بوّابات أرض العدم

نشر في 05-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 05-09-2015 | 00:01
No Image Caption
تخدش ظهري الأسلاك الشائكة. قشعريرة تستقرّ في منتصف رأسي. كانت تحت الأسلاك الممتدّة على طول خط الحدود، حفرٌ تكفي لتسريب شخص واحد. استطعت اجتياز حفرة، ثمّ ركضت سريعاً، نصف ساعة من الرّكض، مسافة كافية لعبور الحدود بين بلدين. لم يكن بصحبتي آنذاك غرباء كثرٌ، ولم أعرف أنّني سأكون قادرة على متابعة هذه التّفاصيل، إذ كنت أظنّ، لسببٍ غامض، أنّني سأضيع في زحمة الموت هناك، حيث قرّرت العودة إلى الوطن. في تلك اللحظة، وقدمي تنغرس في الحفرة، وظهري يحتكّ بالأسلاك الشّائكة، في المسافة الفاصلة بين خطّي حدود، أرفع رأسي وأنظر، للمرّة الأولى، إلى السماء البعيدة التي كانت تميل إلى السّواد، بعد انتظار حلولِ اللّيل لساعات طويلة، كي نستطيع العبور دون أن يتنبّه إلينا الجنود الأتراك. هناك، في تلك اللّحظة، تنفّست بعمق ورفعت ظهري، وركضت حسب التّعليمات. أخذت أركض كي أجتاز منطقة الخطر. الأرض صخريّة وصعبة، ولكنّني ركضت بخفّة. رافعة من قلبي تحملني وترميني في الهواء. لقد عدت! ها أنذا هنا من جديد! كنت أتمتم وألهث: لقد عدتُ! ولم يكن هذا مشهداً سينمائياً. كان حدثاً حقيقياً. أركض وأتمتم: لقد عدت... لقد عدت.

سمعنا أزيز رصاص متقطّعاً، وهدير آليّة عسكريّة تتنقّل في الطّرف الآخر، لكنّنا استطعنا النّفاذ للرّكض.

كلّ شيء يبدو كما لو أنه مقدّر منذ زمن بعيد. وضعتُ على رأسي غطاء، وارتديت سترة طويلة وبنطالاً عريضاً، حيث كان علينا بعد ذلك اجتياز هضبة عالية صعوداً، قبل أن ننحدر ركضاً وبسرعة، لنجد سيّارة في انتظارنا. خيّم اللّيل، وكلّ شيء بدا عادياً، أو هكذا اعتقدت. في العبور المتكرّر لاحقاً، سيتغيّر المشهد.

مطار أنطاكية وحده كان كافياً لمعرفة ما حصل في سورية خلال سنة ونصف من الرّحلات إليها. وعبور الحدود أيضاً يؤكّد ذلك، وكلّ المظاهر التي وضعتها في رأسي لاحقاً كمؤشّر للتّغيير السّريع والعميق الحاصل. لكنّني، حينذاك، وأنا أنزل من الهضبة ركضاً مع ألم ساقيّ، لم أفكّر في كل ذلك. وصلت إلى أسفل الهضبة، ثمّ ركعت على قدميّ، وبقيت لأكثر من عشر دقائق، أتنفّس بصوت مخنوق، محاولةً تهدئة ضربات قلبي. اعتقد الموجودون أنّني منفعلة برؤية البلاد. في الواقع، لم يكن المجال متاحاً لذلك التّرف. ركضنا لفترة طويلة، وصدري يوشك على الانسلاخ منّي، ولم أقدر على النّهوض.

أخيراً، ركبنا السيّارة، وتنفّست قليلاً. هناك شاب يقود، نحن في الخلف ثلاثة، في الأمام اثنان. ميسرة ومحمّد، سيتحوّلان في ما بعد جزءاً من عالمي. إنّهما مقاتلات مختلفات ومن عائلة واحدة. العائلة التي سأمكث في كنفها. محمّد وهو في العشرين من عمره، سيصير صديقي الدّائم ويشاركني العمل.

كنّا في ريف {إدلب} الذي لم يتحرر بشكل كامل من سيطرة قوّات الأسد. هناك حواجز كثيرة تعترضنا، وهي تابعة لكتائب الجيش الحرّ. نجتاز حقول الزّيتون ونركض. ندخل بوّابة أرض العدم الأولى. مقاتلون يحملون أسلحتهم، ويرفعون شارات النّصر. الرّحلة طويلة. أحاول سرقة الصّور من الواقع. أمدّ رأسي من نافذة السيّارة، وانفصل عمّا يحيط بي. السيّارة تمضي، وصوتُ القذائف يُسمع من بعيد، ولا تنتهي الطّريق. دهشةٌ منسوجة من فرح تدغدغ خلايا جسدي، وأنا أرى الأرض المحرّرة. هذه أرض محرّرة، لكنّ السماء لا تدعنا نضحك. السماء تشتعل، والمشهد يتحوّل إلى أربع شاشات سينمائية متقطّعة. لا أنظر إلى المشهد بعينين اثنتين فقط. أضع عينيّ في رقبتي أيضاً. على طرفي أذني لي عيون أيضاً. وحتّى في أطراف أصابعي، مثل كائن وحشيّ خرافيّ. أثبّت الرّؤية أمامي. يتوزّع البصر بين ثلاثة مشاهد. الآليّات المدمّرة، السماء المشتعلة وسيّارة في داخلها امرأة وثلاثة رجال يتّجهون إلى بلدة {سراقب}.

كلّ ما يحصل في سرد هذه التّفاصيل هو واقع. لا يوجد سوى شخصيّة واحدة متخيّلة تُلاعب السّرد هنا. أنا الوحيدة التي تستطيع العبور وسط الدّمار، وكأنّني شخصيّة متخيّلة في كتاب. أستعين على الواقع بالخيال. أراقب التّفاصيل والواقع وما يحدث، ليس على أساس ما أنا عليه الآن. ولكن، أفترض أنّني شخصيّة روائيّة، أفكّر في خيارات شخصيّة مُفترضة في رواية، لأقوى على الاستمرار. المرأة الواقعية أتركها جانباً. أصير الأخرى المفترضة، التي يجب أن تقوم بردود فعل تناسب ما عاشت لأجله. ما هو هذا الشّيء الذي من خلاله تبحث عن سؤال الوجود؟ الهويّة؟ المنفى؟ العدالة؟ جنون الدّماء؟ وكلّ هذه الطّرقات التي تعبرها السيّارة في عتمةٍ حالكة، متّجهةً إلى بيت العائلة التي ستصير جزءاً من عالميّ. الغريب أنّني الآن أذكر حوادث تأتي وتروح. لم أكن أنوي كتابة هذه الحوادث حتى رحلتي الثانية. كان الهدف من مشروع عودتي إلى سورية في آب 2012، بعد خروجي منها في تموز 2011، هو إقامة مشاريع صغيرة للنّساء، وتأسيس منظمة في الشّمال السّوريّ لتمكين النّساء اقتصادياً ومعرفيّاً وتعليم الأطفال. كنت أبحث عن فكرة قابلة للتّطبيق نستطيع من خلالها إقامة مؤسّسات مدنيّة ديمقراطيّة في المناطق التي صارت خارج سيطرة الأسد. لم أفكّر أبداً في كتابة هذه اليوميّات. كنت أستعدّ للبدء بروايتي الجديدة. تغيّر الأمر، وأنا أغادر. حادثة صغيرة غيّرت المسار، وجعلتني أفكّر في كتابة شهادتي هذه.

قبل الحدود في طريق العودة، كنّا نتّجه من بلدة سرمدا لنعبر من سورية إلى تركيا، كان اللّقاء بالمقاتل الشّاب الذي جعلني أمسك بقلمي وأدوّن في دفتر صغير ما قال. في تلك اللّحظة، قرّرتُ أن أكتب، بعد أن قال: {ونحن نريد دولة مدنيّة}. كان ذلك في اليوم الأخير، قبل ساعات من الرّحيل، على حاجز كتيبة {الفاروق}، والشّاب الصغير الذي تلمع النّجوم في عينيه يروي وهو يبلغ ريقه كيف انشقّ عن {الوحدات الخاصّة} في الجيش لأنّه رفض قتل النّاس، ثمّ يتابع الحديث: {يعني أنا كيف سأرمي نفسي في الموت، من يريد الموت؟ لا أحد! لكن، كنّا موتى ونريد أن نعيش}. كانت السماء زرقاء. لا شيء يعكّر صفونا، ولا حتّى أزير الرّصاص، ولا الحواجز، ولا كلّ الأبنية المهدّمة على جانبي الطّريق. لا نبعد عن بلدة سرمدا إلاّ قليلاً. تركناها وراءنا مع جدرانها الملوّنة بعلم الثورة. {ونحن نريد دولة مدنيّة}... يكرّر الشّاب الأكبر سنّاً. يقول لي شاب آخر: {يلعن أبو هالضباط، كلهون علويين!}. ينظر إليه الآخر، ويتمتم: {لأ مو كلهون}. أنصت إليه، وهو يروي لي قصّة انشقاقه للمرّة الثّانية، فيقترب صديقه منه، ويهمس في أذنه شيئاً ما. الشّاب الصّغير، ذو العينين اللامعتين والذّؤبة العسليّة، ينظر إليّ مذهولاً. يسقط سلاحه على الأرض، ثمّ تنكسر نظرته. حدّقت في عينيه المرتجفتين، وبقي سلاحه على الأرض، ثمّ أدار وجهه. السماء لم تتغيّر. ما زالت زرقاء، والجبل الحجريّ الذي خلّفناه وراءنا يحدّق بصمت. لكنّني استطعت سماع طقطقة ما، حيث أدار الشّاب وجهه نحوي. كان يعضّ على شفتيه. قال بصوت مرتجف- هو الشّاب الذي كان يقف على حاجز مسلّح، ويحمل سلاحه، ويشهر غضبه في وجه السماء- {سامحيني يا خالة، والله ما كنت بعرف}. وجهه الطّفولي عاد إلى مساحته، والشّباب الذين يحملون السّلاح تحت الجسر ينظرون إلينا بفضول. كان علم أبيض يرفرف بالقرب منهم كُتب عليه {لا إله إلا الله، محمد رسول الله}. اثنان منهما يطلقان لحية طويلة. السماء لا تزال زرقاء، لكنّ الجنديّ الذي صار طفلاً، اقترب منّي وقال متلعثماً: {أنا ما بكره حدا، بس هن كلاب بدهون يانا نقتل النّاس... سامحيني يا خالة}.

back to top