البدانة... هل يمكن أن تكون صحية؟

نشر في 04-09-2015
آخر تحديث 04-09-2015 | 00:01
No Image Caption
منذ أعلنت منظمة الصحة العالمية انتشار وباء البدانة العالمي في عام 1997، أدى الوزن دوراً بارزاً في النقاش عن الصحة والعافية. إلى جانب الصحة الجسدية والعقلية التي تتأثر بخليط قوي من العوامل الصحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أصبحت زيادة متوسط الوزن خلال القرن الواحد والعشرين محط نقاش محتدم. يمكن تلخيص جوهر النقاش بسؤال أساسي: هل يمكن أن يكون الشخص رشيقاً وسميناً في آن؟ من المعروف أن الوزن الطبيعي لا يضمن الصحة الجيدة، لكن هل يُعتبر فائض الدهون مؤشراً على تدهور الصحة؟ سرعان ما أصبحت وسائل الإعلام جزءاً من هذه المعمعة. في عام 2015، أعلنت صحيفة {هافينغتون بوست}: {نعم، يمكن أن يكون الفرد بديناً وأن يتمتع بالصحة (نسبياً)}. لكن ذكرت {فوربس} أن البدانة الصحية  مجرّد {خرافة}. وأكد موقع {سالون} أن البدانة الصحية قد لا تكون موجودة أصلاً، لكن عارضته مجلة {سلايت} قائلة: {حان الوقت لنتوقف عن مطالبة البدينين بتحقيق النحافة}. على أحد جانبَي النقاش، تقف غالبية الأوساط الطبية التي تشدد على أن البدانة ليست صحية بأي شكل وأنّ التحكم بالوزن يبقى أساسياً للتمتع بصحة جيدة. وعلى الجانب الآخر، نجد مؤيدي حركات {الصحة بجميع الأحجام} وقبول البدانة: يدّعون أن البدانة ليست مصدر قلق كبير. يعتبر هذا الفريق أن الصحة لا ترتبط بالوزن وأن {الحرب على البدانة} قد تكون أسوأ من البدانة. حمل الجدل الأخير اسم {مفارقة البدانة}: فقد تكون الأخيرة واقية في بعض الظروف أو بالنسبة إلى المسنين أو المصابين بأمراض مزمنة.

•  لكن يبدو أن الطرفين يتفقان على مجموعة وقائع، عرضتها كارولين واينبرغ.

بعد توسّع مشكلة البدانة بوتيرة ثابتة على مر عقود عدة، حافظت حالات البدانة في الولايات المتحدة على ثباتها أخيراً بين عامَي 2004 و2012 وبلغت نسبة 35%. أصبح وزن الجسم في الولايات المتحدة اليوم أعلى من أي وقت مضى، لكن يبدو أن تلك الزيادة المستمرة توشك على التوقف. ترتكز هذه الوقائع على معدل اسمه {مؤشر كتلة الجسم} ويمكن تحديده عبر تقسيم الوزن على الطول وقياسه بوحدات مترية. يُعتبر مؤشر كتلة الجسم أداة وبائية تُستعمل منذ قرون، وهو يهدف إلى تقييم معدلات البدانة ضمن المجموعات السكانية.

ونظراً إلى سرعة وسهولة استعمال هذه الطريقة لتقييم الوضع الصحي، اعتُبرت أداة تشخيصية نموذجية للمرضى. لكنها لا تأخذ بالاعتبار طريقة توزيع الدهون ونوعها وقوة العضلات والعمر والجنس أو حتى العظام الكبيرة. رغم هذه الشوائب، يتابع خبراء الرعاية الصحية استعمال مؤشر كتلة الجسم كقاعدة عامة. يُعتبر المؤشر الذي يتراوح بين 20 و25 {طبيعياً}، وكل من يسجل معدلاً أعلى من هذا المستوى أو أدنى منه يجب أن يسعى تلقائياً إلى اكتساب وزن صحي.

في عام 2009، ذكرت مجلة {لانسيت} أن معدل الوفيات زاد بنسبة 30% تقريباً مقابل كل زيادة بخمس نقاط في مؤشر كتلة الجسم فوق المعدل الطبيعي. شرح المشرفون على الدراسة البيانات ولاحظوا تراجع متوسط النجاة بسنتين إلى أربع سنوات لدى الأفراد البدينين الذين يتراوح مؤشر كتلة الجسم لديهم بين 30 و35. وإذا تراوح ذلك المؤشر بين 40 و45، يتراجع متوسط النجاة بثماني إلى عشر سنوات.

تُعتبر البدانة عموماً عامل خطر للإصابة بأمراض القلب والجلطات الدماغية والسرطان والسكري، فضلاً عن زيادة نسبة الوفيات الإجمالية. كذلك، يؤدي فائض وزن الجسم إلى زيادة الضغط على المفاصل والأعضاء الداخلية.

نظراً إلى هذه المخاوف المتعددة، يسهل أن نفهم ما جعل كثيرين يحتفلون بثبات مؤشر كتلة الجسم. لكن للأسف، قد لا تكون هذه الأنباء سارة بقدر ما نظن لأن مؤشر كتلة الجسم قد لا يكون أفضل مقياس للبدانة.

تُعتبر نسبة دهون الجسم ومحيط الخصر أو البطن مؤشرات شخصية موثوقة لتقييم النتائج الصحية أكثر من مؤشر كتلة الجسم بكثير. على سبيل المثال، تكون البدانة المركزية التي تقاس بمحيط الخصر أكثر دقة لتحديد الخطر الشخصي، حتى إنها تثبت وجود رابط أقوى مع نتائج الفحوص السلبية. تُسمى هذه البدانة {حشوية} أيضاً وهي تُعتبر أكثر خطورة من البدانة المحيطية (تقع على الأطراف) لأنها تشير إلى وجود فائض من الأنسجة الدهنية حول الأعضاء الحيوية: عملياً، يعني ذلك أن الشخص النحيل الذي يحمل دهوناً حول البطن قد يكون معرضاً لمخاطر صحية أسوأ من تلك التي يتعرض لها شخص رشيق يسجل معدلاً مرتفعاً من مؤشر كتلة الجسم. صحيح أن متوسط مؤشر كتلة الجسم في الولايات المتحدة أصبح ثابتاً وبلغ 28.8، لكن لم يتوقف حجم الخصر والبدانة في منطقة البطن عن التزايد. وفق {مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها}، يبلغ متوسط خصر النساء والرجال الأميركيين راهناً 37.5 و39.5 على التوالي.

الناحية الأيضية

لكن تفقد هذه الاعتبارات كلها أهميتها ما لم نعترف أولاً بأن البدانة تشكّل مصدر قلق مشروع في مجال الصحة. كل من يعارض هذه الفكرة يشير إلى أصحاب {البدانة الصحية من الناحية الأيضية}: إنهم المرضى الذين يسجلون وزناً زائداً لكن تثبت مؤشراتهم الحيوية أنهم يتمتعون بصحة جيدة بقدر أصحاب الوزن المثالي. بحسب رأي البعض، إذا لم يكن الشخص البدين معرضاً لمخاطر أيضية معروفة بارتباطها بزيادة نسبة الوفيات (ارتفاع ضغط الدم، ارتفاع معدل سكر الدم على الريق، تراجع مستويات الكولسترول الجيد، وارتفاع مستويات الشحوم الثلاثية في مجرى الدم)، فيجب أن يكون متوسط العمر المتوقع لديه مساوياً لمتوسط عمر أصحاب الوزن الطبيعي. وفق هذا المنطق، إذا كنت تستطيع أن تكون بديناً وأن تتمتع بصحة جيدة، فيجب أن يتوقف النقاش حول الوزن نهائياً.

إنها فرضية محيّرة، لكن ما الذي تثبته الأدلة المتوافرة؟ لمعرفة الجواب، راقب باحثون أستراليون مجموعة من المشاركين البدينين والأصحاء من الناحية الأيضية خلال فترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات. بدت مؤشراتهم الحيوية طبيعية في البداية، لكن ذكر فريق البحث في عدد من مجلة {رعاية السكري} في عام 2013 أن المشاركين كانوا أكثر عرضة للإصابة باضطرابات أيضية وبالسكري من المرضى غير البدينين في المجموعة المرجعية. أصبح ثلث المشاركين الذين كانوا بدينين وأصحاء من الناحية الأيضية في بداية الدراسة {غير أصحاء} في نهايتها. تبين أن الأشخاص الأصغر سناً الذين تتراجع لديهم البدانة المركزية (أي تراجع محيط البطن) يكونون أكثر ميلاً للحفاظ على بدانة صحية من الناحية الأيضية مع مرور الوقت. لكن بالنسبة إلى مجموعة مهمة من المشاركين في الدراسة، كانت {البدانة الصحية} مرحلة عابرة وقد مهّدت لنشوء مشاكل صحية.

يشير بعض الدراسات إلى أن البدانة الصحية من الناحية الأيضية لا تترافق مع ارتفاع خطر الوفاة، لكن تابعت تلك الدراسات حالات المشاركين لأقل من عشر سنوات. نُشرت نتائج معاكسة في مجلة {الكلية الأميركية لأمراض القلب} في عام 2015 وقد راقبت الدراسة البدانة الصحية من الناحية الأيضية طوال عقدين. لاحظ الباحثون بعد عشرين سنة أن نصف المشاركين الراشدين الذين كانوا يتمتعون ببدانة صحية من الناحية الأيضية باتوا يعانون من بدانة غير صحية. يوضح المشرف الرئيس على الدراسة، جوشوا بيل: {يكون الراشدون البدينون الأصحاء من الناحية الأيضية أكثر عرضة للإصابة بالنوع الثاني من السكري وبأمراض القلب والأوعية الدموية مقارنةً بالراشدين الأصحاء من أصحاب الوزن الطبيعي. كذلك، يميل الراشدون البدينون الأصحاء إلى تطوير بدانة غير صحية (إنها الجماعة الأكثر عرضة للخطر) مع مرور الوقت. يعكس فائض الدهون أصلاً وجود خلل أيضي وهو يرتبط بشدة بمشكلة مقاومة الأنسولين. قد يكون بعض الراشدين البدينين أفضل من ناحية توزيع الدهون وقد يُعتبَرون أصحاء نسبياً، لكن يتراجع عدد البدينين الذين يحافظون على مخزون دهني متوازن على المدى الطويل}.

يعتبر آخرون أننا ربما نستعمل نطاقات المختبر الأيضية التي لا تناسب البدينين الأصحاء. نُشرت دراسة في {مجلة الكلية الأميركية لأمراض القلب} في عام 2014 وقد خفّضت عتبة التشخيص عبر تحليل تكلّس الشرايين التاجية تحديداً لدى الأفراد الذين يبدون طبيعيين من الناحية الأيضية ولا يواجهون أي عوارض وقد كانوا من جميع الأوزان. سجّل المشاركون البدينون معدلات عالية من أمراض الشرايين التاجية الكامنة أكثر من أصحاب الوزن الطبيعي. لكن من خلال الاتكال على النطاقات الطبيعية نفسها للأفراد البدينين ولأصحاب الوزن الطبيعي، ربما نغفل عن أولى مؤشرات المرض.

لا شك في أن البدانة الصحية تبقى أفضل بكثير من البدانة غير الصحية. يعيش البدينون {الأصحاء} لفترة أطول ويمرضون في مناسبات أقل ويمارسون نشاطات جسدية أكثر من البدينين غير الأصحاء. لا أحد ينفي أهمية تراجع ضغط الدم والحفاظ على مستويات طبيعية من غلوكوز الدم. لكن تتعلق المسألة الأساسية بمعرفة ما إذا كان البدينون الذين يسجلون معدلات طبيعية في الفحوص المخبرية يتمتعون بصحة جيدة بقدر أصحاب الوزن الطبيعي الذين يسجلون معدلات مماثلة. وفق معظم الأبحاث الطبية الحيوية على الأقل، لا يكون الوضع مشابهاً بين الفئتين.

حتى لو كانت نوعية الحياة ومدتها متشابهتَين بين البدينين الأصحاء من الناحية الأيضية وأصحاب الوزن الطبيعي، يحصل ذلك مع أقلية من المرضى البدينين. ينطبق الأمر نفسه على كبار السن البدينين والمصابين بأمراض مزمنة كونهم يستفيدون من {مفارقة البدانة}، بمعنى أنّ الوزن الزائد يكون واقياً في حالتهم. هؤلاء الأفراد يشكّلون استثناءً على القاعدة. لا يمكن تحديد أسس الصحة العامة بناءً على الاستثناءات بل يجب التركيز على وضع الأغلبية. وبالنسبة إلى معظم الأفراد البدينين، تُعتبر كتلة الجسم الفائضة مشكلة صحية مقلقة.    

تتجاوز كلفة البدانة المرتفعة حدود الصحة الشخصية. مع ارتفاع معدلات البدانة، تزداد تكاليف الرعاية الصحية. وفق بعض التقديرات، نُسبت 20% من تكاليف الرعاية الصحية في الولايات المتحدة إلى البدانة. وأشارت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة {بروكينغز} في العاصمة واشنطن إلى أن الكلفة الاجتماعية للبدانة قد تصل إلى تريليونات الدولارات. أمام هذا الوباء المتنامي، سارعت المؤسسات الطبية وقطاع الحميات الذي يسعى إلى كسب الأرباح لترويج خيارات فقدان الوزن. لا يكفّ الأميركيون عن شراء منتجات النحافة ومشاهدة إعلانات التنحيف على التلفزيون، لكن لا تزال المشكلة على حالها.

الحلول

ظاهرياً، يبدو الحل بسيطاً: يمكن أن ينصح خبراء الرعاية الصحية الناس بكل بساطة بتخفيف الأكل، وتكثيف النشاطات الجسدية، والتوقف عن شراء المأكولات السريعة، وطبخ بعض الخضروات، والابتعاد عن التلفزيون والركض في الخارج، وتناول حصة من رقائق البطاطس بدل التهام خمس حصص منها.

إنها توصيات بديهية وهي مفيدة في بعض الظروف. ما لم تترافق البدانة مع مشكلة صحية أخرى، يُفترَض أن يؤدي تخفيض السعرات الحرارية المستهلكة وزيادة حرق السعرات إلى فقدان الوزن: إنها معادلة بسيطة ويسهل التحقق منها.

لكن يبقى القول أسهل من الفعل. نُشرت دراسة في {المجلة الأميركية للصحة العامة} وقد تعقّبت وزن أكثر من 270 ألف رجل وامرأة بين عامَي 2004 و2014. اكتشف الباحثون أن 0.5% من الرجال البدينين و0.8% من النساء البدينات فقط تمكنوا من بلوغ وزن طبيعي والحفاظ عليه. فاستنتجوا أن الشخص الذي يصبح بديناً يجد صعوبة كبرى في استرجاع وزن صحي. وفق بعض الأبحاث، ربما تتغير الهرمونات ويتبدل مستوى الجوع لدى الأفراد الذين يَعْلَقون في حميات متلاحقة ويدخلون في دوامة من تقلّب الوزن. وحتى لو نجح الفرد في فقدان الوزن، يجب التنبه إلى نوع الوزن الذي يخسره: قد يخفّض فقدان الدهون خطر الوفاة لكن قد يعطي فقدان العضلات أثراً معاكساً. وما هي طريقة فقدان ذلك الوزن أصلاً؟ يمكن أن يخسر الفرد جزءاً من وزنه عبر اتباع حمية ثابتة تتألف من البيتزا والبطاطا المقلية، لكن لن تحسّن هذه المقاربة وضعه الصحي العام.

يستعمل بعض مؤيدي حركة {الصحة بجميع الأحجام} عدداً هائلاً من دراسات  تعتبر فقدان الوزن غير قابل للاستمرار أو بلا قيمة، فيؤكدون بذلك أن الوزن ليس عاملاً يمكن تعديله، وبالتالي يجب أن نتوقف عن اعتباره قابلاً للتغيير. يعني ذلك عدم وجود أي طريقة حقيقية للتحكم بالوزن حتى الآن، وبالتالي لا يكون مؤشر كتلة الجسم جزءاً من مصيرنا. لكن نظراً إلى هذه التحديات، وعلى ضوء المسائل الثقافية والنفسية المؤثرة، يشكك البعض باعتبار الوزن جزءاً من النقاش الصحي.

يربّي الأميركيون جيلاً من الراشدين الذين يواجهون مشاكل الوزن الزائد والبدانة منذ الطفولة. لا يحملون معهم آثار البدانة الجسدية فحسب، بل يضطرون في بعض الحالات إلى مواجهة مظاهر التمييز وسوء المعاملة بسبب وزنهم. ما من نهاية مرتقبة لهذا الوضع. تعتبر عالِمة النفس ديب بورغارد، وهي خبيرة في معالجة الاضطرابات الغذائية من كاليفورنيا، أن زيادة المخاطر الصحية لدى البدينين لا تنجم عن فائض الأنسجة الدهنية بل عن {المعاملة} التي يتلقاها الشخص البدين، أي سوء المعاملة العاطفية من الجميع، بدءاً من الأصدقاء وأفراد العائلة الذين يحملون نوايا حسنة وصولاً إلى الأطباء والغرباء على الطرقات.

ينم ردّنا الثقافي على البدانة عن فشل ذريع لأنه يشمل السخرية من شكل الجسم والوزن: إنه موقف وحشي وغير إنساني وهو يقيّم الناس بحسب وزنهم. رسالة إلى الأشخاص الذين يحرجون الآخرين بحجة مساعدتهم: لو كان التهكم من الأولاد البدينين أو انتقاد الراشدين البدينين فاعلاً، لتراجعت حالات البدانة منذ سنوات. يجب أن تنحصر هذه المشاكل الصحية بين المرضى ومقدمي الرعاية الصحية. لن يفيد تمييز الناس بحسب وزنهم في فقدان الوزن ولن يساهم إحراج الناس في تحقيق النحافة، بل إنّ هذه المواقف قد تجعل الناس يكسبون وزناً إضافياً. يجب أن يشدد كل برنامج يركز على السلوكيات الصحية والوزن على أهمية أن يحبّ الشخص جسمه ويحترمه في جميع حالاته.

قالت بورغارد: {يجب أن نتساءل إذاً: هل يفيدنا التركيز على الوزن في شيء؟ حتى لو أثبتت البيانات اختلاف الوضع الصحي نسبةً إلى الوزن، لماذا نعتبر الأمر عامل خطر موجود في الجسم بدل أن يكون دليلاً على اختلاف الحالة الصحية بسبب التمييز على أساس الوزن، واللامساواة الاقتصادية، والعنصرية، وعدم الاستفادة من خدمات الرعاية الصحية؟}. هي تتحدث بكل اقتناع وشغف نتيجة سنوات من الخبرة والعمل مع أفراد يتم إسكاتهم وإطلاق الأحكام عليهم على أساس مظهرهم. تُضعِف بعض البيانات رأيها كونها تشير إلى وجود اختلاف في الوضع الصحي بين أشخاص من مختلف الأوزان، لكن تدعم أبحاث أخرى موقفها لأنها تثبت وجود رابط قوي بين الضغط النفسي المزمن والوضع الصحي.

لذا توصّلتُ إلى حل وسط. هل يمكن أن يكون المعسكران على حق؟ ألا يمكن أن نعترف بأن البدانة عامل خطر موجود في الجسم وأحد مسبّبات الضغط الاجتماعي في الوقت نفسه؟ تكون البدانة أكثر شيوعاً ضمن فئة الأقليات، أي أولئك الذين ينتمون إلى مكانة اجتماعية واقتصادية متدنية وإلى جماعات مستضعفة أخرى. بناءً على نقاط الضعف هذه، يبدو أن البدانة ترتبط بالنسبة إلى الكثيرين بأسلوب الحياة والبيئة المحيطة. الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من متجر كبير يبيع منتجات طازجة (ولديهم مساحة ووقت كافٍ لتحضير الطعام) يكونون أكثر ميلاً إلى تسجيل مؤشر كتلة جسم طبيعي. لكن يصبح الأثر معاكساً بالنسبة إلى المقيمين بالقرب من متاجر بقالة محدودة. الأشخاص الذين يعيشون داخل أحياء فيها أرصفة لائقة يمكن السير عليها يسجلون مؤشرات كتلة جسم ومعدلات بدانة أدنى من غيرهم. لكن عند العيش بالقرب من طريق سريع أو في شارع من دون أرصفة، ترتفع مستويات البدانة. يتكثف النشاط الجسدي عند وجود مساحة خارجية آمنة. إنها أفكار أساسية جداً وهي ليست معقدة بأي شكل.

هوس ثقافي بالوزن

تؤدي الحمية الغذائية والنشاطات الجسدية دوراً في محاربة البدانة، مع أن الناس لا يكفّون عن التجادل بشأن العامل الذي يحتل الأهمية الكبرى. في شهر مارس من هذه السنة، جرى التداول بافتتاحية وردت في {المجلة البريطانية للطب الرياضي} وكتبت ما يلي: {لا يمكن تجاوز أثر الحمية السيئة!}. حمّل الباحثون مسؤولية انتشار وباء البدانة لقطاع المنتجات الغذائية والحميات غير الصحية. سُحبت المقالة موقتاً قبل إعادة نشرها مجدداً وسط تضارب المصالح بين مختلف الجهات. رفض الباحثون الاعتراف بارتباطهم بقطاع الحميات الغذائية. لكن لا يعني ذلك أن المعلومة كانت خاطئة بالكامل. لا يمكن تجاوز أثر الحمية السيئة التي تكون غنية بالملح والدهون المتحولة والسكريات، بغض النظر عن ما تروّج له شركة {كوكا كولا}. يمكن الحفاظ على وزن صحي رغم اتباع حمية غنية بالدهون، لكنّ ميل المجتمع إلى استهلاك أكبر الوجبات يتصدى لهذه النزعة. وحتى لو بقيت حصة الطعام صغيرة، لن تعفيك النحافة من آثار التغذية السيئة.

قد لا تعوّض الحمية الصحية عن قلة النشاط الجسدي أيضاً. استنتجت دراسة نُشرت في مجلة {البدانة} في عام 2012 أن ارتفاع مستويات الرشاقة القلبية والتنفسية قد يساهم في مجابهة بعض الآثار الخطيرة لزيادة مخزون الدهون، ما يعني تراجع الوفيات بسبب السرطان. يرتبط تكثيف النشاط الجسدي أيضاً بتحسين نوعية الحياة، بغض النظر عن الوزن وحجم الجسم. بشكل عام، يمكن نَسْب وباء البدانة لقلة الحركة والحمية غير الصحية. لا داعي لاختيار عامل سلبي واحد.

تقول هارييت براون، أستاذة صحافة في جامعة سيراكيوز في ولاية نيويورك ومؤلفة كتاب {جسم الحقيقة} (Body of Truth) الذي يتطرق إلى الهوس الثقافي بالوزن: «لا أعرف ما يجعل النقاش يركز دوماً على إمكان استمرار ظاهرة البدانة مع أن الجدل الحقيقي يجب أن يتمحور حول جانب مختلف: هكذا هو الوضع الراهن. كيف يمكن أن نحسن صحة الجميع الآن؟ حتى لو أثبتنا نظرياً أن البدانة ليست صحية على المدى الطويل، لا يعني ذلك أن النحافة هي الحل لجميع المشاكل».

هي محقة تماماً. النحافة ليست العلاج الشافي. قد يكون الفرد نحيفاً لكن يمكن أن يتعرض للمخاطر الصحية التي يواجهها أي شخص بدين. يتناول الأشخاص ضمن هذه الفئة مأكولات غير صحية ولا يمارسون النشاطات الجسدية ويسجلون معدلات غير طبيعية في الفحوص المخبرية، لكنهم يتمتعون بأيض سريع أو معطيات وراثية مفيدة، فيحافظون على أفضل مستوى من مؤشر كتلة الجسم من دون بذل أي جهد. نادراً ما يشمل النقاش فئة {النحيفين المصابين بالبدانة} (يكون الأيض لديهم غير طبيعي لكنهم يحافظون على وزن مثالي) رغم أهمية هذه الخطوة. قد لا يتمتع الشخص النحيف بصحة جيدة، لكن لا يعني ذلك تجاهل الوزن.

وباء البدانة

في خضم هذه المعمعة، قرر البعض شن حرب صحية على الدهون. إنه قرار مؤسف لأن الصحة لا تقتصر على الحجم، بل إنها ترتبط أيضاً بنوعية التغذية والنشاط الجسدي. أصبح مصطلح {وباء البدانة} شائعاً على نطاق واسع ويمكن استعماله لإطلاق عناوين جاذبة بدل التحدث بكل بساطة عن {ارتباط السلوكيات غير الصحية المتزايدة بارتفاع مؤشر كتلة الجسم على الصعيد الوطني}. لكن يغفل هذا المصطلح عن نقطة أساسية في نقاشنا حول الصحة: ينتشر وباء السلوكيات غير الصحية أيضاً ويشكّل ارتفاع مؤشر كتلة الجسم أوضح دليل على ذلك.

تدعم الأبحاث العلمية وجهة نظر الأوساط الطبية: على المدى الطويل، لا يمكن الحفاظ على البدانة الصحية ويسبب فائض الأنسجة الدهنية مشاكل صحية خطيرة ومتعددة. لكن في المقابل يدعم تاريخ وباء البدانة معارضي هذه الفكرة: ثبت فشل الحرب الراهنة على البدانة كونها تبالغ في التركيز على فقدان الوزن كخيار علاجي.

لا يكمن الحل في اعتبار البدانة ظاهرة غير مهمة بل يجب إيجاد مقاربة جديدة لحل هذه المشكلة القائمة منذ عقود. يجب أن نركز على معالجة البدانة والوقاية منها، ولا يمكن أن يحصل ذلك عبر حميات مكثفة لفقدان الوزن فحسب، بل عبر مهاجمة أصل المشكلة أيضاً: إنها السلوكيات التي تضرّ بالصحة، بغض النظر عن حجم الجسم.

تحذر ديب بورغارد من تبني {النموذج المضرّ} الذي يعتبر البدانة حالة صحية: {نوجّه الناس نحو مسار فقدان الوزن مع أن هذه المقاربة ستفشل على الأرجح وستنعكس سلباً على المستوى العاطفي، وسرعان ما يستعيد الفرد الوزن الذي فقده. يعكس اكتساب الوزن طريقة الجسم للشفاء من الإهانة التي ترافق الحالة التقويضية غير الطبيعية التي يخوضها}.

لكني أعارض هذه الفكرة: إذا كنا لا نملك حتى الآن طريقة فاعلة للحفاظ على الوزن المفقود على المدى الطويل، فلا يعني ذلك أنّ هذا الهدف ليس صحياً. سيكون عدم اعتبار البدانة خطراً صحياً سلوكاً غير مسؤول: تبدو الآثار النفسية لمظاهر التمييز والسخرية من وزن الناس عميقة، لكن لا يستطيع خبراء الرعاية الصحية أن ينكروا وجود مشكلة صحية كبرى لأن المجتمع يتعامل بوحشية مع هذه الفئة من الناس.

يشير بعض النتائج الحديثة إلى أنّ أكثر من ثلث البريطانيين البدينين يعتبرون {وزنهم زائداً}. لكن لن يستفيد أحد (لا الأطباء ولا المرضى ولا العائلات) إذا سمحنا للناس بخداع نفسهم وبإعادة تحديد العلاقة بين الوزن والصحة. ربما بلغنا مستوىً طبيعياً جديداً، لكنّ هذا الوضع لا ينفي خطورة المشكلة. على صعيد آخر، من السخافة أن نختصر الوضع الصحي بمعادلة رياضية تقيس الوزن نسبةً إلى الطول.

ما الذي يجب أن نفعله الآن؟ من الناحية الثقافية، يجب أن نتقبّل مختلف أنواع الأجسام ونعترف بأن وزن الفرد ومحيط خصره لا يعكسان قيمته الحقيقية. يجب أن تعالج الحكومات والمجتمعات الشوائب الاجتماعية التي تعزز ظاهرة البدانة (الفقر، المناطق التي لا تستفيد من أغذية طازجة وصحية ومقبولة الكلفة، غياب المساحات لممارسة النشاطات الجسدية) لتمكين الناس من الاعتناء بصحتهم. على المدى الطويل، يجب أن تجد الأوساط الطبية أساليب فاعلة لمساعدة الناس على حماية صحتهم عبر حلول تضمن تصحيح أسلوب الحياة أو عبر تدخلات طبية، أو الخيارين معاً، بغض النظر عن حجم الجسم.

back to top