تركيا... ازدهارها وانهيارها في عهد إردوغان

نشر في 04-10-2015 | 00:01
آخر تحديث 04-10-2015 | 00:01
لم يسبق أن نجحت أي دولة أخرى في القفز نحو المستقبل بهذه السرعة قبل أن تعود إلى ماضيها المظلم فجأةً بقدر تركيا. بعد تحقيق العصرنة، يشهد البلد الآن بداية حرب أهلية وهو يبدو منقسماً بسبب انتشار مشاعر انعدام الثقة والكره. هذا هو بلد رجب طيب إردوغان: عبارة عن مشهد جبلي مدهش يطلّ على البحر الأسود. وعلى التلال الخضراء الخصبة، يقطف الناس ورق الشاي ولا يوقفون العمل إلا للصلاة. يسمّيهم إردوغان {شعبه}، وبالنسبة إليهم هو من أنشأ مسجداً بأسلوب عثماني فوق واحدة من أعلى القمم. وأحب الأتراك رئيسهم كثيراً. صرخت عائشة أقصاي (40 عاماً): {أتمنى أن أقبّل يده!}. أقصاي هي من قرية غونيسو التي تقع عند سفح الجبل الذي تتحدر منه عائلة إردوغان. تشعر بالحماسة والسعادة عند الصلاة هناك، مع أنها لا تستطيع الصلاة إلا في غرفة خُصّصت للنساء وتخلو من النوافذ. أضافت أقصاي: {في يوم الافتتاح، شاهدتُ مروحية الرئيس وهي تحلّق فوق البلد. نحن فخورون جداً به}. يتقاسم كثيرون هناك مشاعر أقصاي. يعشقون إردوغان لأنهم يعتبرونه واحداً منهم، أي أنه رجل متديّن وبسيط وقد وصل إلى أعلى المراتب عبر العمل باجتهاد.

التفاصيل عرضتها {شبيغل}.

لو كانت بقية مناطق البلد تشبه غونيسو، لما وجد إردوغان، الذي حكم تركيا بشكل شبه أحادي طوال 13 سنة، صعوبة في تحقيق فوز ساحق جديد في انتخابات 7 يونيو. لكنّ سكان هذه المنطقة ليسوا الأتراك الوحيدين في البلد، لذا حصد {حزب العدالة والتنمية} الذي ينتمي إليه 40.9% فقط من الأصوات وخسر بذلك الأغلبية المطلقة. أدت هذه الهزيمة إلى تدمير حلم إردوغان بتحويل البلد إلى جمهورية رئاسية يترأسها هو شخصياً حتى عام 2019. وقد زاد الوضع سوءاً بالنسبة إليه مع وصول {حزب الشعوب الديمقراطي} إلى البرلمان، وهي المرة الأولى التي يتجاوز فيها حزب موالٍ للأكراد عتبة العشرة بالمئة.

لكن لا يزال إردوغان متمسكاً بالسلطة وبحلمه. سمح بفشل المحادثات بشأن الحكومة الائتلافية عمداً وحدد موعد انتخابات جديدة في 1 نوفمبر. بالنسبة إلى إردوغان، ستتمثل النتيجة المقبولة الوحيدة بفوز {حزب العدالة والتنمية} بالغالبية المطلقة. يجازف إردوغان بكل شي لضمان هذه النتيجة. إردوغان مسلم متدين ورجل شعبي موهوب ومؤيد للعصرنة وعرّاب المعجزة الاقتصادية التي شهدها البلد، ولكنه يجازف الآن بأن يتحول إلى حاكم استبدادي كونه يجرّ بلاده إلى حرب أهلية ويؤجج الصراعات الخارجية. في البداية، أراد إسقاط بشار الأسد ثم تجاهل {الدولة الإسلامية} لفترة طويلة جداً. وها هو الآن يقاتل الأكراد الذين يُعتبَرون شركاء الغرب الوحيدين في معركته ضد المتطرفين في {الدولة الإسلامية}. كذلك، يعيد إردوغان تنشيط جبهات قتال قديمة ويعزز انعدام الثقة والنزعة القومية، كذلك يسجن الصحافيين ومنتقديه، ويحاصر جنوده المدن الكردية ويقصفونها. كان إردوغان يصبو إلى أهداف طموحة. أراد حلّ الصراع الكردي وتحسين الاقتصاد وسعى إلى عصرنة بلده وتقريبه من أوروبا. ولم يفشل في مساعيه بالكامل.

حتى الفترة الأخيرة، كانت تركيا المنتسبة إلى حلف الأطلسي تمثّل الأمل الديمقراطي الوحيد في العالم الإسلامي. وأدى البلد دور الوساطة بين الشرق والغرب وكاد يصبح مرشّحاً جدياً للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. لكن أصبح وضع تركيا اليوم معاكساً بالكامل: يوشك البلد على الغرق في ما يشبه الجنون الجماعي بدافعٍ من التعصّب والقومية المفرطة ونظريات المؤامرة الغريبة.

عند التنقل في أنحاء تركيا، يتضح فوراً مدى انقسام البلد. من جهة، نجد نسخة إردوغان من تركيا، وهي تشمل بلدته المطلّة على البحر الأسود ومدن المعجزة الاقتصادية في الأناضول، مثل قيصري وطبعاً أنقرة التي تُعتبر معقل النفوذ. ومن جهة أخرى، نجد أرض أعدائه التي تمتد من ديار بكر الكردية حيث يخاف الناس على حياتهم، إلى جبال قنديل حيث يتحصّن المقاتلون الأكراد، وأخيراً اسطنبول، نواة الديمقراطية التركية.

ديار بكر: حرب أهلية جديدة

أغمضت غولتان كيزاناك عينيها حين بدأ زجاج النافذة في مكتبها يهتزّ. كل بضع دقائق، تهدر الطائرات المقاتلة فوق دار بلدية ديار بكر فيما تتجه إلى جبال قنديل. هناك، في منطقة كردستان المستقلة، بدأت القوات الجوية التركية تقصف مواقع {حزب العمال الكردستاني} المحظور منذ 24 يوليو.

تبلغ كيزاناك 54 عاماً وهي امرأة قوية وينسدل شعرها الأشيب على كتفيها وقد كانت ترتدي في ذلك اليوم سترة زهرية اللون. تعمل كمساعِدة لرئيس بلدية ديار بكر منذ بداية عام 2014، وهي أول امرأة تتولى هذا المنصب. يفرض {حزب الشعوب الديمقراطي} الموالي للأكراد أن يتقاسم الرجال والنساء جميع المناصب المهمة، علماً أنه حصد أكثر من 80% من الأصوات هناك في شهر يونيو.

خلال الحملة الانتخابية، لم يطرح {حزب الشعوب الديمقراطي} نفسه كحزب للأكراد فحسب، بل كمدافع عن المساواة بين الجنسين وعن حقوق المثليين أيضاً. الأهم من ذلك أنّ مرشّحيه تعهدوا بتحدي خطة إردوغان لإنشاء جمهورية رئاسية. حين اتضح أن {حزب الشعوب الديمقراطي} تلقى نسبة جيدة بلغت 13% من الأصوات في 7 يونيو، شعر سكان ديار بكر، أكبر مدينة في الجنوب الشرقي، ببهجة عارمة. فرقصوا في الشوارع على وقع أبواق السيارات والألعاب النارية. هكذا كانت الأجواء منذ ثلاثة أشهر فقط. أما اليوم، فيبدو المزاج العام قاتماً. حين يهبط الليل، يسود هدوء شديد. تغلق المتاجر أبوابها في ساعة مبكرة ويفضّل الناس ملازمة منازلهم خوفاً على حياتهم.

كل يوم تقريباً، تحصل مناوشات بين قوى الأمن التركية ومناصري {حزب العمال الكردستاني}. في مدينة سيزر، بالقرب من الحدود بين سورية والعراق، فُرِض حظر تجول في بداية شهر سبتمبر. حوصر سكان المدينة الذين يبلغ عددهم 113 ألف نسمة وتعرّض ثلاثون منهم على الأقل لإطلاق النار والقتل بحسب روايات السكان المحليين. عاد الوضع إلى ما كان عليه خلال الحرب الأهلية الأخيرة التي بدأت في عام 1984 وأودت بحياة 40 ألف شخص. حصلت هذه المستجدات كلها بعدما بدأ الوضع يتجه نحو الاستقرار أخيراً.

ناضلت كيزاناك أيضاً في سبيل القضية الكردية، مع أنها بالكاد تجيد اللغة الكردية، لكنها لم تستعمل العنف يوماً كما تقول. في عام 1983، بعد حصول انقلاب عسكري، مُنعت اللغة الكردية. وبعد فترة قصيرة، بدأ {حزب العمال الكردستاني} يتحرك لبناء دولته الخاصة ضد أنقرة. حتى الآن، لا تشعر كيزاناك بالراحة حين تتكلم الكردية، وهذا الوضع هو نتاج سياسة القمع التي حاولت القضاء على كل ما يتعلق بالأكراد: اللغة، التقاليد، الهوية.

تحول تكتيكي

أصبحت حياة الجيل الأصغر سناً أسهل مما كانت عليه بفضل إردوغان. فهو كان أول رئيس حكومة تركي يتحدث عن وجود {مشكلة كردية} في أغسطس 2005. وقد اعتذر عن أخطاء الدولة في التعامل مع أكبر أقلية في البلاد وأطلق بداية جديدة. كانت عملية السلام أجرأ مبادرة أطلقها إردوغان. استثمر مليارات اليورو في مشاريع البنى التحتية في الجنوب الشرقي وخفّف الحظر على اللغة الكردية وسمح بنشوء إذاعات وقنوات متلفزة كردية.

في عام 2012، بدأت محادثات السلام مع مؤسس {حزب العمال الكردستاني} المعتقل، عبدالله أوجلان، الذي دعا مناصريه في فبراير 2015 للامتناع عن استعمال العنف. في تلك الفترة، تحدث أوجلان عن صدور {قرار تاريخي}. لكن بعد مرور ستة أشهر، فقدت كلماته معناها. فقد علّق إردوغان عملية السلام.

ما سبب العودة المفاجئة إلى العنف؟ تقول كيزاناك إن {حزب العدالة والتنمية} بدأ يقود البلد نحو حرب أهلية لأن {حزب الشعوب الديمقراطي} دخل إلى البرلمان. يحتاج إردوغان إلى تصعيد الوضع لضمان الحصول على غالبية مطلقة ولطرد {حزب الشعوب الديمقراطي} من البرلمان. يؤيد عدد كبير من الأكراد وجهة نظر رئيس البلدية ويشاركهم آخرون هذا الرأي. يظن كثيرون الآن أن تصاعد أعمال العنف يفيد إردوغان لأنه يمكّنه من تصوير نفسه كضامن للاستقرار قبل الانتخابات المبكرة أو من تأجيل الاستطلاع بكل بساطة بحجة الحفاظ على الأمن القومي. تتهم الحكومة من جهتها الثوار الأكراد ببدء العنف. يقول محسن كيزيلكايا، عضو عن {حزب العدالة والتنمية} في البرلمان الوطني، وهو من أصل كردي: {أساء حزب العمال الكردستاني استعمال عملية السلام كي يعيد ملء ترسانته سراً ويزرع الألغام}.

قد تكون الأسباب قابلة للتأويل، لكن ثمة أمر مؤكد واحد: تأججت أعمال العنف مجدداً في 20 يوليو، أي يوم قتل انتحاري قيل إنه ينتمي إلى {الدولة الإسلامية} أكثر من 30 شخصاً في سروج، بالقرب من الحدود السورية.

بعد يومين، أطلق مقاتلان من {حزب العمال الكردستاني} النار على شرطيَّين في شقتهما في جيلان بينار، على بُعد 200 كلم تقريباً من موقع التفجير. فنشر {حزب العمال الكردستاني} على موقعه الإلكتروني أن العملية كانت رداً انتقامياً على هجوم سروج. كذلك أعلن الحزب أن الشرطيَّين كانا من مناصري {الدولة الإسلامية}. ثم في 24 يونيو، بدأت الحكومة التركية تقصف مواقع {حزب العمال الكردستاني}.

منذ بدء الحملة العسكرية، أعلنت الحكومة أنها قتلت ألفَي مقاتل كردي. لكن يستثني هذا العدد نسبة هائلة من المدنيين الأكراد الذين وقعوا ضحية قنابل القوات الجوية. كذلك لا يحتسب الجنود الأتراك الذين قُتلوا على يد {حزب العمال الكردستاني}.

جايكارا: الشهداء وحرية التعبير

بعد بضعة أيام على افتتاح إردوغان لمسجد على قمة جبل فوق غونيسو، حضر جنازة ضابط شرطة اسمه أحمد جامور في بلدة جايكارا المجاورة. تحوّلت مراسم تشييع القتلى في الجنوب الشرقي إلى مناسبات شبه يومية في أنحاء البلد. وقد حضر آلاف الناس المأتم في جايكارا.

وقف إردوغان أمامهم، يحيط به العلم التركي. حمل الميكروفون في إحدى يديه واتكأ باليد الأخرى على نعش جامور وقال: {نودع شهيدنا الذي استشهد بحسب إيماننا. يا للسعادة التي تشعر بها عائلته وأقاربه!}. ذكّر الرئيس الجميع بأن الشهداء في الجنة يجلسون بقرب الأنبياء. هل كانت هذه طريقته لمواساة الناس؟ هز محمد جامور رأسه، وهو الشقيق التوأم للضابط المغدور. كان يقف تحت علم تركي وراية تحمل صورة شقيقه. طوال أيام، كان جامور يستقبل الزوار. لكنه لم يشأ أن يتكلم، لا سيما مع الصحافيين الأجانب. هو يتفوه بعبارة مريرة واحدة: {شقيقي كرّس حياته كلها لجنوب شرق تركيا}. يضطر أقارب الشهداء إلى توخي الحذر في تصريحاتهم. في مأتم حصل في أغسطس، اتُّهم قريب جندي مقتول {بإهانة رجل دولة}. خلال حفل التأبين، قيل إن الرجل اشتكى لأن إردوغان {أرسل هذا الشاب إلى قبره}.

على جبهات عدة

في جايكارا، عُلّقت صورة الشهيد على أبواب الشركات. لكن ينظر الناس بعين الشك إلى كل من يستفسر عنه. يقلّ عدد الأشخاص المستعدين للتكلم، منهم مالك مقهى متقدم في السن. قال إن أحمد جامور كان رجلاً صالحاً وكان يدعم {حزب العدالة والتنمية}: {نحن متدينون لذا نحب إردوغان. لكنّ هذه الجنازات لن تمنحه أي أصوات في الانتخابات}. سكت الرجل المسنّ فجأةً واتّسعت عيناه. حضر شرطيان، أحدهما بالزي الرسمي والآخر بلباس مدني. أرادا أن يعرفا طبيعة الأسئلة. ثم أرادا التحقق من بطاقات الهوية. أخذها أحدهما واختفى. وحين عاد، دوّن ملاحظة ثم سلّم البطاقات وقال مهدداً: {يمكنكم المغادرة الآن}. بالنسبة إلى الحكومة، تبدو المعركة الرامية إلى السيطرة على الخطاب السياسي مهمة بقدر المعركة الفعلية التي تحتدم في جنوب شرق البلاد. لذا يُمنَع المراسلون الأجانب والصحافيون الأتراك المستقلون من المشاركة في {مراسم تشييع الشهداء}. وحدهم الصحافيون الموالون للحكومة لديهم الإذن بالحضور.

بدأت حرية الرأي والتعبير تتراجع في تركيا خلال عهد إردوغان. طوال سنوات، كانت غرف الأخبار تتعرض للمداهمات وكان الصحافيون يواجهون الاعتقال. لكن لم تكن الأوضاع سيئة بقدر ما هي عليه اليوم. في أواخر شهر أغسطس، اعتُقل مراسلان بريطانيان في ديار بكر بتهمة {التورط في نشاطات إرهابية}. سيقا في البداية إلى سجن يخضع لحراسة مشددة قبل ترحيلهما لاحقاً. بعد فترة قصيرة، مرّ صحافي هولندي بالتجربة نفسها.

تشنّ تركيا حرباً ضد وسائل الإعلام الأجنبية مثل {رويترز} و}بي بي سي} و}سي إن إن} و«شبيغل}، بحسب قول وزير الثقافة التركي يالجين توبجو، وهي تشبه بدرجة معينة معركة غاليبولي.

تشير هذه التطورات إلى مدى توتر الحكومة وخوفها من الفشل مجدداً في كسب الأغلبية المطلقة في البرلمان بعد الانتخابات الجديدة. طوال سنوات، بدا احتكار {حزب العدالة والتنمية} للسلطة مضموناً. أما اليوم، فلا شيء يثبت أن استراتيجية إردوغان ستنجح. كشفت استطلاعات الرأي أنّ {حزب العدالة والتنمية} وجميع الأحزاب الأخرى لم تنجح في كسب دعم شريحة أوسع من الناخبين الذين صوتوا لها في 7 يونيو.

إسطنبول: نقطة البداية

كل من يبحث عن المكان الذي شهد بداية تراجع نفوذ إردوغان يجب أن يبدأ من حديقة في وسط اسطنبول. لم تكن تلك الحديقة واسعة أو جميلة، فقد كانت تقتصر على بعض الأشجار ومساحة عشبية صغيرة يحيط بها الأسفلت. بحسب الجهة التي نسألها في تركيا، يمكن اعتبار تلك الحديقة أصل الشر كله أو نواة الأمل المتبقي. لكن يتفق الفريقان على أنّ الأحداث التي وقعت هناك في بداية عام 2013 غيّرت وجه البلد.

اليوم، يعكس اسم {جيزي} نقطة تحول في عهد إردوغان. قبل اندلاع الاحتجاجات في حديقة {جيزي}، كان يبدو الحاكم المطلق والخارق للبلاد، وبدا وكأنه الشخص الوحيد الذي يمنع تفكك تركيا ويستطيع توجيهها نحو مستقبل ناجح. لكن كشفت قضية {جيزي} إردوغان على حقيقته: إنه حاكم استبدادي متعطش للسلطة ومصاب بجنون العظمة، وقد اعتبر احتجاجات {جيزي} مؤامرة من القوى العدائية التي تسعى إلى إضعاف تركيا.

بدأت الأحداث حين تظاهر عدد قليل من مناصري البيئة للمطالبة بالحفاظ على الحديقة التي كانت معرّضة للهدم من أجل شق طريق لبناء مركز تسوق، وهو واحد من مشاريع البنى التحتية الكثيرة التي يملكها إردوغان. في اسطنبول وحدها، خطط لبناء مطار ثالث، على أن يكون الأكبر في العالم، وأراد تشييد جسر ثالث في البوسفور ومسجد ضخم مع ست مآذن و}بوسفور اصطناعي} (صلة وصل ثانية بين البحر الأسود وبحر مرمرة).

خيّم الناشطون في الحديقة قبل أن يطلق إردوغان الشرطة للانقضاض عليهم. ثم أحرقت قوى الأمن الخيم ورشّت الناشطين بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع. انتشرت صور القمع الوحشي كالنار في الهشيم وانضم مئات آلاف الأتراك إلى المحتجين للتضامن معهم. خلال أيام، توسّع الاحتجاج وتحول إلى حركة تمرد شاملة. للمرة الأولى، عبّرت مجموعة واسعة من المحتجين فجأةً عن شعورٍ يحمله الناس منذ فترة: هم مستاؤون من أسلوب الحكم الاستبدادي الذي يطبّقه إردوغان ومن غطرسته.

يقول الناشط غوكهان بيجيجي (36 عاماً): {غيرت جيزي كل شيء}. شارك في الاحتجاجات منذ البداية. كان يعمل في محطة تلفزيونية تنتقد الحكومة. أدرك أتراك كثيرون أن معظم وسائل الإعلام كانت أداة بيد {حزب العدالة والتنمية}. بعد أحداث {جيزي}، ارتفع عدد الأتراك على {تويتر} من 1.8 مليون إلى أكثر من تسعة ملايين. فقرر بيجيجي أن يعمل لحسابه وأنشأ شبكة تشمل أكثر من 200 صحافي من المواطنين في 45 مدينة: {أردنا أن ننشئ نوعاً جديداً من الوكالات الإخبارية}. سعى إلى نشر مفهوم شبكة المعلومات القائمة على جهد المواطنين كونها تتابع العمل حتى لو مُنع الصحافيون من القيام بواجبهم. لم تنذر أحداث {جيزي} بنهاية إردوغان فحسب، بل أنشأت أيضاً مساحة عامة بديلة ما عادت تصدّق كل ما تقوله لها الحكومة.

قيصري: التجار المتدينون التابعون

لا يزال الرئيس يعتمد حتى الآن على مناصرين أوفياء طبعاً، ويعيش عدد كبير منهم في قيصري. محمود هيجيلماز (58 عاماً) هو واحد منهم. هو رئيس غرفة التجارة المحلية وتخدم منظمته مصالح 17 ألف شركة في قيصري. تُعتبر هذه المدينة الأكبر بين {نمور الأناضول}، أي العواصم الواعدة التي شهدت نمو طبقة وسطى جديدة في عهد إردوغان. بالنسبة إلى هيجيلماز، يبدو الوضع مربكاً في الوقت نفسه: {حتى مايو 2013، كانت الأعمال جيدة. لكن أدت أحداث جيزي إلى زعزعة استقرار تركيا}. بحسب رأيه، لم تكن الاحتجاجات مجرّد تظاهرات عادية. هي ترتبط بالأزمة الراهنة لأن {اللاعبين الخارجيين} كانوا يحاولون إضعاف تركيا. في النهاية، {أي تركي يحب بلده يمكن أن يعارض بناء جسر ثالث أو مطار ثالث في اسطنبول}؟ لا أحد طبعاً! أقيمت جنازة شهيد آخر في قيصري قبل أسبوعين، تلتها مسيرات وطنية طوال يومين. احتشد الآلاف في وسط المدينة وحولوها إلى بحر أحمر من الأعلام التركية. قبل وصول {حزب العدالة والتنمية} إلى السلطة، كانت نخبة علمانية من الجنرالات والقضاة والبيروقراطيين تسيطر على القطاعات السياسية والاقتصادية في تركيا. اعتبروا أنفسهم مسؤولين عن حماية إرث مؤسس تركيا، كمال أتاتورك، الذي لم يكن يهتم كثيراً بغالبية السكان المتدينين والمحافظين. ولم تحصل في عهده استثمارات كبرى في منطقة الأناضول الفقيرة، ولطالما فازت النخبة بالمناصب المرموقة وعالية الأجر. كذلك، مُنعت الشابات المتدينات من الحضور إلى الجامعات بالحجاب. لكن قطع إردوغان وعداً مختلفاً على المؤمنين: يمكنكم أن تكونوا متدينين وأغنياء في آن! لذا فتح الأسواق لرجال الأعمال من الأناضول، وخصخص شركات كبرى كانت تملكها الدولة مثل {تورك تليكوم} ومعظم شركات المرافق العامة والموانئ والمطارات، وحرر سوق العمل وحارب التضخم، وسمح بارتداء الحجاب في الجامعات. خلال أول سنوات من عهد إردوغان، ازدهر الاقتصاد بمعدل سنوي بلغ 9%. في مدن مثل قيصري، أصبح كثيرون من أصحاب الملايين تزامناً مع نشوء صناعات جديدة، منها قطاعات التصدير التي راحت تبيع المفروشات وأحدث التقنيات. بفضل  الازدهار، فاز إردوغان بدعم رجال الأعمال المتدينين من أمثال سكان قيصري. لكنه حظي أيضاً بقاعدة دعم أخرى: الفقراء. للمرة الأولى، استطاع مواطنون من طبقة أدنى مستوى الانتقال إلى منازل مستأجرة ومدعومة من الدولة. علّق هيجيلماز على جدار مكتبه إطاراً ذهبياً عليه كلمة {الله} بالخط العربي. وثمة صورة كبيرة يظهر فيها هيجيلماز إلى جانب إردوغان. يقول رئيس غرفة التجارة إن {حزب العدالة والتنمية} ساعد تركيا على إحراز التقدم، وقد أقنع الحزب الأتراك بضرورة أن يحصل الأكراد على الحقوق التي يتمتع بها الجميع: {منحنا الأكراد حقوقهم واستثمرنا في مدنهم. ما الذي يريدونه بعد؟ بأي حق يقتلون عناصر شرطتنا؟}.

جبال قنديل

يقع المقر الرئيس لـ«حزب العمال الكردستاني} على طرف طريق جبلي يمر بمنطقة طبيعية وعرة وصخرية. يحمل المقاتلون أسلحة كلاشنكوف ويفتشون المركبات التي تمرّ من هناك. لا يستطيع الزوار الدخول إلى جبال قنديل في شمال العراق من دون تصريح من {حزب العمال الكردستاني}. ترتفع صورة الزعيم المعتقل عبدالله أوجلان على طرف إحدى التلال. خلّفت عمليات القصف الحُفِر على طول الطريق. انتظر علي حيدر كايتان (65 عاماً) في منزل حجري وكل ما كان يتمناه هو العودة إلى تركيا، أي البلد الذي وُلد فيه والذي حارب حكومته منذ أن كان طالباً.

في عام 1974، أسس كايتان، مع عبدالله أوجلان وناشطين آخرين، منظمة سرية اشتق منها {حزب العمال الكردستاني} لاحقاً. من بين المؤسسين، هو الوحيد الذي يتابع القتال حتى الآن. سُجن أوجلان منذ عام 1999 وتخلى الآخرون عن المنظمة منذ ذلك الحين. أطال زعيم {حزب العمال الكردستاني} لحيته وهو يرتدي ملابس عسكرية ويضع وشاحاً. يحميه حراس شخصيون ونادراً ما يمضي أكثر من يوم في المكان نفسه. يعلم أنّ أي احتمال بالعودة إلى تركيا تلاشى في الأسابيع القليلة الماضية.

خلال الأسابيع الأخيرة، كان {حزب العمال الكردستاني} يقاتل على جبهتين: فهو يحارب الجيش التركي من جهة و}الدولة الإسلامية} في شمال العراق وسورية من جهة أخرى. طوال أسابيع، وجد الحزب نفسه في وضع غريب. فقد أعلن خصماه معاً (الحكومة التركية و}الدولة الإسلامية}) الحرب ضد بعضهما البعض. لطالما سمحت أنقرة للجماعة الإرهابية الإسلامية بالتنامي من دون رادع. وقد عولج المجاهدون في المستشفيات التركية وسُمح للدولة الإسلامية بتجنيد مقاتلين جدد في اسطنبول وأنقرة. حتى إمدادات الأسلحة والأغذية كانت تمر عبر تركيا.

لكن حين أعلنت الحكومة أنها ستنفذ ضربات جوية ضد الإرهابيين، لم تقصف {الدولة الإسلامية}. لم يحصل ذلك عملياً على الأقل. بل إنها قصفت مواقع {حزب العمال الكردستاني} في المقام الأول. شكّلت معركة تركيا ضد {الدولة الإسلامية} حجّة مناسبة لشن الحرب على الأكراد الذين طردوا قوات الأسد من سورية وأسسوا إدارتهم الخاصة. في شمال العراق، سبق ونشأت منطقة كردية مستقلة. ويخشى الأتراك أن تنشأ دولة كردية يوماً في جوارهم. لكن يعارض علي حيدر كايتان هذا السيناريو. تغير {حزب العمال الكردستاني} على مر السنين بحسب رأيه. لم يعد يقاتل لأجل إنشاء دولته الخاصة بل لكسب الاستقلالية بكل بساطة. هو يحمّل مسؤولية تصاعد وتيرة العنف لأردوغان لأن أعمال العنف التي ارتكبها {حزب العمال الكردستاني} وجميع الكمائن وجرائم القتل الحاصلة هي مجرّد رد فعل على اعتداءات قوى الأمن التركية: {أعلن أردوغان الحرب علينا. ونحن ندافع عن نفسنا}.

يظن كايتان أن عودة الطرفين إلى مفاوضات السلام ممكنة لكن بثلاثة شروط: أولاً، يجب أن توقف تركيا ضرباتها الجوية ضد مواقع {حزب العمال الكردستاني}. ثانياً، يجب إطلاق سراح أوجلان من السجن. ثالثاً، يجب استدعاء وسيط حيادي، مثل الولايات المتحدة، لتسهيل المفاوضات.

يطالب أردوغان من جهته بأن يسلّم {حزب العمال الكردستاني} أسلحته بشكل غير مشروط، وإلا فلن يرتاح حتى تدميره بالكامل.

بالتالي، ما الذي سيجعل أردوغان يرضخ لمطالب كايتان؟ يجيب كايتان وعلى وجهه ابتسامة حزينة: {ليس لديه خيار آخر}. أصبح المقاتلون الشباب اليوم أكثر تطرفاً بكثير من جيله: {نحن الأكبر سناً نُعتبَر آخر من يستطيع التوصل إلى تسوية. وإلا سنشهد حرباً جديدة تمتد على 30 سنة}.

أنقرة: وزير في الاتحاد الأوروبي

مركز النفوذ التركي عبارة عن موقع بناء عملاق حرفياً. يبدو مقر الحكومة الذي أنشأه أردوغان في أنقرة أشبه بمدينة داخل مدينة. إنها مجموعة من مبانٍ شاهقة  تنمو بوتيرة مستمرة. في الداخل،  مسجد كبير تحيط به كيلومترات من أسوار وجدران خاضعة لحراسة مشددة. إنها حالة ثلاثية الأبعاد من جنون العظمة، بما يشبه إلى حدٍّ ما أهرام الجيزة.ماذا سيحصل لهذه {المملكة} إذا اضطر أردوغان إلى الرحيل؟ ربما لن يفوز بالغالبية المطلقة في الانتخابات المقبلة وسيضطر إلى الانسحاب من السياسة اليومية. أو ربما سيتحدى  التوقعات ويشارك في حكومة ائتلافية. لكنّ النتيجة الأقرب إلى الواقع أنه سيخسر ويغرق بلده في الفوضى. في مطلق الأحوال، كل ما تستطيع أوروبا فعله  التفرّج من بعيد. في مرحلة معينة، كان الأوروبيون في موقعٍ يخوّلهم تغيير مسار التاريخ. لم يسبق أن بقي أي بلد مرشّح للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي معلّقاً لفترة طويلة بقدر تركيا، ولم يواجه أي عضو محتمل آخر هذه المعارضة. منذ 10 سنوات، أراد أكثر من 70% من الأتراك الانتساب إلى أوروبا. أما اليوم، فتراجعت النسبة إلى 40%. في أنقرة، يصعب إيجاد من يهتم بالتحدث عن أوروبا، لا سيما في أوساط السياسيين المنتمين إلى {حزب العدالة والتنمية}. لكن يبدي رجل على الأقل اهتمامه بالموضوع: إنه علي حيدر كونجا (65 عاماً). قبل أن يستقيل أخيراً احتجاجاً على الهجوم العسكري الذي شنّته الحكومة ضد الثوار الأكراد، كان وزير تركيا في الاتحاد الأوروبي. كان وجوده في أنقرة شكلياً، فهو لم يكن يتمتع بأي سلطة حقيقية، لكن بقي دوره تاريخياً في الوقت نفسه. كان واحداً من أوائل ممثلي الحزب الموالي للأكراد في الحكومة التركية. كان عهد كونجا كممثل تركيا في المسائل المرتبطة بالاتحاد الأوروبي قصيراً، لكن لم تكن آراؤه ضعيفة.يتمنى ألا يتأثر الأوروبيون بأحكامهم المسبقة عند التعامل مع تركيا. لطالما ارتبط أكبر عائق في مفاوضات الانتساب بمخاوف الاتحاد الأوروبي من ضمّ بلد مسلم. يضيف: {تخيلوا لو كان الاتحاد الأوروبي مستعداً لقبول تركيا}. كان الشرق الأوسط ليصبح مكاناً مختلفاً عما هو عليه}.

back to top