الحصن الهنغاري... «أوربان» يحقِّق مكاسب من اللاجئين

نشر في 26-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 26-09-2015 | 00:01
No Image Caption
من أوجه كثيرة، حقق رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان انتصاراً سياسياً في أزمة اللاجئين. يدعم الناخبون متشدديه وتحذو دول أخرى في أوروبا الشرقية حذوه.  أقفلت هنغاريا قبل أيام الثغرة الأخيرة المتبقية في سياج بطول 175 كيلومتراً بنته على طول حدودها الجنوبية مع صربيا، التي تشكل إحدى المحطات الأخيرة على طريق غرب البلقان نحو أوروبا. تحولت صربيا، في الأيام الأخيرة، إلى مقصد عشرات آلاف اللاجئين الذي يحاولون الهرب من سورية، والعراق، وأفغانستان، وشمال إفريقيا.

 سنت هنغاريا أخيراً قانوناً جديداً يجعل عبور الحدود بطريقة غير شرعية جريمة يعاقب عليها القانون، وقد تصل العقوبة إلى السجن ثلاث سنوات. أتت هذه التطورات مع فرض ألمانيا والنمسا كلتيهما ضوابط على الحدود أدت إلى تراكم دفق اللاجئين في الجزء الأخير من الدرب نحو أوروبا الغربية. {شبيغل} سلطت الضوء على الموضوع.

أدى إقفال هنغاريا حدودها مع صربيا إلى ضياع ويأس بين اللاجئين الذي أملوا أن يتمكنوا من العبور إلى أوروبا هناك. في الوقت الراهن، لا تسمح هنغاريا بدخول أحد. وقد أعلنت حالة الطوارئ في منطقتين على حدود صربيا لتسمح بنشر الجيش كي يساعد القوى الأمنية هناك. وكجزء من عملية القمع الجديدة هذه، أفادت هنغاريا أنها أوقفت 60 شخصاً لإلحاقهم الضرر بالسياج على الحدود ومحاولة العبور.

لا تختلف مشاهد الفوضى التي عمت مع إقفال الحدود عما رأيناه في هنغاريا خلال الأسابيع القليلة الماضية. والسبب واضح. لا يرحب هذا البلد بقيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان باللاجئين، لا بل يتعاطى معهم بعدائية.

في روسزكي على الحدود الهنغارية مع صربيا، شوهد رجال الشرطة في الأيام الأخيرة وهم يرتدون أقنعة وقفازات مطاطية، فيما كانوا يقتادون الوافدين الجدد نحو مخيمات التسجيل التي تبدو أقرب إلى سجون مبتكرة. تضم هذه المنشآت خيماً غير مزودة بما بحميها من المطر، ولا تتوافر فيها أغطية. كذلك يندر فيها الطعام والدواء والحمامات المحمولة، وهذا إن لم تذكر التوتر المستمر بين اللاجئين ورجال الشرطة.

كشفت هنغاريا في الأيام الأخيرة وجهها البشع أمام العالم. فقد انتشرت حول العالم أشرطة فيديو تظهر فيها مصورة هنغارية من محطة تلفزيونية يمينية وهي تعرقل ولدين وتركل والداً مهاجراً فيما يحمل ابنته. فتحولت هذه المصورة بسرعة إلى صورة العدائية النابعة من هنغاريا. ومع أن المحطة التي تعمل فيها طردتها، لم تتمكن من محو الصور.

أوربان: {الانتقاد من الخارج غير نزيه}

بدأ الغضب ينمو بين حكومات أوروبا الغربية بسبب السياسات الهنغارية. لكن أوربان (52 سنة)، الذي يتبوأ هذا المنصب منذ خمس سنوات، يشعر، على ما يبدو، بالرضا الذاتي. فخلال اجتماع مع السفراء الهنغاريين في الثامن من سبتمبر، أعلن أوربان أن رد هنغاريا ببنائها سياجاً من الفولاذ والأسلاك الشائكة أمام اللاجئين مثالي. كذلك اعتبر الانتقادات من الخارج {غير نزيهة}.

أضاف أوربان أن الحكومات الغربية في الاتحاد الأوروبي ستدرك قريباً أن شعوب بلدانها ما عادت تريد إيواء اللاجئين المسلمين. ويدعم نحو 70% من الهنغاريين مقاربة أوربان المتشددة هذه. فعندما يتعاطى أوربان مع مسائل مثل الهجرة بطريقة يمينية متطرفة، يساعد حزبه في سلب حزب جوبيك المتطرف، الذي يحقق راهناً نتائج سيئة في استطلاعات الرأي، الكثير من الأصوات.

قبل وقت ليس ببعيد، كنا نرى آلاف اللاجئين محتشدين في محطة قطار كيليتي في بودابست. فقد تمكنوا، لفترة وجيزة، من السفر بحرية إلى النمسا وألمانيا بدعم من حكومتي برلين وفيينا. لكن هذا الوضع تبدل يوم الأحد، عندما فرضت كلتا الدولتين ضوابط على حدودهما. أعلن المسؤولون في ألمانيا أن هذه الضوابط مؤقتة، وأنها فُرضت لمنح الولايات الوقت الضروري كي تتكمن من استيعاب اللاجئين الذين وصلوا إليها. لكنها تشكل بكل وضوح أيضاً رسالة سياسية إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى مفادها أن ألمانيا ستصر على أن تشارك في حمل عبء استضافة اللاجئين.

خلال الاجتماع الأخير لوزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي، وافق المسؤولون على توزيع 40 ألف لاجئ حالياً في اليونان وإيطاليا، إنما على أسس تطوعية. ولا تلوح في الأفق أي صفقة بشأن 120 ألف آخرين من طالبي اللجوء تود المفوضية الأوروبية توزيعها على كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

ربما يقود أوربان المعارضة، فهو ليس وحيداً في موقفه هذا في أوروبا. فلا تزال لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، سلوفاكيا، والجمهورية التشيكية متمسكة برفضها فكرة فرض حصص إلزامية في الاتحاد الأوروبي.

نتيجة لذلك، يبدو رئيس الوزراء الهنغاري حتى اليوم منتصراً سياسياً في أزمة اللاجئين الأوروبية. ولكن مَن هو هذا الرجل الذي أشعل الغضب في بروكسل وما زال يتمتع بدعم الناخبين الكبير في وطنه؟

سياسي يهوى الصراع

يقول غابور فودور، صديق سابق لأوربان: {يتمتع بذكاء كبير، ويمكنه أن يستشعر بسرعة أي تبدلات في المزاج داخل بلده، فضلاً عن أنه يهوى الصراع، ففيه يبرع كسياسي}. كان فودور يشارك أوربان في غرفة المنامة في الجامعة عندما كان طالباً. وقد أسسا معاً فيدس (الاتحاد المدني الهنغاري)، الذي عُرف بداية بـ}ائتلاف الديمقراطيين الشبان}، والذي يشكل اليوم حكومة هنغاريا الوطنية المحافظة.

يخبر فودور، وهو اليوم عضو من الحزب الليبرالي الهنغاري، الذي يشكل جزءاً من المعارضة البرلمانية المقسّمة جداً، حتى إنها لا تشكل أي خطر على فيدس: {في تلك الفترة، كنا نتأرجح بين الليبرالية والتشدد. ثرنا ضد الحزب الشيوعي وضد الكنيسة. كان أوربان مسؤولاً عن العناصر المتشددة}.

يظهر رئيس الوزراء اليوم في الصور التي التقطت في تلك الحقبة وهو يطيل شعره وسوالفه. يتذكر فودور: {جاء من الريف. كان أول شخص في عائلته يذهب إلى الجامعة، لذلك أعرب عن رغبة كبيرة في التقدم}.

ولكن بعد انهيار الستار الحديدي، بدأت الانقسامات العقائدية تظهر. يقول فودور: {أدرك أوربان أن هنغاريا تفتقر إلى حزب محافظ معاصر، وبدأ يوجه فيدس في هذا الاتجاه. ولا بد من أن نقر اليوم أنه تحلى ببعد النظر}. ما عاد فودور وأوربان اليوم صديقين. يوضح فودور: {يقود أوربان هنغاريا في الاتجاه الخاطئ}.

دخل أوربان البرلمان للمرة الأولى عام 1998. لم يجذب الكثير من الاهتمام في أوروبا بادئ الأمر. لكن هذا الوضع تبدل عقب الانتخابات الوطنية عام 2010. فقد حصل حزب أوربان على أكثرية الثلثين، وبدأ يعزز نفوذه في النظام السياسي. فقد أخضع نظام البث العام لسيطرته، حدّ من صلاحيات المحكمة الدستورية، ومرر دستوراً جديداً له مقدمة قومية.

{لن تتحول هنغاريا إلى مستعمرة}

ساهمت الأزمة الاقتصادية عام 2008، التي ضربت هنغاريا بعنف، في انتصار أوربان. فقد اضطر صندوق النقد الدولي إلى التدخل، مقدماً قروض طوارئ، التي سددها أوربان بضجة كبيرة. فقد ردد مراراً: «نحل مشاكلنا بقلب وفكر هنغاريين». كذلك أعلن أن الهنغاريين حساسون تجاه النصائح من دول أخرى. فقد ذكر في مارس عام 2012: «لن تصبح هنغاريا مستعمرة. نألف جيداً طبيعة المساعدة الودية غير المطلوبة، حتى لو أتت بشكل بزات أنيقة فاخرة لا بزات رسمية برقع على الكتفين».

يشير أوربان بكلماته هذه إلى الماضي إلى أيام الإمبراطورية النمساوية والاتحاد السوفياتي، حين اضطرت هنغاريا غالباً إلى اتخاذ خطوات للدفاع عن نفسها ضد تأثير قوى أكبر بكثير. وفي هذه المرة، كان أوربان يدافع عن بلده ضد تسلط القوى الأجنبية. أثرت هذه الرسالة في كثير من الناخبين. صحيح أن أوربان أقدم على خطوات كثيرة أغضبت المسؤولين في أوروبا خلال عهده كرئيس وزراء، إلا أنه برع أيضاً في تبديل مساره في وجه انتقادات بروكسل، في الوقت المناسب، لمنع الاتحاد الأوروبي من اتخاذ خطوات قانونية ضد اعتداءات بودابست المخيفة على الديمقراطية.

قدّم أوربان نفسه طوال هذه الفترة كرجل هادئ، واثق من نفسه، ومتماسك. وابتعد عن «الفولكلور» كوسيلة لتعزيز شعبيته، بل صور نفسه كمؤمن ملتزم. قلما نرى أوربان يصب جام غضبه على منتقديه المحليين. ولكن عندما تتعلق المسألة بالاتحاد الأوروبي، يتحول إلى سياسي شرس وحاد اللسان. فمن المبادئ الأساسية التي يتبعها أوربان معرفة مَن هم أعداؤه. فيطلق سهام غضبه حيناً على المصارف وأحياناً على شركات الطاقة، إن أدرك أن ثمة طريقة لتخفيف الأعباء المالية عن شعبه. يريد أوربان أن يكون قائداً أباً يصب كل اهتمامه على الشؤون المحلية، يتمسك بالقيم المسيحية، ويتخذ مواقف قوية في الخارج، مدافعاً عن بلده ضد اضطرابات العولمة.

ولكن بعد إعادة انتخابه عام 2014، أخذت شعبية أوربان بالتراجع. فقد تباطأ الاقتصاد، وبدأت ادعاءات الفساد تلاحق حزب فيدس. نتيجة لذلك، نجح حزب جوبيك اليميني المتطرف في الإطاحة بعدد من عند فيدس في الانتخابات. لكن اللاجئين قدموا بعد ذلك لمساعدة أوربان. تقع هنغاريا في نهاية طريق غرب البلقان، وحتى هذه السنة، عبر نحو 167 ألف لاجئ، وفق التقديرات، البلد متوجهين إلى أوروبا الغربية.

{لا يمكنكم سلب الهنغاريين وظائفهم}

أولاً، في مسألة {الاستشارات الوطنية}، بعث أوربان باستبانات إلى المواطنين الهنغاريين تتناول مسألة الأجانب. فرد نحو مليون هنغاري، ما اعتبره أوربان دعماً لمساره المتشدد.

في الخطوة التالية، علّق لافتات موجهة إلى اللاجئين وتحمل شعارات مثل {إن أتيتم إلى هنغاريا، فلا يمكنكم سلب الهنغاريين وظائفهم}. كانت كل اللافتات باللغة الهنغارية، ما يُظهر أن هذه الرسالة موجهة في المقام الأول إلى الشعب، وهدفها طمأنة الناخبين إلى أن الحكومة تتخذ خطوات لازمة.

أما خطوة أوربان الثالثة والأكثر بروزاً، فكانت تشييده سياجاً من الأسلاك الشائكة على طول الحدود الصربية. وشملت هذه الخطة أيضاً تعزيز هذا الحاجز بأسرع وقت ممكن بإقامة سياج من الفولاذ بارتفاع أربعة أمتار.

جاءت الخطوة الرابعة عندما التقى أوربان نظراءه من بولندا، سلوفاكيا، والجمهورية التشيكية، علماً أن هذه الدول تتبنى وجهات نظر مماثلة في مسألة اللاجئين. وهكذا تشكلت اليوم جبهة شرقية جديدة مناهضة للمهاجرين داخل الاتحاد الأوروبي، وأوربان قائدها.

يقول جيرجلي غولياس، أحد أعضاء فيدس في البرلمان درس القانون لفترة وجيزة في هامبورغ ويجيد الألمانية والإنكليزية: «نؤمن بقيم مثل الوطنية، البلد، العائلة، والأمة. أعلم أن صورتنا لا تبدو جميلة في الإعلام خارج البلد. ففي المجال الإعلامي، يسيطر اليسار والليبراليون. وقد نجحوا في استهدافنا».

يعرب غولياس، الذي يرتدي بزة أنيقة زرقاء داكنة ويجلس في مكتب ضخم مزين بعلم الاتحاد الأوروبي، عن إعجابه بأوربان. ففي سياسة اللاجئين، اتخذ رئيس الوزراء، وفق غولياس، خطوات صحيحة. ويضيف: {نريد أن نقرر نحن بأنفسنا عدد المسلمين الذين نود أن نعيش معهم}.

وبغية وضع حد لهذه المشاهد البشعة والمعاناة على الحدود، يدعي غولياس أن على هنغاريا {في النهاية} ضبط حدودها بشكل أفضل. ولا شك في أن إتمام السياج الحدودي أخيراً وتمرير القانون الجديد بشأن عبور الحدود بطريقة غير شرعية، فضلاً عن كتيبة {حرس الحدود} التي شُكلت أخيراً وتعتقل اللاجئين في بعض المناطق، تشكل جزءاً من هذه الإستراتيجية.

«أوربان رجل حرب»

يقول البعض في هنغاريا إن هذه استراتيجية خاطئة. يسأل فرنك غيوركساني: {سيزيد هذا الطين بلة. فسيعلق عشرات الآلاف على الجانب الصربي من الحدود. فكيف ستمنع الشرطة هؤلاء الناس من تمزيق السياج بكل بساطة؟}.

سبق غيوركساني أوربان كرئيس للوزراء، وهو يقع في الجانب الآخر من الطيف السياسي. رغم ذلك، يعرب عن إعجابه بصلابة أوربان ومهارته السياسية. يوضح: {أوربان رجل حرب}.

بعدما كدس غيوركساني ثروة في سنوات الخصخصة غير المضبوطة، يملك اليوم منزلاً فخماً عند سفح تلة القصر في بودابست، وقد أفرغ غرفتين فيه ليأوي لاجئين. وكل مساء نحو السادسة، يتصل به أناس من جمعية في بودابست تساعد اللاجئين بحثاً عن مساكن طوارئ. وقد استضاف في منزله لغاية اليوم 36 لاجئاً. يذكر: {يتابعون  كلهم الطريق إلى ألمانيا}.

قبل أيام، زار غيوركساني مخيم بيكسكي المكتظ باللاجئين. مع أن بضعة آلاف من هؤلاء يعبرون الحدود كل يوم، لا تضم هنغاريا رسمياً سوى 6 آلاف مركز متوافرة لمخيمات اللاجئين. يوضح رئيس الوزراء السابق: {تعمدت حكومة أوربان السماح لهذه المشكلة بأن تتفاقم}.

ما كانت لتتكبد كلفة باهظة لو أنها نصبت مئات قليلة إضافية من الخيم أو طبعت كتيبات توجيه باللغة العربية، وفق غيوركساني. ولكن بدلاً من ذلك، ركّز أوربان على الردع.

اتكأ غيوركساني إلى الوراء وأكد أنه لم يفقد الأمل بعد. أضاف: {تبدل أمر ما. صار الناس أكثر استعداداً لمد يد المساعدة. يبدو أن الجو العام في هنغاريا بدأ يتبدل. فقد هزت صورة الصبي الغارق على الشاطئ التركي الناس هنا}. ويدعي أن أوربان لا يستطيع أن يكون قاسي القلب إلى هذا الحد، وإلا {فسيفقد هالته الأبوية}.

لكن رئيس الوزراء الحالي برهن غالباً أنه يستطيع أن يكون مرناً في ممارسته سلطته. فقد أعلم سفراءه أنه لا يعارض إلى هذا الحد حصص اللاجئين في الاتحاد الأوروبي. ويدعي اليوم بكل بساطة أن الوقت غير مناسب لمناقشة هذه المسألة. ولا شك في أن هذا صعق الدبلوماسيين.

back to top