حين يموت الضمير

نشر في 30-08-2015
آخر تحديث 30-08-2015 | 00:01
 ناصر الظفيري في يوم من أيام الغزو العراقي للكويت كنا في الرياض نستقل سيارة الزميل الشاعر السعودي مساعد الرشيدي وكانت لوحاتها كويتية، كنت أجلس إلى جوار الزميل حين توقفت السيارات في الإشارة الحمراء وترجل من سيارة أجرة تتوقف إلى جانبنا رجل وألقى في حضني مجموعة من المصوغات الذهبية وراح يعتذر لنا بأن ذلك هو كل ما يملكه. حاول الرجل أن يعود إلى سيارته إلا أن الزميل الرشيدي استوقفه وطلب منه أن يأخذ الذهب محاولاًإقناعه بأننا سعوديون، لكن الرجل أشار إلى زوجته، وهو يقول: إن هذه المسوغات منها وإنه لا يملك إلا دعوتنا على الغداء. بعد إلحاح طويل وجدال بيننا وبينه أعدنا له المسوغات ولا أعلم هل صادف سيارة كويتية أخرى وأعطى الذهب لركابها أم لا.

حدث ذلك للكويتيين كما حدث للفلسطينيين من قبل في دول الخليج ومصر وأماكن أخرى حين كان ضمير الشعب العربي حياً يتوحد في ألمه وأحزانه بعيداً عن موقفه من السياسة ورجالها.

يموت الضمير البشري لدى الشعب حين تتحول كبرى مآسيه إلى العادية... يموت حين يجلس الناس على طاولة الطعام وهم يتابعون جوع أهلهم وعريهم وشتاتهم في الأرض التي ترفض استقبالهم ويقبلون أيدي الشرطة ورجال الحدود في دول أوروبا للسماح لهم بوجبة أو خيمة تؤويهم من البرد... يموت الضمير البشرى لدى الشعب حين يرى تفجير الأحياء وقطع الرؤوس حدثاً عادياً أو خبراً في نشرة لم يعد يثير موجعاً أو يحرك ألماً داخلناً.

استطاعت الأحداث الأخيرة أن تقتلع من الإنسان العربي حتى إحساسه ككائن بشري بما يجرى لإخوانه الذين يركبون البحر بحثاً عن مأوى هروباً من البراميل القاتلة والسكاكين الناحرة. ربما لا نستطيع أن نوقف حرباً أهلية ولا نمتلك القدرة على إعادة تأهيل الأنظمة المتهالكة، ولكننا بالتأكيد نستطيع أن نساهم بدرجة كبيرة في تخفيف عناء هؤلاء الأطفال والنساء واحتوائهم ليشعروا بأننا ملاذهم حتى يهدأ هذا الجنون الذي لن نتمكن من إيقافه. صور النساء العربيات وأطفالهن في البحر وعلى حدود دول فقيرة للبحث عن رحلة عبور آمنة إلى هولندا أو ألمانيا تدل بوضوح على أننا أمة مات ضميرها ولا يحتاج نعشها إلا إلى مسامير قليلة.

لم نعد نمتلك قدرة الحفاظ على موروثنا الحضاري الذي تدمره الجماعات الإرهابية، ولم نعد نمتلك القدرة على الحفاظ على الإنسان الذي شردته الحرب، وما نعانيه هو العجز الذي قتل داخلنا الشعور بالمسؤولية. جميعنا نعول على السياسية والسياسيين في المبادرة، ونبرر هذا العجز بأنه عجز حكومات، ولكننا كمؤسسات شعبية لا نقل عجزاً عنها. فشلنا في خلق مؤسسات شعبية بعد التجارب المريرة السابقة التي لم تستطع أن تحتوي بعض أزماتنا الإنسانية وتساهم في إعادة الحياة للضمير العربي الميت.

سنقف جميعاً أمام تاريخنا الملوث بلامبالاتنا واللجوء لفرديتنا وكأن ما يحدث لا يعنينا وليس علينا إلا أن نتعاطف معه من بعيد. نجح مشروع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة بامتياز... تهانينا سيدة "رايس". وحين تعودون للحكم فما عليكم إلا أن تركلوا هذا الضمير الميت ربما بخفة كما يليق به.

back to top