نوستالجيا الحب والدمار

نشر في 29-08-2015
آخر تحديث 29-08-2015 | 00:01
No Image Caption
أدري وأنا أخرج أن هذا الخراب سيعلق بذاكرتي إلى الأبد وأنه سيحرمني النوم ليالٍ طوال. الدموع جفت في مقلتيّ ولن تخرج، جمدت صمدت سيّان، ستبقى صامدة، جامدة، ذلك أني أعشق البيت العتيق، ترابه، حجارته وسقفه الخشبي، هذا المشهد جزء من ذاتي، تشكله الجدران ذات الألوان الترابية، الأبيض والبني والأحمر الآجوري، الأبواب الخشبية المهترئة، والشبابيك الحديدية ذات الزخارف الملتوية النابعة من أعماق الماضي، هي لا تدري أن التواءها يسبب لي التهاباً نفسياً حاداً هذه اللحظات.

أحياناً أشم رائحة الطين المرشوش بالماء، وأسمع خرير الهرة المرقّطة، وأسمع صوت جدي الذي ينادي، أسمع كل هذه الذكريات، تداعبني تقبلني ولكنها لا تمر دون أن تجرحني.

ألا يكفي أني أحتفظ بتفاصيل هذا البيت العتيق في ذهني، وفاء له؟ أي نوع من الوفاء هذا؟ لم التعلق بالتراب والحديد والخشب القديم؟

آه من رائحة أبواب العرعار المنقوشة ببساطة الماضي!

آه من خراب اللحظات الأخيرة!

لم يكن زلزالاً، كان أقبح من ذلك بكثير، لم يعد مهماً ما حدث بالضبط، المهم طريقة احتفاظ الذاكرة به.

لم يكن شيئاً مهيناً، كان أسوء من ذلك بكثير، لم يكن هناك وقت للإحساس بالإهانة، هناك فقط عذاب، عذاب ودموع متحجرة داخل المُقل. كان الناس يحتجون والجدات تولولن، والرجال يركضون إنقاذاً لما يمكن إنقاذه، إنقاذاً لكل شيء تجري فيه روح.

وكان لي الصمت، كاميرا خرساء تسجل في صمت هول اللحظات الأخيرة، كاميرا تسجل قدراً مخجلاً، ثابتة، تحاول استبطاء الكون ولو للحظات قصيرة.

لكنها ليست لحظات قصيرة إنها اللحظات الأخيرة.

السقف الذي راقبته منذ ولادتي، بخشبه الثقيل، البني الحنون، الجدران بألوانها الترابية الطبيعية والنوافذ الحديدية، حين تفقد هذه الأشياء تشكيلتها الطبيعية تصبح مأساة حقيقية.. لم تعد النافذة وسط الجدار والسقف لا يغطي الغرفة وأعمدته لم تعد متوازية بل مبعثرة بعشوائية الجنون. الجدران لها عنوان التحدي، صمود حجارة الأساس عنون اللحظات باسم التحدي، خجلت ألا تتحمل ثقل اللحظات؛ هي التي حملت البيت قروناً وقروناً.

تعانقت مكونات البيت العتيق مكونة كومة من الذكريات والآلام، ما آلمني أكثر الزرقة النيلية لغرفة الضيوف، تلك اللطخات من الأزرق التي طبعت كومة الخراب لتنهي لوحة الدمار.

-  هل كنت حاضراً؟

 - يا ليتني لم أكن حاضراً؛ لما أثقلت الذاكرة بالخراب والدمار. يا ليتني كنت غائباً، ويا ليتني لم أكن، يا ليتني ولدت في زمن آخر لا يحمل طعم الفجيعة.

حزن مراق على الأرصفة، يسحبه المطر في نواح إلى مجاري الأرق، قطع من اليأس تتجمع على حديد المداخل، وأنا أحترق، أخاديد جرح يتمزق، يصنع من الاحتمالات تسعين ألف وجه للقلق، يا دودة الخشب كفّي، كفّي عن النخر في العمق فما عاد القلب من جنس النطف. هو محجرة البرد محضن الصقيع. نتف من ريح الحرب تدق طبول الخوف.

جميع الأشياء في هذا الكون الفسيح، حين تتزحزح عن حيّزها الفضائي تسبب الفوضى والقلق.

ماذا حدث بالضبط؟

خراب اللحظات الأخيرة.

الفئران تهرب نحو الإنسان، حين كانت الحرب عادية ذات زمن، كان الفأر يجتهد في عدم التقاط هدايا الإنسان المسمومة، يتحايل ما استطاع لإقلاق راحته أو سرقة حبوبه أو فقط نخر أخشاب بيته ككل القوارض، أما في لحظات الخراب فالفئران تركض في اتجاهات متعددة لا تدري أي مصاب حل بها، تستفسر عدوها الأزلي رغبة في النجاة، في الفهم، لا فرق الآن بين فأر ورجل. الفأر يقف بمحاذاة جمل الاستفهام، يستنكر ويشجب ويهرب.

أما الدجاجات فتجري نحو السلال، تلتقطها الأم بيأس ملحوظ، ملحوظ على وجنتيها الحمراوين من أثر البكاء، لا وقت للبكاء، تحاول التقاط أكبر عدد ممكن من الدجاجات هذه التي تنفض ريشها خوفاً وذعراً، أما الديك فقد مات بكبريائه المعهودة، مات تحت حطام خمه، عزيزاً كريماً كأي بطل فضّل التحدي، فضّل الوقوف، إلى متى سيقف الأبطال؟

أما البقرات فرحلت في ساعات مبكرة، كانت أثمن من أن تنتظر اللحظات الأخيرة، كان الرهان فقط ضد الناس البسطاء والحيوانات الصغيرة. طاولة قمار بين الجبال، الرجل يرمي النرد والزمن يرمي القذارة في وجوه المساكين.

هل هذا سبب حزنك وغموضك؟ ما أوسمك بتاج الغموض والقلق!

  الحزن يلازمني بسبب الأشياء المتحجرة في الذاكرة، إحساس قديم بأن الأشياء تتهدم أمامك أو بمعنى آخر تتمزق داخلك، ولا تستطيع لمّها ومنع تشتتها.

فظاعة الخيانة هي في كونها شقيقة الألم وانعدام الثقة، تشتت الذهن والمشاعر كسكين حاد ينغرز في القلب لتقلب حياتك رأساً على نار.

هل كانت خيانة زمن أم خيانة وطن؟ هذا هو السؤال.

هل مات الناس أثناء الدمار؟

الموت شرف لم نملكه آنذاك، بل لنا حياة من الذل والهوان ورحلة نحو المجهول. نحو اللااستقرار حيث تنفر منا الأراضي لا لأسباب غجرية، فبيننا وبين الغجر ذلك الصدع المسمى الأرض الأم. آه لو كنت غجرياً! ما أثقلت جثتي بالمرافئ والمناديل البيضاء. ولكان مركبي في بلاد أخرى وراء البحر، ولكني لست غجرياً.

التشبث بالأرض، الأرض الأم، إلى درجة أكل التراب، هذا هو المشهد الذي هد وجودي وجعلني أكفر بالجمال والحياة. جدي الذي كبر على هذه الأرض ما زال يذكر أول شجرة خروب زرعها في صباه، رعاها حتى نمت، فأتت عليها آلة ضخمة كلعنة من السماء. حق له أن يأكل التراب أسفاً على التاريخ والأرض، لم يكن يملك غير الأرض يحرثها ويزرعها، يسقيها ويحصدها، يجادلها وتجادله، هي مجاله وامتداده، قمة إحساسه بالوجود أن يستيقظ فجراً ويذهب إلى إكران (وهي مدرجات على سفوح الجبال) لقطف حبة الطماطم والبصل وحفر درنة البطاطس وقطع غصن نعناع لصنع الشاي، يضعها في المطبخ وينصرف إلى حين إعداد الفطور، الفطور الثاني، فقد استيقظ فجراً وتناول الحريرة مع حبات التمر، سبع حبات كالعادة، وإن قلّت فخمس أو ثلاث، هذه الحياة القروية القانعة البسيطة هي كل ما يشكّل وعيه.

جنون إذن أن تأتي آلة ضخمة كالدبابة، لتهدم المنزل فوق الخضار والمائدة، جنون إذن أن تتحجر تربة إكران.

نعم إنه الجنون.

لقد أكل التراب، الجد أكل التراب.

من أجل هذا التراب قاوم الاستعمار الفرنسي، ودافع عن بلده باستماتة، حوصر وعُذّب وسجن، أيأتي اليوم من يحرمه متعة الموت فوق أرضه بعد أزيد من أربعين سنة من الاستقلال؟!

أن تُعذّب وتُهان من أجل وطن سيخونك حين تشيخ لم يكن في الحسبان. جد يأكل تراب حقله، إنه خراب اللحظات الأخيرة.

هو كذلك الوطن، إما أن يغنيك عن التدلل إلى أوطان أخرى وإما يدفعك دفعاً إلى الهجرة طالباً اللجوء الأدبي إلى بلد آخر.

هي كذلك الكتابة، تغنيك عن استجداء الوطن، وتدفعك دفعاً إلى الهجرة سراً طالباً اللجوء السياسي إلى قصص حزينة، تركب قوارب السطور في مغامرة بحياتك، تتلاطمك أمواج القهر والعنف والفقر، تبحث في أعماق البحر عن بطن حوت يونسي يحتضنك برأفة فإذا بك تسقط بين فكي قرش تمزقك أنيابه.

تعففك الأدبي وسياستك الكتابية حصن حصين ضد شرور الوطن.

لا يمكن أن تفهم الوطن، إنه كائن معقد حقاً وخيوطه أكثر تشابكاً من كبّة صوف في السدرة.

أحببت دوماً أن أكتب في السر وأخفي كتاباتي، لأن ما يدفعني إلى الكتابة شيء سريّ أيضاً فأحياناً آخذ القلم فقط لأمسح دمعة أو أعتذر عن غلطة.

أن تنظر إلى ذلك الخراب لن يجعلك تبكي، بل ستظل مشدوداً إلى مشهد الدمار بكل ما أوتيت من انتباه، ولن تجد فرصة للبكاء أو النحيب، سيبقى المجال مفتوحاً فقط لملامسة البقايا بعيون الألم.

لن أكتب؛ تلك المشاهد لا تُكتب، بل تعطل فعل الكتابة، ذكراها فقط تكتب بالجمر والنار، أما هي فتستعصي عن التعبير، منفلتة دوماً من قبضة الحروف.

أين كانت الحروف والكلمات حين أتت الجرافات على كل شيء، حين بدأت الدجاجات تهرب عن بيضها “تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} التبن يتطاير في الهواء، والحمير تنهق بجنون، صوت الضجيج يزعج ترتيب الأشياء في فضاء رتيب وساكن؟

وسائق الجرافة لم يبد قاسيَ القلب، بل كان يبكي، هل كان حقاً يبكي أم أنه منطقي البسيط الذي يرفض أن يصل إنسان إلى هذه الدرجة من القسوة والتحجر؟ أحاول أن أنظر في عينيه علَّ منطقي يستقيم، أيقوم بكل ما يقوم به وهو في كامل وجوده الإنساني؟ أيستطيع – وفق منطقي البسيط دوماً- أن يدمر قرية بكاملها وهو مرتاح الضمير؟

كان السائق يبكي، فمنطق الألم والحكمة يقتضي ألا نلوم السائق ولا حتى الجرافة، بل أن نلوم فكرة الدمار.

back to top