بردها لم يأتِ من النافذة

نشر في 29-08-2015
آخر تحديث 29-08-2015 | 00:01
No Image Caption
أتعبني بزياراته لي في أحلامي، في آخر مرة رأيته فيها كان طفلاً - ككل مرة - والجو ماطر، وهو مبتل يرتعش من البرد، والزرقة تصبغ شفتيه. التقطته بلهفة من يد صديقتي، التي لم تره في حياتها، والتي أراها للمرة الثانية في أحلامي. ضممته إلى صدري وأنا أردد في اطمئنان من يثق بقدرته على حماية من يحب: {بردان يا علي؟ بردان يا حبيبـي؟ بردان؟}. أفقت على صوتي يردد السؤال، ويداي تضمان الفراغ، ودمعي كشوك في الحلق. ولا أنكر رغم مرور أربعة أيام على الحلم، إلا أن رؤيته وهو في ضعفه ذاك، ما زالت تهتك جدار مقاومتي في الشوق إليه.

عندما يعمل الفكر المشوش كل الأصوات العاقلة تتوارى،

ضباب واضطراب،

لا رؤية كفلقة صُبح،

لا حدث واضحاً،

لا لون محدداً،

كل الأصوات والألوان تكون باهتة لدرجة الدهشة، ومهترئة كأحلامنا...

لكلام فنْ... وأنا إلى الآن لم أُتقن بعد هذا الفن مع القلّة المُحيطة بنا، فما بالك في المطعم حيث الجمع الغفير!

كان ردّها على ملاحظة {وعد} صديقتها في تجنبها دخول المطعم والاحتكاك بالطالبات يحمل الكثير من الهدوء الضَجِر، وحديثاً طويلاً لم تتبين أكثره.

أحياناً عدم الاستقرار النفسي يُشعرنا بعبثية ما نفعله.

«لا شيء مُهماً}... إنذار قديم يشع بقتامه داخلها، كلما خيّمت سُحب الكآبة عليها.

بملل تنظر إلى اللون الرصاصي الثقيل المغطي مساحة أرضية مسفلتة توصل إلى مباني الجامعة وطرقاتها ببعضها البعض.

كان الصمت ثقيلاً على نفسها هذا الصباح.

لم تتخلص من تفاصيل الحلم حتى بعد محاضرة العاشرة صباحاً.

تأملت ما حولها... ألوان تحملها أجساد أغلبها متناسق بديع... والجو غريب، وثقيل، لا هو بالحار ولا هو ببارد، ولا يمكن أن تسميه عليلاً، أم هو جو نفسها الداخلي؟

كان مبنى القبول والتسجيل أمامها مباشرة، وقاعة الطعام الكبيرة على يساره، وهي قد افترشت مع صديقتها الرصيف المقابل لكلية العلوم، والمبلّط بلونين شاحبين هما مزيج من الأحمر والأصفر.

انتشلتها من استحلاب الحلم من ذاكرتها عبارة مديرة الثانوية الثالثة وهي تقول بفخر في حفل تخرجهن: {كنت من أوائل خريجات كلية العلوم بجامعة الملك عبد العزيز، وكانت دفعتي هي الدفعة الأولى بعد افتتاح الجامعة}، يومها بلعتْ ابتسامتها سريعاً قبل أن تتحوَّل إلى ضحكة عندما سمعت تعليق {زينب} صديقتها: {ما شاء الله حضرتها من عام الفيل}.

احتل شعور طفيف بالمرح جزءاً من نفسيتها القاتمة هذا الصباح حينما حضر وجه زينب، كلهم يومها عوقبوا على تعليقها عداها طبعاً... كانت في وجه المدفع، في أول الطابور، لَبقة ومُجاملة ومُضطرة إلى الابتسام أمام تاريخ المديرة وحماستها.

زينب فلسطينية المنشأ، ذات الجواز اللبناني، وحب كبير للسعوديين الذين تربت بينهم، وأتقنت لهجاتهم. سبقَتهَا بعام ونصف في الجامعة، تزوجت خلاله وأنجبت زهرتين {دارين وشيرين}. كانت صداقتهما جميلة يُغلّفها الانسجام، لكنها أضحت مع اختلاف المحاضرات... متباعدة.

دمك اليوم ثقيل، ولما طالعتها العينان المستفهمتان، أكملت:

{والضرب فيك حلال}.

غمزت أروى بإحدى عينيها:

أرجو أن يكون غير مُبرح؟

ابتسمت «وعد» للتجاوب السريع، فأشارت برأسها إلى القلم ودفتر المحاضرات الذي أغلقته صديقتها منذ دقائق:

لم تريني ما كتبتِ؟

تمتمت وهي تصلح حزام حذاءها ليكون أكثر راحة:

- ليست بالشيء المهم... خاطرة، عابرة سبيل.

- أضحت خاطراتك كلها عابرات سبيل.

 لم تقرأ لها ما كتبت كما اعتادت منها. خنقتها في الداخل كما خنقها حلمها منذ الاستيقاظ.

نفسي طبعها يُحيرني،

صمتها يخنقني، وحيرتها تقتلني، وتفكيرها يتعبني، يتعبني.

هذه {أروى} طالبة الآداب بالسنة الثانية. تقاطيع ناعمة ومتناسقة يحملها وجه أبيض مُشرّب بالحمرة كميزة أهل الجنوب، وجسد لا شوائب فيه ولا زوائد. نظرات ثابتة، ولباس أنيق ومتجدد على الدوام... في شخصيتها مزيج من الهدوء والراحة... الاندفاع والكسل.

مبدأها الذي لم تُفصح عنه - فليس كل ما نؤمن به نُعلنه - والذي سيُغضب صديقاتها الطموحات، ويترك في الفراغ أكثر من تساؤل: {لا عمل.. ما دمتُ قادرة مادياً فلا عمل بعد التخرج}.

هي نقيض عجيب... قد تراها عيناك فترتاح لها، وعين أخرى ربما قد تنفر منها... أحياناً تخالها عبارة عن أفكار ثائرة سريعة كأنها القذائف، منشأها ضغوط عائلية وبعض القيود غير الشرعية. تتابعها أثناء المناقشات بفضول.. وفي الغالب هي هادئة، باردة، مُحلّلة رتيبة لدرجة الملل.

أفكارها مع الزميلات حروف ملونة. تستحيل إلى السواد عند بعضهم الخامل، وللبياض عند الآخر الذي يُشبهها، وآخرون يرونها كما هي حروفاً ملونة.

بعكس نقيضها “وعد}، الصديقة الثانية في المثلث العتيق... هدوء شخصيتها وثباتها أغلب الأحوال يلوح أعين الزميلات، ويدير أكثر من لسان للتباين الشديد بين الثلاثة.

ما دام الانسجام موجوداً، فلتخرس كل الألسن!

أزاحت الصديقة عن عينيها نظارة الشمس التي أخفت نصف وجهها طوال مكوثهما في الفناء الخارجي، جارت دفتر المحاضرات من يد صديقتها:

لنر ما كتبتِ.

لم تجادل الأخرى، سواء أكان فضولاً أو تطفلاً، حقيقة بدأت تتعايش معها أن هذه القشرة بدأت منذ وقت بالاحتراق بينهما، ولا تدري إن كان هذا أراحها أم العكس. قرأت وعد:

- نفسي طبعها... وصمتها يخنقني، قالت بشيء من التفكير، أظنها لذعة الفكر.

- ولم تفهم الأخرى، أو أنها فهمت، كان الفتور طاغياً، كان في فوران رغم صمتها الهادئ. عراك مع نفسها وحلمها واضطراب مشاعرها، وشمس الضحى مالت إلى الحرارة اللاذعة التي يعرفها سكان جدة لحد الإحساس بانزلاق العرق على طول الظهر.

- أعني من يملك لذعة الفِكْر تظل تحرقه حتى يُبدع، أظنك كذلك... كتاباتك تؤيد مقولتي، وما تشتكي منه...

- أنا لا أشكو... أعني أنني لا أحب الشكوى.

احتمت بسترتها التي تلبسها صيفاً شتاء، كانت اليوم بلون السماء صافية الزرقة تماشت في تناسق مريح للعين مع جونلة من الجينز الأبيض وقميص من اللون نفسه تكونت مربعاته الكبيرة من ثلاثة ألوان أصفر وزهري وأزرق فاتح، ضمت سترتها الثقيلة حتى تلاق طرفاها عاقدة عليها ذراعيها بإحكام.

وابتسمت الصديقة في سرّها أمام الكبرياء المريضة، لو كانت {ريم} هنا لما سلمت من لسانها. أكملت وعد وهي تنتقي كلماتها:

نعم. أعني نتيجة حتمية، بتعبير آخر، ظاهرة صحية، لما تحاولين إظهاره على الورق.

تعبيرها الدقيق أصاب مكاناً في نفسها، فهمست بتسليم:

صحيح. هذا ما أشعر به... حينما أبدأ في كتابة شيء ما وانتهي منه، أرتاح مؤقتاً، وفجأة يناديني التعب... لا... هو لا يناديني، أنا أسعى إليه عندما يغتالني موضوع جديد.

ولمّا انتهي من الكتابة، أكملت وهي تُحْكِم معطفها أكثر على جسدها، أشعر برأسي يضج بالهواء والأصوات الفارغة، فأعدو إلى التعب من جديد... أعني الكتابة أنا أعدو إليها.

صمتت بعنف كما بدأت وهي تتحسس جبينها الساخن، محاذية خطواتها بخطوات صديقتها الحثيثة إلى محاضرة الساعة الحادية عشرة..

أغلب موضوعاتها خواطر وقصص قصيرة.. نتاج طبيعي لما يفرزه عمر الحادية والعشرين، والموهبة الجيدة، والتفكير المستمر الممزوج بقراءة واطلاع دائبين.

أطرقت الصديقة هنيهة ثم رفعت وجهاً هادئاً إليها:

أفهم ما يجول في رأسك. أفهمك يا عزيزتي، ربما ليس تماماً، ولا دائماً، لكني أفهمك.

وهزت الأخرى رأسها في فهم:

وأنا يكفيني هذا...

تذكرت في صمت مقربين لها ما كُن يفهمنها في تعبها. فكرها المشحون بكل شيء، وأحيانا لا شيء... يقولون بشفقة في أنفسهم: جنون المراهقة وتبعاتها.

كانت الكبرى في أخواتها... الواجهة... كلمة عيب تقال لها وحدها، التحذيرات توجه إليها دون شقيقاتها، وأعين الخاطبات دائمة التلصص حولها.

لكن أباها أعلمها منذ البداية أنها لابنة صديقه المقرّب!

«أنتِ فقط دون شقيقاتك أريدك

لـ هشام}.

عندما طرق أول خاطب بابها كانت في الخامسة عشرة، قالت لأمها التي أربكتها لأعوام كلمتها: بعد الجامعة يا أمي.

«وهشام؟!»

وبلعت الأم تساؤلها أمام دهشة ابنتها واستنكارها...

طالعها في البعيد مبنى الآداب والعلوم الإنسانية، أو المبنى الثامن كما اختصرت تسميته... وخيالات طالبات التاريخ بالذات حدّدت مكانهن من الزجاج الكبير الذي أخذ الواجهة كلها... شلل من الطالبات افترشن المبنى في حلقات على الأرض، وقلة منهن وجدت ملاذها على المقاعد الشحيحة في البهو الكبير.

مبنى صاخب في كل شيء، في الألوان، وفي الأصوات... خلية نحل، والأقدام داخلة إليه، خارجة منه.

back to top