نهضة الثقاقة الفكرية الفرنسية وانهيارها

نشر في 09-10-2015
آخر تحديث 09-10-2015 | 00:01
No Image Caption
لا نفسد عليك المتعة إن أشرنا منذ البداية إلى أن الجزء الأكبر من الحماسة والرومانسية في How the French Think: An Affectionate Portrait of an Intellectual People (كيف يفكر الفرنسيون: صورة مؤثرة عن شعب مثقف)، تاريخ سودير هازاريسينغ الفكري والثقافي الموسوعي الجديد عن فرنسا، صار جزءاً من الماضي. فحتى بالنسبة إلى شخص محب للثقاقة الفرنسية، يصعب الانغماس في جو كئيب انهزامي لمجرد التفكير في خسارة أمة عظيمة شعبيتها الثقافية في السنوات الأخيرة. فلا نرى اليوم رجل دولة قادراً على تحفيز الشعب الفرنسي (فكم بالأحرى الشعوب الأخرى بقدر شارل ديغول، أو مفكراً حقيقياً يتحلى بشهرة عالمية وثقل أخلاقي بقدر جون بول سارتر. أما فنان مميز مثل مارسيل دوشامب، فقد بات مستحيلاً. لا شك في أن معظم القراء الإنكليز لم يسمعوا بعد ببتريك موديانو، الذي حاز السنة الماضية جائزة نوبل للآداب. فقد اقتصرت الأعمال الأدبية التي تُرجمت وصدرتها فرنسا في العقدين الماضيين على ميشيل هويلبيك، الذي قد يكون آخر رجال الأدب الفرنسيين البارزين، علماً أنه يتجول منذ سنة تقريباً في العلن من دون أسنانه.

ولد هازاريسينغ في جزر موريشيوس، حصل على منحة في العلوم السياسية في جامعة أكسفورد، وهو يوزع وقته بين إنكلترا وفرنسا. يسجل هذا الكاتب اللحظات المميزة الأخيرة من العظمة الفرنسية وهي تتنقل لاوعية على المسرح العالمي في خطاب وزير الخارجية السابق الأرستقراطي دومينيك دوفيلبان في شهر فبراير عام 2003 أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة عشية غزو العراق. فقد أعلن دوفيلبان، الذي يكتب الشعر في أوقات فراغه: {نحن حراس مثال أعلى، حراس الضمير. يجب أن تدفعنا المسؤولية الكبيرة والشرف العظيم اللذان نحظى بهما إلى إعطاء الأولوية لنزع السلاح سلمياً}. يعتبر هازاريسينغ أن هذا الخطاب الرفيع، الذي {لاقى ترحيباً واسعاً حول العالم}، يعكس أيضاً {طابعاً ذكورياً مغرياً وحماسة خطابية... ميلاً إلى التحليل والمنطق... إحساساً بالتعبير عن حكمة قديمة ترتكز على قرون من التجارب التاريخية المؤلمة عادةً، وتفاؤلاً أكيداً يستندا إلى إيمان بسمو فرنسا الثقافي} هو غالٍ بكل تأكيد.

يعود ذلك إلى أن {الثقافة الفرنسية تتمتع بوحدة أساسية تتجلى من خلال إعادة إنتاج بعض الافتراضات الأساسية وأنماط التفكير على مدى أجيال}، حسبما يذكر. ولا شك في أن الشخصية الأبرز في هذا المجال فيلسوف القرن السابع عشر ديكارت، {رمز المنطق الجمهوري}، الذي يتغلغل مساره الاستنتاجي نحو ثنائية ماورائية ({أنا أفكر، إذاً أنا موجود}) بطرق خفية وواضحة في طريقة التفكير الجماعية اليوم. نعثر في ديكارت على عادات الفكر الفرنسية النمطية كافة: الميل إلى التخمين بدل التجربة، حب المتناقضات، حركة من الخاص إلى العام، والأهم من ذلك كله، {هوس تقسيم كل المسائل إلى اثنين}. ولا ضرر أيضاً في أن هذا الفيلسوف تمتع بمقدار من الجاذب في غرفة النوم: فقد اشتهر بأنه {عشيق ملكة}.

مقالات

يضم How the French Think سلسلة من المقالات المدروسة بعمق تعكس عموماً من خلال الحوادث والإفكار الأساسية التقدم الزمني من القرن العظيم (نحو الفترة التي حكم فيها الملك لويس الرابع عشر) وصولاً إلى انتصارات الثورة والتنوير. تتناول هذه المقالات أيضاً الإنجازات الفكرية والثقافية لسنوات ما بعد الحرب في منتصف القرن العشرين ومرحلة الاستعمار وصولاً إلى جان مونيه وتأسيس الاتحاد الأوروبي، ليبلغ بعد ذلك الذروة مع التفافة محزنة تخشى الغرباء في عصرنا الحالي.

تُعتبر المرحلة الأخيرة مميزة لأنها تضم مجموعة من القادة الوطنيين الباهتين من مختلف الفئات السياسية والكتّاب الصغار الذين لا يحظون بشهرة واسعة في الخارج، أمثال إريك زيمور وألان فنكيالكروت. يشبه هذان معدي كتيبات أو رجعيين يغاليان في ذلك ويحاولان في أفضل الأحوال تقليد وليام ف. باكلي الابن. فيقفان قبالة التاريخ عبثاً ويصيحان {قفوا}، معربين في الوقت عينه عن حنين إلى أمجاد الماضي وقلق حول غزوات مزدوجة لثقافة عالمية تقوم حول اللغة الإنكليزية وتفكك إثني داخلي بسبب هجرة المسلمين. وعندما نشهد اليوم عملاً مبتكراً متميزاً بحق (كما في حالة النجاح الكبير والمفاجئ الذي حققه توماس بيكيتي مع Capital in the 21st Century)، يكون عادةً في مجال تقني ضيق نسبياً، مثل الاقتصاد.

أسباب التراجع

أما عن السؤال بشأن أسباب هذا التراجع الحاد، فلا يقدم هازاريسينغ جواباً شاملاً، إلا أنه يتناول مجموعة واسعة من العوامل المساهمة. ولعل الأبرز بين هذه العوامل الاعتداء المدمر على الفخر الوطني الذي أنزله الألمان بالفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية، علماً أن الأميركيين في سعيهم إلى مساعدة الفرنسيين ساهموا في تفاقم هذا الوضع. يكتب هازاريسينغ: {كان خوف ديغول الأكبر الذي خصص حياته لتبديده تقويض مصير الأمة الفرنسية التاريخي}. ويشكل ذلك أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت هذا الرجل العظيم إلى الإقرار أنه يفضل {الأكاذيب التي ترفع المعنويات على الحقائق المحطمة}. ولكن بحلول ثمانينيات القرن الماضي، كانت هذه الحقائق تبرز بوضوح مع تبدد أخيراً أسطورة أن الفرنسيين يشكلون {أمة مقاومين}، وحوكم أعضاء من نظام فيشي لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، مع أن انتشار التعاطف مع فيشي بين الشخصيات العامة (من الرئيس ميتران إلى كوكو شانيل) بدا واضحاً.

في الوقت عينه، وسم تأصل اليسار العقائدي في فرنسا ثم انهيار الشيوعية في أوروبا نهاية دورة طويلة من التفاؤل التاريخي بدأت في عشرينيات القرن التاسع عشر (حلم حمله على التوالي رسل تقدميون، معلمون جمهوريون، خبراء ماركسيون}). وفي الأكاديمية، مع تفوق النظريات ({البنيوية} و{ما بعد البنيوية} لمفكرين عدة أمثال ليفي ستراوس، بارث، لاكان، وفوكو وأخيراً {النزعة التفكيكية} لديريدا)، استنفد الفكر الفلسفي الفرنسي ذاته في الداخل وخرب المؤسسات الأدبية في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وخصوصاً الولايات المتحدة.

إن بدا بعض هذه التفاصيل جافاً بالنسبة إلى البعض، يقدّم لنا هازاريسينغ هدية بتحويل أكوام من المعلومات إلى شرح شامل واضح. يشكل هذا في المقام الأول كتاباً ممتعاً يلتزم بعنوانه وينجح حقاً في استعادة كل الحشو والمعلومات التي لا داعي لها. كذلك يحمل مسحة من الفكاهة، من مقاطع عن اعتماد ميتران على علم لنيل التوجيه في القرارات الجيو- سياسية المهمة (منها توقيع معاهدة ماستريخت) إلى تكريم الفيلسوف الفرنسي إيف روكوت شطيرة اللحم والقهوة اللتين تقدمان له، معتبراً إياهما صورة مصغرة عن الحرية، المساواة، والأخوة. ويحظى هازاريسينغ أيضاً بفرصة طرح نظريات الخاصة أيضاً: {تُعتبر فرنسا من الدول القليلة في العالم (إلى جانب كوريا الشمالية على الأرجح) حيث يمكنك أن تنشر كتاباً قصيراً بعنوان ‘علينا أن نحب الدولة’}.

كتّاب كبار

في الختام، يشكل التاريخ الفكري الفرنسي مجموعة محيرة من الثروات. فاللحظات، الشخصيات، والأفكار المهمة كثيرة جداً، حتى إنك لا تعلم ما عليك أن تختار منها. رغم ذلك، من المؤسف أن الكتّاب العظماء بمكانتهم وتأثيرهم أمثال مونتانيو وكامو لا يحظون بالاهتمام الكافي، في حين أن المبدعين المتميزين الغرباء الطبع، مثل فرانسواز ساغان وبوريس فيان، لا يُذكرون البتة. بغض النظر عن ذلك، نخرج من ذلك كله بإحساس قوي أن الفرنسيين، مهما كانت الطريقة التي يتبعونها، يفكرون بطريقة مختلفة عنا. ولا شك في أن هذه ميزة نحبها فيهم.

back to top