الصين... بين المكانة الرفيعة والأرباح

نشر في 30-08-2015
آخر تحديث 30-08-2015 | 00:01
كم يُعتبر الاقتصاد الصيني قوياً؟ وهل يستمر هذا البلد {مشغل العالم}، معتمداً على الأفكار والأوامر من الغرب؟ أم أنه سينجح في إنهاء قفزته ويطور اقتصاده ليصبح اقتصاداً قادراً على المنافسة في مجال التكنولوجيا العالية؟ وهل يجعل هذا البلد، الذي يُشكل المشتري الرئيس لمنتجات ألمانيا العالية الجودة، خطراً يهدد الصناعة الألمانية؟

تتجلى طموحات الصين كدولة صناعية بوضوح في ثلاثة مجالات كبرى في قطاع النقل: السيارات، وسكك الحديد، والطيران. وفي هذه المجالات نرى جلياً الدرب الذي يسلكه المخططون الصينيون، ما حققوه حتى اليوم، والعقبات التي واجهوها.

بلغت هذه المجالات الثلاثة اليوم نقطة تحول. يواجه سوق السيارات الصينية، الذي كان أحد ضمانات النمو والربح طوال 35 سنة، أزمة. فللمرة الأولى تتراجع معدلات النمو بشكل واضح، سواء كانت معدلات صانعي السيارات المحليين أو عدداً من شركائهم ومنافسيهم الدوليين. على سبيل المثال، أفادت مجموعة فولكسفاغن، التي تجني نحو ثلثي أرباحها في الصين، تراجعاً بنحو 4% في مبيعاتها خلال النصف الأول من 2015. ونتيجة عمليتي تخفيض لقيمة العملة الصينية، اليوان، تراجعت فرص صانعي السيارات الألمان أكثر في سوقهم الأكثر مردوداً. {شبيغل} سلطت الضوء على الموضوع.

يتحوَّل قطاع سكك الحديد الصينية بسرعة إلى رائد عالمي. فتتلقى شركات سكك الحديد الصينية طلبات أكثر من أي وقت مضى. ولا يبيع مصنعو سكك الحديد، عربات القطار، وسائر معداته، منتجاتهم في الصين والدول النامية في آسيا وأفريقيا فحسب، بل بدأوا يتلقون طلبات من الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً. كذلك ستفتح شركة سكك الحديد الوطنية الألمانية Deutsche Bahn مكتب شراء في الصين في فصل الخريف. ولا شك في أن هذا خبر مؤسف بالنسبة إلى مزودها الأساسي، سيمنز.

أما قطاع الطيران المدني، الذي يُعتبر الأكثر حداثة بين قطاعات النقل الصينية، فسيشهد قريباً أكبر تحول على الإطلاق. فتقدر بوينغ أن الخطوط الجوية الصينية ستشتري نحو 6 آلاف طائرة ركاب خلال السنوات الـ 18 التالية، أي نحو ست طائرات كل أسبوع. كذلك يخضع أكثر من 60 من مطارات البلد الـ 200 لعملية توسيع وتحديث، وثمة خطط لبناء 30 مطاراً إضافياً. وما هي إلا مسألة وقت قبل أن تتحول الصين إلى أكبر سوق جوية في العالم.

لكن دورات الابتكار التقنية تُعتبر أطول في عالم الطيران منه في قطاعي السيارات وسكك الحديد. لذلك على الصين أن تسرع إن كانت تأمل أن تكسر احتكار بوينغ وآيرباص الثنائي، مستفيدة بالتالي من حالة الازدهار في هذا القطاع. فما الدروس التي تعلمتها القيادة الصينية من قطاعيها الآخرين. وما ستكون العواقب بالنسبة إلى الأميركيين والأوروبيين؟

ازدهار قطاع السيارات

في صيف 2015، أُقيم معرض سيارات في شيامن، مدينة مرفأ مزدهرة في مقاطعة فوجيان. كان الزوار الأوائل يصطفون خارج باب مركز المعرض في السابعة صباحاً. ومع أن ثمن البطاقة يبلغ 50 يواناً (8 دولارات) للشخص الواحد، حضرت عائلات بأسرها.

تألف مركز المعرض من مبنيين كبيرين. عُرضت سيارات المصنعين الصينيين في أحدهما. خارج الصين، لا تبدو الماركات المحلية، تشيري، غيلي، غرايت وال، دونغفانغ، وSAIC، مألوفة إلا للخبراء في هذا المجال. كان الباعة يُروجون لسياراتهم الصغيرة والمتوسطة الحجم بعروض تصم الآذان. وكان بعض المشاركين في المعرض جالسين في نماذج سياراتهم والنوافذ مقفلة، فيما يلهون بهواتفهم الخلوية، منتظرين قدوم المستهلكين.

أما الماركات العالمية، مثل BMW، بيجو، بورش، دايملر، وفورد، فعُرضت في المبنى الثاني. كان الجو أكثر هدوءاً، مع أن حشود المستهلكين بدت أكبر بكثير. يوضح كسي كسياوبينغ، الذي كان يعدد مزايا سيارة دفع رباعي في زاوية تويوتا: {الطلب متقلب، إلا أن الاهتمام نما بانتظام خلال السنوات}. من الواضح أن المصنعين الغربيين يسيطرون على فئة السيارات الفاخرة. فتمثل الماركات الألمانية Audi، BMW، ومرسيديس وحدها نحو 70% إلى 80% من سوق السيارات العالية الجودية. حتى إن نصف سيارات دايملر من فئة S تُباع راهناً في الصين، حيث تكون السيارات من فئة S عادةً الأولى التي يشتريها نحو 12% من المستهلكين. وبخلاف Audi أو فولكسفاغن، اللتين واجهتهما أخيراً نكسة كبيرة، ارتفعت مبيعات ميرسديس بنحو 20% خلال النصف الأول من 2015.

لكن الشركات الأجنبية تسيطر أيضاً على فئة السيارات الصغيرة. فنحو ثلثي كامل السيارات التي تُباع في الصين يحمل أسماء ماركات أجنبية، في حين أن 38% فقط من الـ1.5 مليون سيارة مباعة في يونيو كانت إنتاجاً صينياً بالكامل.

لم يخطط أحد مطلقاً لهذه السيطرة الغربية، وخصوصاً الصينيين. فقد وضعت الحكومة في بكين ثلاثة أهداف، عندما بدأت تبني قطاع سيارات خاصاً بها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. كان الأول استيراد التكنولوجيا الغربية، الثاني إنشاء سوق سيارات واضحة البنى مع عدد صغير من المصنعين الفاعلين، والثالث جني المال، وخصوصاً العملة الأجنبية التي كانت تفتقر إليها الصين آنذاك، وذلك بتصدير السيارات.

بغية تحقيق هذه الأهداف، سمحت بكين للمصنعين الأجانب بالقدوم إلى البلد، إلا أنها أرغمتهم أيضاً على إقامة مشاريع مشتركة مع شركات صينية. فلكي تصبح جزءاً من طفرة السيارات الصينية، كان على الشركات الأجنبية أن تدخل في علاقات مع شركات صينية تابعة للدولة.

دروس ومشاريع

لم يتحقق الجزء الأكبر من هذه الأهداف. فما من انتقال مستمرّ للتكنولوجيا، لو تحقق السيارات الصينية نجاحاً كبيراً في عالم الصادرات، كما خطط الصينيون. فحتى الصينيون أنفسهم يواجهون صعوبة في التمييز بين شعارات مصنّعيهم المحليين.

رغم ذلك، ما زالت بكين تشدد على مطلب المشاريع المشتركة، لأن هذه المشاريع المشتركة الدولية-الصينية بلغت، لا بل تخطت هدفاً آخر: فقد حققت مع إنتاج سيارات الماركات الغربية للسوق الصينية مبالغ فاقت بأشواط ما تجرأ كلا الطرفين على التفكير فيه.

يكتب الخبير الأميركي غريغوري أندرسون في كتابه المميز عن قطاع السيارات الصيني Designated Drivers (السائقون المختارون): {جنت الشركات التابعة للدولة، على الأمد القصير، أرباحاً أكبر من إنتاج سيارات ماركات أجنبية، مقارنة بإنفاقها المال لإنتاج سياراتها الخاصة}. وإن صح ذلك، يكون ممارسو رأسمالية الدولة في بكين، على ما يبدو، أكثر اهتماماً برأس المال منه بأهداف الدولة، مثل الحصول على التكنولوجيا الغربية أو السيطرة على الأسواق العالمية.

يوضح أندرسون أن صانعي السيارات التابعين للدولة في الصين يسعون وراء الربح السريع، النمو بالأرقام المجردة، والحفاظ على الوظائف. أما المخاطر التجارية، فيتفادونها تلقائياً. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن مدراء الشركات التابعة للدولة، الذين تعينهم الحكومة، {يكتفون عموماً للشركاء الأجانب بالمساهمة بالكامل في تصميم السيارات، التي يجمعها بعد ذلك عمال صينيون وتُباع كماركات أجنبية}.

ثمة دروس ثلاثة من الضروري تعلمها من تنمية قطاع السيارات الصيني حتى اليوم.

أولاً، تُعتبر أهداف القيادة السياسية مهمة، إلا أنها أقل تأثيراً مما يفترض الغرب. صحيح أن الصين تتمتع اليوم بقطاع سيارات كبير، إلا أنه لا يشبه البتة ما أراده المخططون الحكوميون.

ثانياً، إن تطورت السوق بشكل مختلف عما هو متوقع، يبدو النظام مرناً كفاية للتأقلم. ربما تفضل بكين أمراً مختلفاً، لكن الصينيين يحبون ماركات السيارات الغربية أكثر من السيارات المحلية الصنع. نتيجة لذلك، لا تزال الشركات الصينية التابعة للدولة تنتج ماركات أجنبية رغم مرور 35 سنة، ولا شك في أنها تجني الكثير من المال من هذه العملية.

ثالثاً، أراد الحزب الاحتفاظ بسلطته، ويبدو في أوقات تراجع معدلات النمو أكثر توجهاً نحو الاستقرار الاجتماعي. صحيح أن نقل التكنولوجيا وتنمية القدرة الصناعية المحلية يُعتبران هدفاً مرغوباً فيه، إلا أن الأكثر أهمية بالنسبة إلى حكومات المدن والمقاطعات الصينية أن تؤمن الشركات الوظائف.

طموحات وانتقادات

من بناء سكك الحديد إلى تكنولوجيا الإشارات وعربات القطارات ومحركاتها، تشكل هذه كلها حقولاً نجح الصينيون فيها في توسيع خطط البناء الأجنبية (التي ما زالوا يشترونها) وتعديلها لتتلاءم مع حاجاتهم. فقد عمل المهندسون في مستويات الإدارة الوسطى، مثل رين شاوكيانغ، في الخارج، حتى إن بعضهم يدعون اليوم إلى الغرب للاستفادة من خبراتهم. يذكر رين: {نقف على أكتاف عمالقة آخرين. إلا أننا جمعنا كماً هائلاً من الخبرات والبيانات يفتقر إليه كثيرون آخرون}.

نتيجة لذلك، تحولت شركات سكك الحديد الصينية منذ ذلك الحين إلى منافس لمن تعلموا منها. تبني الصين اليوم سكك حديد في تركيا، الممكلة العربية السعودية، والأرجنتين، فضلاً عن قطارات الأنفاق في كوالا لامبور، أنقرة، وبوسطن. كذلك تشارك في مناقصات مشاريع كبرى، متعاونة مع شركاء دوليين في بعض الحالات. ومن هذه المشاريع خط سكة الحديد السريع المقرر إقامته بين لوس أنجليس وسان فرانسيسكو.

في الأول من يونيو، دمجت الصين عملاقيها في بناء سكك الحديد CSR وCNR، وأنشأت شركة سكة حديد أكبر من أقسام سكك الحديد في قادة السوق العالمية السابقين مجتمعة.

صحيح أن بكين تسعى بكل طموح وجهد إلى دخول السوق العالمية، إلا أنها لا تزال تواجه انتقادات مستمرة داخل الصين بشأن سياسة سكك الحديد الصينية. يقول خبير النقل زاو جيان من جامعة جياوتونغ في بكين: {ما عاد مشروع بناء خطوط سكك حديد عالية السرعة منطقياً من الناحية الاقتصادية. لذلك لا أتردد في إيقاف أي أعمال بناء إضافية في هذا المجال}.

يوضح زاو أن عدداً قليلاً من الخطوط العالية السرعة الـ 33 (مثل الخط السريع بين بكين وشنغهاي) يحقق الأرباح، إلا أن غالبيتها يخسر المال. ويضيف: {من بين 160 قطاراً مخططاً لها، 27 فقط تنتقل بين شيان وتشنغتشو}. فبدل بناء شبكات عالية السرعة، وفق زاو، على الصبن أن توسع نقل البضائع عبر سكك الحديد، علماً أن عمليات النقل هذه تبلغ اليوم نصف حجم البضائع التي كانت تُنقل عام 1998. ويؤكد: {آن الأوان لنبدأ بتوزيع ميزانيتنا بطريقة أكثر عقلانية}.

في هذا القطاع أيضاً، ثمة دروس ثلاثة يمكننا تعلمها من تاريخ الصين القصير مع خطوط سكك الحديد السريعة.

أولاً، تكوّن الصين اليوم فكرة أفضل عما تريده من الشركات الأجنبية، مقارنة بما كان الوضع عليه عندما انطلق قطاع السيارات. لذلك تعقد اليوم اتفاقات معها تعود بفائدة أكبر على شركاتها. كذلك صار مهندوسها يتمتعون اليوم بخبرات أكبر مما كانوا عليه قبل 30 سنة. نتيجة لذلك، بات الوقت الذي يتوقفون فيه عن تقليد ما ابتكره آخرون قريباً جداً.

ثانياً، بخلاف المراحل الأولى من نهضتها الصناعية، تتمتع الصين اليوم بموارد مالية لتطبق مشاريع تمنحها مكانة رفيعة أكثر منه المردود الاقتصادي. فإن شعرت قيادتها أن هذا ملائم، كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية بين عامَي 2008 و2009، فقد تحسّن مواردها بطريقة شبيهة بما قامت به الولايات المتحدة عندما وسّعت شبكتها الوطنية من الطرقات السريعة في خمسينيات القرن الماضي.

ثالثاً، حتى أصول الحكومة المركزية الصينية لها حدود. ما زالت بكين تهدر المليارات على مشاريع بنى تحتية لن تثمر على الأرجح. لكن الدعوات إلى الفاعلية والاستدامة تزداد ارتفاعاً. ولا شك في أن خطة القيادة الكبيرة لتحويل الصين من اقتصاد قائم على الاستثمار والتصدير إلى اقتصاد استهلاك وخدمات يعزز هذا الميل بالتأكيد.

سكك حديد العالم

في وادي جبل شاهق في مقاطعة تشينغهاي، التي تبعد ساعتين عن القرية التي وُلد فيها الدالاي لاما، كان قطار D2704 السريع المتجه من أورومتشي إلى لانتشو قد بلغ ارتفاع 3600 متر، عندما دخل بسرعة أحد النفقين عبر جبال كيليان سائراً بسرعة 250 كيلومتراً في الساعة. ينتقل القطار في الظلمة مدة دقيقة ونصف الدقيقة، ليخرج إلى النور لبضع ثوانٍ ويعود إلى الظلمة مجدداً، فيما يدخل القطار النفق الثاني، الذي يستقبل قطارات عالية السرعة ويُعتبر الأعلى في العالم.

يوضح المهندس المدني رين شاوكيانغ (48 سنة): {أربع دقائق! يحتاج القطار إلى أربع دقائق كي يعبر على طول سكة حديد استغرقنا بناؤها أربع سنوات}. أشرف رين، بعضلاته المفتولة وشعره القصير وسترته المجعدة، على بناء الجزء الأكثر صعوبة من سكة حديد لانتشين البالغ طولها 1800 كيلومتر، والتي تربط مقاطعات غانزو وتشينغهاي وسنجان الغربية، التي لا تضم عدداً كبيراً من السكان. فبفضل العمل الذي أنجزه هو وألفا رجل آخرون، ظهر رين على غلاف مجلة صناعية في اليابان، البلد الذي يحدد أعلى المعايير في بناء سكك الحديد.

يوضح رين: {صحيح أن اليابانيين ما زالوا يسبقوننا ببضع خطوات، لكننا نُعتبر راهناً الأفضل نظراً إلى الظروف التي نواجهها هنا}. تُعتبر جبال كيليان سلسلة فتية غير مستقرة جيولوجياً. لذلك يضيف: {شعرنا كما لو أننا أقحمنا أنبوبين في جبل يتألف نصفه من الصخر الصلب والنصف الآخر من عجينة الدخن. ولكن كما ترون، حققنا النجاح}.

يُعد تطوير الشبكة الصينية العالية السرعة إنجازاً كبيراً. وُضع أول قطار عالي السرعة قيد الاستعمال قبل ثماني سنوات فحسب. لكن الشبكة تغطي اليوم ألف كيلومتر من سكك الحديد، أي أطول من السكك العالية في الدول الأخرى مجتمعة. ويستعمل أكثر من 2.5 مليون مسافر هذه الدروب كل يوم، أي ما مجموعه 3 مليارات بحلول 2014. تملك الصين أطول سكة حديد وأعلاها ارتفاعاً عن سطح البحر في العالم، فضلاً عن أطول جسر سكة حديد في العالم، فهو يمتد على مسافة 164 كيلومتراً.

على غرار تنمية قطاع صناعة السيارات، سعت بكين لجذب الشركاء الغربيين واليابانيين في قطاع سكة الحديد. وكما في قطاع السيارات، فرضت عليهم الحكومة القيام بمشاريع مشتركة مع شركات تابعة للدولة الصينية وإقحامها في هذه التكنولوجيا.

نتيجة لذلك، واجه مدراء سكك الحديد في الشركات الأربع العالمية الكبرى، سيمنز (ألمانيا)، بومبارديه (كندا)، ألستوم (فرنسا)، وكاواساكي (اليابان)، معضلة: هل يستطيعون بمعارفهم أم بقدرتهم ولوج أكبر سوق محتمل لسكك الحديد في العالم؟

في النهاية، قررت هذه الشركات الأربع الكبرى وعدد من المزودين الذهاب إلى الصين. والتزمت هذه الشركات بمنطق لخصه  نائب رئيس الوزراء آنذاك (الرئيس الحالي لوحدة مكافحة الفساد في الحكومة) وانغ كيشان خلال اجتماع مع مدراء الشركات الأوروبية عام 2009، قائلاً: {أدرك أنكم تملكون الكثير من الشكاوى. لكن سحر السوق الصينية لا يُقاوم}.

لكن نتائج هذا التعاون جاءت مختلفة تماماً عما رأيناه في قطاع السيارات، وتجلت بسرعة أكبر. واجه قطاع سكة الحديد أيضاً الكثير من العقبات، بما فيها حادث قطار ضخم عام 2011 وسلسلة من فضائح الفساد. رغم ذلك، حققت بكين مرادها: شبكة عصرية عالية السرعة ومنافسة دولية في قطاع سكك الحديد.

حلم الطيران

يُعتبر الطيران المدني راهناً، ربما باستثناء اقتصاد الإنترنت على الأرجح، أكبر تحدٍّ تواجهه هذه الأمة الصناعية. يشير جيمس فالوز، خبير طيران أميركي وصحافي في Atlantic، في كتابه China Airborne (الصين المحمولة جواً): {إن حققت الصين نجاحاً كاملاً في الجو، فلا يعود أمامها من مستحيل من حيث المبدأ}.

بخلاف قطاعي السيارات وسكك الحديد، حيث ينافس المصنعون الصينيون عدداً كبيراً من الماركات والشركات الدولية، تحمل المنافسة في عالم الطيارين اسماً أو بالاحرى اسمين: بوينغ وآيرباص. من غير المنطقي أن نفترض أن اقتصاداً كبيراً كبر الصين اليوم قد يقبل بهذا الاحتكار الأميركي-الأوروبي الثنائي على الأمد الطويل، وخصوصاً في قطاع أعتبرته بكين {قطاعاً صناعياً مهماً} قبل عشر سنوات.

قسمت بكين اليوم السوق المحلية بالتساوي تقريباً بين الأميركيين والأوروبيين. تنتج بوينغ طائراتها في الولايات المتحدة ولها مزودون صينيون. وفي عام 2008، بنت آيرباض وشريك صيني نسخة مطابقة لحظيرتها لجمع الطائرات في المرحلة الأخيرة في تيانجين، حيث جمعت حتى اليوم أكثر من 200 طائرة من نوع A320. ومن المتوقع أن يصبح مركز مخطط له لمعدات قمرة القيادة في طائرات A330 قيد الاستعمال في عام 2017.

تقوم نواة ما سيصبح ذات يوم شركة بوينغ أو آيرباص الصينية في حظيرة تقع عند طرف قاعدة داتشانغ الجوية في شنغهاي، حيث يعمل لي جاكي. رأينا في الردهة نموذجاً لمقرات COMAC الجديدة. ستُقام هذه المنشأة مباشرة على المدرج الخامس في مطار بودونغ الدولي في شنغهاي. يوضح لي: {المباني التي انتهى بناؤها، والتي ستجمع فيها طائرات ARJ21 المحلية في المستقبل، ملونة بالأزرق. أما مباني خط الإنتاج المقرر تنفيذها للطائرات المتوسطة المدى، فستُقام في المباني البيضاء، في حين ستُخصص المباني الحمراء لإنتاج طائرات الرحلات الطويلة}.

سبق أن حُدد الجدول الزمني للطيران المدني الصيني، نوعه، ومصطلحاته. فقد استُهلّ الترويج في المحادثات عن الطيران لطائرات C919 القصيرة والمتوسطة المدى. وبعد تأخير متكرر، من المفترض أن تنهي هذه الطائرة اختبار الطيران الأول هذه السنة، في حين أن طائرة C919 العريضة الهيكل ستصبح جاهزة بحلول 2020.

يقول وانغ يانان (45 سنة) من جامعة بكين لعلوم الطيران والفلك: {لا أود المجازفة بإطلاق توقعات عما إذا كانت هذه الطائرات ستحقق النجاح. لا يتردد مدراء الطيران الصينيون في تحديد مواعيد الرحلات الأولى، علماً أنهم يعجزون عن الالتزام بها}. وهكذا دفعت عمليات التأخير المحرجة مع طائرات ARJ21 المحلية هؤلاء المدراء إلى التحلي ببعض التواضع في هذا الجو المشحون بمشاعر الوطنية في هذا القطاع، وفق وانغ.

يضيف وانغ: «في عالم الطيران، تعلمنا أن من غير الكافي المشاركة في الإنتاج الأجنبي كي نتمكن من التقليد بدقة». على سبيل المثال، تُعتبر التفاصيل الدقيقة في المعادن بالغة الأهمية، إن كانت ستُستخدم في إعداد شفرات عنفات الطائرة. ولا شك في أن هذا يشكل، وفق وانغ، خبراً مهماً بالنسبة إلى الأميركيين والأوروبيين القلقين حيال حقوق الملكية الفكرية. فلا يمكن بكل بساطة تقليد بعض المسائل، بل يجب تطويرها بشكل مستقل، وفق وانغ.

التوصل إلى توازن

يكتب الخبير الأميركي فالوز: {قد يكشف قطاع الطيران على الأرجح حدود النموذج الصيني، لا قوته غير المحدودة. فكي تنجح الصين في ابتكار طائرتها البوينغ الخاصة أو طائرتها الآيرباص الخاصة، عليها أن تتبدل وتختلف عن الصين التي نعرفها اليوم}. فالوصفة التي اعتمدها هذا البلد ليطور قوته الاقتصادية الكبرى (حجم كبير، ربح سريع، كلفة متدنية، وتساهل كبير مع المنتجات غير المتقنة) تناقض تماماً ما هو ضروري في قطاع مماثل، وفق فالوز.

نتيجة لذلك، يبدو أن الصين لن تنجح من دون خبرات أجنبية في مجال التكنولوجيا العالية في المستقبل المنظور. ولكن ما زال من المبكر الافتراض أن هذا البلد سيتابع  تصدير السلع التجارية التي تُنتج بكميات كبيرة فحسب في المستقبل القريب.

عاد مهندس الطيران لي، الذي أمضى فترة طويلة في العمل في الولايات المتحدة، إلى الصين قبل عشر سنوات، وهو متفائل كثيراً. يقول: «سنتعاون مع الشركات الدولية في كل القطاعات. ولكن ثمة مجالات علينا العمل فيها بكد بمفردنا». وتشمل هذه الإلكترونيات، فضلاً عن عنصر بالغ الأهمية في قطاع الطيران المدني: تطوير محركات محلية. يعتقد لي أن هذا التطور سيستغرق على الأرجح وقتاً أطول لتحقيقه، علماً أن السلطات أعلنت أنها ستبلغ هذا الهدف بحلول 2020.

قد يكون هذا الدرس الذي ستتعلمه الصين كأمة صناعية من تجاربها في قطاعي السيارات وسكك الحديد: على كل بلد، حتى لو كان بحجم الصين ولو كان يملك طموحاتها الهائلة، أن يتوصل إلى توازن بين توقعاته السياسية وواقعه الاقتصادي، وبين المكانة الرفيعة والربح. تستطيع الصين أن تدرس العلاقة بين الاقتصادات التي بدأت أيضاً درب التحول إلى أمة صناعية كبيرة بتقليدها المنتجات الأجنبية وبتحولها إلى {مشغل العالم}: ألمانيا، اليابان، وكوريا الجنوبية.

ترفرف راية حمراء متدلية من السقف فوق {الفنيق المحلق}، أول طائرة حديثة ستقدمها الصين في فصل الخريف. تحمل هذه الراية شعاراً كان من الممكن أن يعبر عنه مهندس في أي من هذه الدول: {الاعتماد على الجودة = النجاح}.

back to top