحرّك. ظلّ واقفاً، منتصباً على قدميه، مثل شجرة، شجرة ميّتة، مغروسة في البلاط، وما زالت نظرته تلاحظ خيط الدم الذي يوشك أن يبلغ يد المرأة. فليَنس المال! وليترك هذا المنزل، على وجه السرعة، قبل أن تصل أخت العجوز!

أخت العجوز. هذه المرأة ليس لها أخت. لها ابنة.

لا يهم، إن كانت أختها أو ابنتها، فهذا لن يغيّر في الأمر شيئاً؛ أياً يكن الداخل إلى المنزل في هذه الأثناء سيكون رسول مجبراً على قتله هو أيضاً.

انحرف الدم عن مساره قبل أن يبلغ يد المرأة، واتجه الآن نحو جزء بالٍ من السجّادة حيث شكّل مستنقعاً غير بعيد عن علبة صغيرة ملأى بالسلاسل، والعقود، والأساور الذهبية، والساعات...

ماذا تصنع بكل هذه التفاصيل؟ خذ العلبة والنقود!

قرفص. مدّ يداً متردّدة نحو المرأة لكي ينتزع منها النقود. كانت قبضتها قد غدت متصلّبة، حازمة، كما لو أنّ العجوز ما زالت حيّة وتمسك بقوة رزمة الأوراق المالية. حاول انتزاعها بإلحاح، دون جدوى. وفي غمرة اضطرابه وقع نظره على عيني المرأة التي بلا روح. ذكّرته عيناها الجاحظتان بأنّ الرؤية الأخيرة التي تحتفظ بها الضحية لقاتلها تبقى ماثلةً في بؤبؤيها.

اجتاحه الخوف. تراجع، وتراجعت معه صورته في حدقتي العجوز حتى توارت أجفانها.

{نانا عليا؟} رنّ صوت امرأة في المنزل. قضي الأمر، إنها هنا، تلك التي لا ينبغي لها أن تأتي. خاب سعيُك يا رسول!

{نانا عليا؟} من هذه؟ ابنتها؟ لا، هذا الصوت ليس فتيًّا. لا يهمّ. لا ينبغي لأحد أن يدخل هذه الغرفة.

{نانا عليا؟} اقترب الصوت، {نانا عليا؟} ارتقى الدرج.

اذهب يا رسول!

انطلق كقشّة في مهبّ الريح نحو النافذة ففتحها وقفز إلى سطح المنزل المجاور، تاركاً وراءه العباءة، والمال، والمجوهرات، والفأس... وكلّ شيء.

عندما وصل إلى حافة السطح تردّد في القفز إلى الزقاق. غير أنّ الصرخة المروّعة التي انطلقت مدويّةً من غرفة نانا عليا زعزعت ساقيه، والسطح، والجبل... وثب صادماً الأرض بعنف. اخترق ألمٌ ممضٌّ عرقوبه. لم يوله اهتماماً. يجب أن ينهض. الزقاق خالٍ.

يجب أن يلوذ بالفرار.

ركض.

ركض من دون أن يعرف إلى أين يمضي.

ولم يتوقف إلا وسط كومة من النفايات، في دربٍ مسدود حيث النتانة تؤذي الأنوف. غير أنه ما عاد يشمّ شيئاً، أو لا يأبه بذلك. بقي هناك، واقفاً، مستنداً إلى جدار. ما زال يسمع صوت المرأة الصارخ. حبس أنفاسه. فجأةً، خلا الزقاق، أو خلا رأسه، من الصراخ. ابتعد عن الجدار استعداداً للانطلاق، غير أن ألم عرقوبه أفقده القدرة على الحركة. تلوّى وجهه. استند إلى الجدار مجدداً. قرفص كي يدلّك قدمه، لكنّ شيئاً في داخله يغلي. اعتراه غثيان، فمال قليلاً إلى الأمام ليتقيّأ سائلاً مصفرّاً. دار به الزقاق بكلّ نفاياته. أحاط رأسه بكفّيه، وألصق ظهره بالجدار، وانزلق أرضاً.

بقي وقتاً طويلاً مغمض العينين، جامداً، معلّق الأنفاس، وكأنّه يصغي إلى صرخة، أو شكوى تأتي من قبل منزل نانا عليا. لا شيء. لا شيء سوى نبض الدم في صدغيه.

ربّما غُشي على المرأة لدى اكتشافها الجثة. كلاّ، على ما يرجو. من كانت تلك المرأة، تلك الشيطانة التي أفسدت كلّ شيء؟ أكانت هي حقاً أم... دوستويفسكي؟

دوستويفسكي، نعم، إنه هو! هو الذي صعقني بـ جريمته والعقاب، وأصابني بالشلل. منعني من اتّباع مصير بطله، وراسكولنيكوف: أن أقتل امرأةً ثانية- بريئة هذه المرّة؛ وأن أستولي على النقود والمجوهرات التي كان من شأنها أن تذكّرني بجريمتي... وأن أصبح ضحية ندمي، وأتردّى في هاوية الشعور بالذنب، وأنتهى في سجن الأشغال الشاقّة...

وماذا بعد؟ لكان ذلك أفضل من أن أهرب مثل غبيٍّ مسكين، ومجرم أحمق، يداه ملوّثتان بالدم، وجيوبه خاوية.

يا لها من عبثيّة!

ملعونٌ هو دوستويفسكي!

أحاطت يداه المتوتّرتان بوجهه، ثم اندسّتا في ثنايا شعره الجعد لتلتقيا خلف رقبته المبتلّة بالعرق. فجأةً اخترقته فكرة معذّبة: إن لم تكن المرأة ابنة نانا عليا يمكنها أن تنهب كلّ ما هنالك وتغادر المكان بهدوء. وماذا عنّي؟ أمّي، وأختي دنيا، وخطيبتي صوفيا، إلام تؤول أحوالهن؟ من أجلهنّ افترفت هذه الجريمة، ولا يحق لتلك المرأة أن تستفيد منها. يجب أن أعود إلى هناك. تباً لعرقوبي!

نهض.

عاد أدراجه.

العودة إلى مكان الجريمة يا له من فخّ! تعلّم مثل سائر الناس أن العودة إلى أماكن الجريمة خطأ قاتل. خطأ تسبّب في هلاك كثير من مهرة المجرمين. أولم تسمع بقول قدامى الحكماء:  {المال مثل الماء، متى ذهب لا يرجع أبداً}؟ انتهي كل شيء، ولا تنسَ أبداً أن ليس للجاني إلا فرصة واحدة في قضية؛ إن فوّتها خسر كل شيء، وأي محاولة لتدارك الأمر تردّ شؤماً عليه، لا محالة.

توقف وألقى نظرة حواليه. كان كل شيء هادئاً وساكناً.

بعد أن دلّك عرقوبه مضى في سبيله، غير مقتنع بقول الحكماء. مشى بخطى واثقة وسريعة حتى بلغ تقاطع شارعين. توقف مرة أخرى لفترة وجيزة ريثما يلتقط أنفاسه قبل أن يسلك الشارع المؤدي إلى مكان الجريمة.

فلنأمل أن تكون المرأة مغشياً عليها حقاً قرب جثة العجوز.

هوذا الآن في شارع ضحيته، وقد فوجئ بالصمت المطبق على المنزل فأبطأ خطاه. كان ثمة كلبٌ مُسترخ في ظل جدار فلمّا رأه نهض متناقلاً وأخذ ينبح نباحاً واهناً. 

back to top