ملّاك الحقيقة المطلقة

نشر في 05-10-2015
آخر تحديث 05-10-2015 | 00:01
«تملك الحقيقة الكاملة» مفهوم يهيمن على أذهان قطاعات من الجماهير والنخب والتنظيمات السياسية وبخاصة «العقائدية»، وهو ليس وليد الأوضاع المعاصرة، بل قديم قدم التاريخ الإسلامي، ومهمة الكتاب والمثقفين العمل على تفكيك هذا المفهوم لدى هذه الأذهان المريضة.
 د. عبدالحميد الأنصاري ما تعانيه مجتمعاتنا من ظواهر التطرف والعنف وكراهية الآخر، وما تشكو منه أنظمتنا السياسية من صراعات سياسية مع تنظيمات عقائدية وميليشيات مسلحة تنازعها السلطة والشرعية، وما تتعرض له الأقليات الدينية من تمييز وذبح وتهجير، مرده الأساسي ذهنية "تملك الحقيقة الكاملة" المهيمنة على قطاعات من الجماهير والنخب والتنظيمات السياسية وبخاصة "العقائدية" دينية أو قومية أو يسارية، وهي ذهنية ليست وليدة الأوضاع المعاصرة، بل هي قديمة قدم التاريخ الإسلامي، كان ادعاء "تملك الحقيقة" هو السمة الغالبة على كل الفرق الإسلامية في منازعاتها المذهبية والعقدية حول: من هي "الفرقة الناجية"، في حديث منسوب إلى الرسول صَلى الله عليه وسلم، بأنها وحدها التي تدخل الجنة، دون غيرها من الفرق الإسلامية!

وهو حديث مشكوك في صحته ومطعون في سنده ومتنه، إلا أنه كان المرتكز الأساسي في إنتاج "العقلية الاحتكارية" للدين والمذهب، والتي جعلت كل فرقة تدعي أنها على "الحق المطلق" وغيرها على باطل، وأدى ذلك إلى سيادة ثقافة مجتمعية ترى أن "العقيدة الصحيحة" واحدة، أصحابها يحتكرون الجنة دون بقية الفرق التي هي "ضالة" أو "منحرفة" وكانت هذه العقيدة، وراء معظم صراعات ومآسي الفرق الإسلامية تجاه بعضها في الماضي، وهي نفسها، وراء صراعاتها، اليوم، كما كانت هذه العقيدة، الركيزة الأساسية في انتشار وترسيخ كراهية الآخر المختلف ديناً أو مذهباً أو قومية، وإقصائه وممارسة التمييز والتهميش ضده، وحرمانه من حقوقه السياسية، بل الدينية المتمثلة بإقامة مكان للعبادة، ولا أدل من الزوبعة التي أثيرت حول المعبد الهندوسي في دولة الإمارات!

وقد ساعد على ترسيخ "ثقافة الإقصاء" السياسي والديني والمذهبي، أن السلطات السياسية- في ظل الخلافة الإسلامية- كانت تتبنى تلك العقيدة، رسمياً، وتمارسها فعلياً عبر تهميش الآخر المغاير ورفضه.

وكانت من الإفرازات السلبية الممتدة إلينا، لتبني تلك العقيدة، أن الثقافة المجتمعية أصبحت تضيق بكل أشكال النقد والمراجعة والاعتراف بالأخطاء والاعتذار، فنحن الأمة الوحيدة التي لا تزال لا تعترف بأخطائها تجاه الشعوب الأخرى، في الوقت الذي نطالب الآخر بالاعتذار عن أخطائه تجاهنا!

في تعليمنا العام، ندرس طلابنا "الخلاف لا يفسد للود قضية"، وفي الواقع المعيش يفسده ويجلب العداوة، ونعلم ناشئتنا المقولة المشهورة "الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، لكننا ما زلنا نبجل الرجال ونعرف الحق بهم! وفي تعليمنا الديني، يلقن الشيخ طلابه "اختلاف أمتي رحمة"، لكن خريجيه لا يتسامحون مع مخالف قط، وهم أسرع الناس إلى تكفيره وتخوينه واستباحة دمه، وعندنا في الساحة نماذج من الفتاوى المهدرة للدماء لا حصر لها، أصدرها مشايخ بارزون!

"خطاب الكراهية" الذي يحاصرنا ويدفع شبابنا للهلاك، بعض تجليات ذهنية "الحقيقة المطلقة"، ولن ينفعنا ترديد أسطوانة "المظالم" الغربية، فهذا العنف الضاري المستشري هو عنف أصيل مؤسس بنصوص وفتاوى دينية، وليس- كما يزعمون- ردة فعل على مظالم الداخل والخارج، هؤلاء ينطلقون من ذهنية احتكارية لا تعترف بنسبية الحقائق السياسية والاقتصادية والفكرية والمذهبية، ويهدفون إلى استعادة الخلافة الزائلة، وتطبيق شرع الله تعالى المغيب! وما فكرة الحاكمية التي ابتدعها المودودي إلا إحياء لشعار الخوارج "لا حكم إلا لله" تعالى، وثمرة هذه الذهنية الاحتكارية!

كيف نفكك هذه الذهنية؟!

إن مهمة الكتاب والمثقفين العمل على تفكيك هذه العقلية، عبر عدة محاور:

 1- الإيمان بأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة أو الصواب المطلق، لأنهما عند الله تعالى وحده ولا سبيل للبشر إليهما "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً"، ومعارف البشر مها تقدمت لن تخترق قيود "النسبية" معرفة أو علماً تطبيقياً.

 2- الإيمان بأن "اختلاف البشر" أدياناً، ولغات، وأجناساً، وألواناً، وعقولاً، وأفهاماً، ونفوساً، حقيقة إلهية ثابتة، لأن الكون خلق على قانون "الاختلاف"، ولأن البشر، خلقهم المولى تعالى من أجل الاختلاف، ولذلك خلقهم للتنافس البنّاء لإعمار الأرض وتقدم العلم والمعارف، وإن الحياة نفسها لا تقوم ولا تتجدد ولا تستمر إلا بقبول التعددية الدينية والفكرية والمذهبية والسياسية... إلخ، وإن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب البشر يوم القيامة، وهو الذي يحدد مصيرهم "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".

3- علينا تربية ناشئتنا وتثقيف جماهيرنا بقبول الآخر المختلف ديناً أو مذهباً أو جنساً أو رأياً، فالاختلاف نعمة ومزية وإثراء، وإذا كان القرآن الكريم قد قرر الاختلاف حقاً إنسانياً مقرراً، فلماذا نضيق به؟ ولماذا لا نتمثله في سلوكياتنا وعلاقاتنا وتنظيماتنا؟! يقول تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" وفي آية أخرى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".

 4 - وأخيراً، فإن منهج الإقصاء والتشكيك في عقائد الآخرين والزعم بأننا وحدنا أصحاب العقيدة الصحيحة، والآخرون على ضلال، منهج مرفوض عقلاً وشرعاً، وعلى المدارس الدينية وخطباء المساجد، الكفّ عن تدريس وترديد حديث "الفرقة الناحية" فأين هؤلاء من قول عمر بن عبدالعزيز- رضي الله تعالى عنه- ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحداً لعاش الناس في ضيق.

* كاتب قطري

back to top