بلا أجنحة

نشر في 05-09-2015 | 00:01
آخر تحديث 05-09-2015 | 00:01
No Image Caption
ذاك الصباح، قطعتْ ميسا عليَّ شرودي بعينين ثاقبتين، وصرخت بي:

{لا تنتظريه يا غادة... لن يأتي! اذهبي أنتِ إليه وصارحيه.. فما جنيتِ من جلد العاطفة؟!.. وافتعال التناسي اليومي المتكرر؟! نحن لا نتوقف فجأةً عن حُب من نحب، وقد لا ننجح في التوقف أبداً. اذهبي إليه.. حتى لو لم يكن ينتظرك.. اذهبي أنتِ إليه».

أتصدِّق أن هذا ما فعلته بعد أعوام صبري في هواك... حجزتُ لنفسي في أول رحلةٍ. وأتيت...

أتيتك بكل ما في جعبتي من حبٍّ وعطش... لأنك ساعة الرحيل سرقتَ المطر في جيب معطفك ومضيت. وجعلتَ البحث عنك أشد ضرورة. فالمرأة التي تخسر رجلها وشتاءها في يومٍ واحد تجمح لفعل أي شيء يعيد لها خصوبة الإزهار... أو على الأقل من كانت تتوق أن تزهر لأجله.

ديسمبر 2013

 

دمشق / أبريل - 2002

ليلة البارحة لم أنم

جاء رفضه لطلبي غريباً هذا العام. فطوال السنوات الفائتة كنتُ أرجوه الطلب ذاته. وفي كل مرة، كان يرمقني بامتعاضة. يطيل الصمت في أمري، ثم يهز رأسه مفرجاً عن ابتسامةٍ جاذبةٍ أنيقة، لا أستطيع منع نفسي بعدها عن حضنه وتقبيله. حتى إذا حلَّ المساء ونامت سارة، تسلل بهدوءٍ إلى غرفتي وهمس لي أن تعالي، فأسابقه إلى غرفته التي أحب وأدخلها حافيةً هائمةً بالفرح. ليغلق الباب بهدوء خلفي ويطلب مني فتح يدي، ثم يضع مفتاح غرفتها على راحة كفي، مفتاحها الذي ما زال عَطِراً دافئاً وكأنها أفلتته قبل برهة. يطوي أصابعي عليه بشدة، ويبكي بكاء طفلٍ تائه.

ما تخلّفتْ دموعه عن الحضور مرة.

«اذهبي الآن وأختك نائمة...

لا تحدثي ضجة... ساعة واحدة فقط لا أكثر. اذهبي». وكأنما ملّكني الدنيا.

كنتُ أخرج من غرفته على قيد الأمل. فتتنامى في جوفي الزاخر بالأسى ضحكاتها التي أشتهي. وتنبت لي بأقل من دقيقة أجنحة من لهفة، تحملني إلى غرفتها. أتحسس مكان القفل بأصابع مرتجفة فأعثره بعد عناء.

لكن صمتاً ما داخلي، أرجحني كل عامٍ، بين توقي للدخول وخشيتي ألا تكون في الداخل. كنتُ أخاف أن يكون كل شيءٍ على حاله إلاها... فأزداد في غرفتها يقيناً، بأنها «قد ماتت».

أجل، ماتتْ. وماتتْ معها طفولتي. وكأن موتها أودعني عمرها، فكبرتُ في لحظة، دهراً من الصمت والألم.

«آهٍ منكِ يا أمي! كل شيءٍ في غرفتك على حاله إلاكِ! كل شيءٍ ما زال يتنفس.. أوراقك الكثيرة المبعثرة في كل مكان، أقلامك الملونة، ستائر الشرفة، دبابيس الخياطة وقصاصات {التول} الوردية لفساتين العيد الذي ما جاء بعدك! حائط الفوضى بصورنا المعلقة عليه، وقبلاتك، ولصاقات عن الحب جمعتها لسنوات دونما ملل! أسطوانات أسمهان وفيروز، وبعض الشمع المعطر الذي جلبته معك من باريس. حبال اللؤلؤ الملونة، علب الكريستال ولفافات الدانتيل. كرسيك الهزاز، وشاحك الأسود، وعلى الأرض مجلات {البوردا} وعلى النضد كتابك المفضل {عاشقة في محبرة}. لا أنفكُّ أقلبه كل عام بِحيرة! ترى كم مرةً قرأته يا أمي؟ أحقاً فضلته لهذا العمق، أم أن شغفك بغادة دفعك لتسميتي غادة ولقراءة أدبها آلاف المرات بلذة المرة الأولى».

اشتدَّ الصباح على مواجعي... فدخلتْ سارة غرفتي بصخبها المعتاد.

{استيقظي. الساعة أوشكتْ على العاشرة، لا أريد زيارتها دونك».

نظرتُ إليها بفتور... طفلتي المدللة هذه عديمة الحنين... عصية الحزن... مدمنة الشغب. لا أصدق أن رحماً جمعني بهذي الشقية تسعة أشهر، وأن حناني المفرط وعنايتي الفائقة بها، جعلا منها عابثةً هكذا.

{ليتك هنا يا أمي لتنظري إليها... ابنتك سارة، كلما ازدادت أنوثة ازدادت شبهاً بك. عيناكِ العسليتان، شعركِ الأسود، بشرتك الذهبية الملساء، وجنتاكِ البارزتان، وذاك الفم الصغير المتقن للحديث والضحك».

حدّثتُ نفسي وسحبتُ جسدي من السرير...

قال لي أبي ذات صفاء – في حديثه المقل عنها – إنها أحبت الاستحمام بماء بارد حتى في أكثر أيام الشتاء قسوة... وإلى هذا الصباح ما زلتُ أيقظ جسدي بحمامٍ باردٍ لأستهل نهاري بذكراها.

سامحك الله يا عادل! ماذا دهاك بالأمس ومنعك عن عادتنا السنوية. كيف استطعت إيصاد قلبك عني، وترك غرفتها مطفأةً لعام جديد؟ أم تراك تسللت دوني، واستكثرت عليَّ ساعتي الوحيدة»

جففتُ شعري على عجل وجمعته إلى الخلف، تماماً كما كانت تسرحه لي. وخرجتُ من غرفتي عازمةً الجدال معه... لكن شيئاً في الممر الخشبي تغيّر ذاك الصباح.

فسحةٌ من النور سطعتْ قبالة غرفتها، وكأن أحداً ما في الداخل. سارعتُ الخطى حتى إذ وصلت، راعني ما رأيت.

كان باب الغرفة مفتوحاً عن خلوٍ تامٍ! لا شيء هنا... ولا حتى ستارة النافذة أو لصاقاتها المحببة! أربعة جدرانٍ صامتةٍ كامدة، وسقفٌ وحيدٌ مبهم.

نزلتُ الأدراج درجتين درجتين... كان وسارة على طاولة الفطور... صرختُ كطفلةٍ مسَّها جنون.

«أبي! غرفة أمي مفتوحة! ربما أحدهم كسر القفل وسرق كل شيء».

قام عن كرسيه وناداني.

{تعالي غادتي».

جرّني بذراعه وعيناي معلقتان بصمته.

في حديقة المنزل، أجلسني على أرجوحة الياسمين. دفعني بخفة، فعلمتُ أنه يمهد لخطبٍ ما. وبعد دقائق... مشى خطوتين أمامي... أدار ظهره لي... أشعل غليونه... وراح ينفخ في الهواء دوائر الدخان المنتظمة.

شاب شعرك سريعاً يا عادل، ما زلتَ أربعينيَّ العمر يا رجلي! اختنقتُ بعبرتي... تراك ما فعلتَ ليلة الأمس يا أبي؟

نضح ذنبه بعد سكوت... قال لي:

{تأتيني على غفلة من الصفو والرواق... كجنيةٍ راقصةٍ تذهلني... تأسرني بشتى الأطواق. طوقٌ من أمل. وآخر من غزل. وآخر من لهيب الشوق ومُنى العناق. كل ليلٍ أدخل غرفتها كظل باهتٍ ألامس أشياءها لعلها تأتي. فلم تأتِ! آلاف الليالي لم تنسني إياها... بل عمقت وجعي... وزادتني خسارة! هذا الشوق الذي يصبح أكثر إيلاماً كل يوم. سيقتلني يوماً وأنا جالسٌ في غرفتها بانتظارها. ولا رغبة لي بالموت... ولا طاقة لي على التسمم كل يومٍ بكل تلك التفاصيل. قبل عامين اثنين راودتني الفكرة ذاتها... فخشيت من خصامك إيّاي. لكن قلبي ذاب يا غادة... فارحميني! نعم هو أنا. قد فتحتُ الباب إلى الأبد ورميتُ كل الأشياء بلا أسف. مزقتُ الستارة وحرقتُ أوراقها وحرقتُ معها ذاكرتي».

نظر إليّ بعينين غاضبتين، ثم قال:

{أعلم أنك لن تغفري لي جريمتي هذه. ولا بأس عندي ألا تغفري».

وكأنَّ بيني وبين هذا الرجل علاقةٌ تغلبني دوماً بمفاجآتها.

أذكره قبل عشرة أعوام. حين عاد حاملاً علبةً بيضاء كبيرة ملفوفةً بشرائط أنيقة، فتحها أمامي لأسترق نظرة، كان فيها ثوب أسود برّاق تزينه أزهار توليب أرجوانية، وصل إلى مكتبه ذاك الصباح من باريس... فخطفني من لعبتي وقال لي:

{هيا... هيا لنمسح بعض حزنها».

كانت أمي حينها غارقةً في صمتٍ مخيف لأسبوعين كاملين. ذلك بعد أن ظهرت نتائج تحاليل سارة، وفاجأنا الطبيب أنها مصابةٌ بمرض السكر، وعليها الالتزام بالعلاج والحمية طوال حياتها.

لا أذكر أنها أقبلت على الحزن بشراهةٍ كهذه من قبل، وما كانت كل أثواب الدنيا ووردها الملون لتنفع يومها.

على باب غرفتها، نقر أبي نقرةً واهيةً بأدب، فلم تجب... كررها، فلم تجب... حاول فتح الباب، كان مقفلاً من الداخل. ازداد تواتر نقراته حتى بلغت القرع المفزع، ولم تجب... فحدث أن ألقى الهدية على الأرضية بغضب، وراح يدفع الباب بجسده حتى خلعه. من المريب كيف جلستْ صامتةً غير آبهةٍ بكل تلك الثورة.

على كرسيها... استلقتْ راخيةً جسدها، مغمضة العينين.

ارتميتُ بحضنها خائفةً من أبي. لكنها ما اهتمتْ بي ولا بأبي.

نظرتُ إليها تارة، وإلى عادل في أخرى. تلوّن غضبه بالخوف مثلي. انحنى على ركبتيه أمام كرسيها، أمسك يدها وضغطها بقوة. يديها الصغيرة كانت شاحبةً باردة... وعلى الأرض جانبها علبة دواء فارغة، التقطها عادل، قرأها، ثم شدنا إليه... احتضنها وأنا عالقة بينهما. فسمعتُ أنينه ونبضاته المتسارعة... بينما أصرّتْ، هي، على دور الميتة.

والحقيقة أنها ما كانتْ تتظاهر.

رائحة ياسمين الأرجوحة، أيقظتني من سهوتي وأخمدت ذاكرتي... وليت لي جرأة عادل لأحرقها وأستريح.

عاد قبلي إلى مائدة الفطور... كانا – هو ومدللتي – يتبادلان حديثاً عن {فولتير}، وكيف أنه جاء إلى الحياة طفلاً مريضاً هزيل القد، حتى إن الممرضة التي أشرفت على ولادته تنبأت أنه لن يعيش أكثر من سنة كمصير إخوته الأربعة، لكنها أخطأت قليلاً، لأنه عاش ثلاثة وثمانين عاماً... وكيف أن موت أمه لم يؤثر على نبوغه فاستطاع أن يعلو كأبرز شعراء فرنسا وفلاسفتها...

جلستُ بهدوء في مقعدي... تناولتُ قطعة خبز، ونظرتُ إلى عادل. قد كان منهمكاً بالشرح والتفصيل لسارة التي بدتْ عليها علامات السهو والضجر.

وقف في وجه رجال الكنيس وتحداهم قائلاً: لقد قام نبي المسلمين محمد بأعظم دور في الإنسانية وأقل ما يقال عنه إنه جاء بكتاب واحد لم يتغير وأنتم اليهود غيرتم دينكم مئة مرة.

قالها مأخوذاً بالعظمة، فأضحكني وما بي رغبة.

لم تضحكين؟!

انفعل غاضباً.

عذراً.

استمرأتُ خجلي.

بالطبع يضحكك أن يجاهر يهوديٌّ باحترامه لمحمد... كيف لا، وغرفتك ملأة بشعوذات سبينوزا وابن القطان – عنى نعيم قطان – والآخر النقاش – عنى سمير نقاش – والملحد هرتزل.

وضع فنجان الشاي على الطاولة بحدة فارتجّت الكؤوس والأطباق.

كان قد احترف إهانتي في كل فرصة، ووصمي بعار أمي... فقط لأنني قررتُ نقل مكتبتها إلى غرفتي.

أنا مسلمة يا أبي ولست يهودية... وأحب ديني أكثر من الشعر والأدب. وبمناسبة الحديث عن فولتير... قد كان مسيحياً منتقداً لدينه، يكره اليهود ويراهم جهلة همجيين، ويحترم محمد لذكائه في نشر رسالته... وخطابه الذي ذكرتْ، وجّهه لرجالات الكنيسة لا الكنيس».

أجبته ممتعضةً... فشهر سلاح أبوّته في وجهي.

يوماً ما، سأصعد إلى غرفتك وأحرق تلك المكتبة البائسة التي ما زادتك إلا فجوراً ووقاحة.

يبدو أن نشب الحرائق صار هوايتك الجديدة.

نهض منفعلاً، محمر الأذنين، يريد المغادرة... استوقفته سارة تسأله متى نذهب لزيارة قبر أمي... فشجبها غاضباً.

«اذهبا مع سالم».

كان أن خطفتْ تفاحة خضراء، وصعدتْ إلى غرفتها ترنم أغنية لعمرو دياب... لن تذهب هي أيضاً، بدا ذلك واضحاً.

back to top