تنويع حول مفردة «الفساد»

نشر في 27-08-2015
آخر تحديث 27-08-2015 | 00:01
 فوزي كريم قلت اكتفيت من السياسة، في حديثيَّ السابقين، ولكن الشاعر قد يرى المشهد السياسي بوضوح مُفتقد لدى كتّاب السياسة، قال صاحبي مشجعاً، فهم في الغمرة ينفعلون، ولا يرون، وهو في برجه العاجي، يرى المشهد عن بعد واضحاً، كتفاصيل اللوحة. ورأيت من هذه التفاصيل كيف استُرخصت عمائم "الدين السياسي" من قبل الجمهور المسلم، وكيف توحّد صوت الناس المظلومين بصوت دين محمد المظلوم، صارخاً بوجه الديمقراطية المُستلبة العافية: لا للفساد.

والآن أود أن أتبين معنى هذا الفساد. إنه كامنٌ داخل صفقات المال المنهوب، مباشرة أو بواسطة. وأقول "كامن"، لأنه في حقيقته عرضٌ ظاهر لجذر متخف يُنبت للناس آفة السلطة الحاكمة.

الأحزاب الدينية وغير الدينية لم تأت بفعل انتخاب، أو انقلاب، بل قفزت كالبهلوان من راحة العملاق الأميركي على الأرض العراقية الخراب. وبخفة طائر قرّت في منطقة صدام حسين الخضراء (محلتي كرادة مريم سابقاً!)، وتناهبت قصوره الحصينة، واستقرّت. وكما تفعل الأحزاب عادة، حين تستحوذ على السلطة، عزّزت كوادرها بالمال والسلاح، وأحاطت هذه الكوادر بالمرتزقة، نهّازي الفرص المتربصّين. وثبات هذه الأحزاب على الأرض المحتلّة، يتطلّب مالاً، لا حكمةً، ولذا فنهب الأموال نتاجُ ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها، وهذا يعني أن الصرخة الغاضبة في وجه الفساد، تكاد تضيع في واد. وها أنت ترى وتسمع الآن كورال جميع قيادات هذه الأحزاب، وكوادرها، يُنشد، مُتطلعاً إلى السماء بروحانية عالية: لا للفساد.

لذا فالفساد صفةٌ لا تصح على أحزاب شرّعت للديمقراطية!، ثم تسلمت السلطة بانتخاب الناس! بعد أن دحرت ديكتاتورية صدام حسين! الفساد مفردة زئبقية الدلالة، تذكرني بصفة "السيد النائب"، التي حلّت محلَّ اسم "صدام حسين" باختيار الأخير، قبل أن يدحر البكر ويعلو رأس الهرم. كان يريد مفردة تصبح بفعل الذعر "غامضةً" و"سحرية". ولقد نجح في هذا المسعى بتفوّق، ولم يكتف الديكتاتور بذلك، بل أعطاها "صورة" عينية، في هيئة سيارات سوداء ست، بستائر مُسدلة أبداً. ومما عمق غموضها أكثر، أن أحداً لا يعرف عن يقين في أية واحدة يجلس "السيد النائب"، هذا إذا ما كان فيها أصلاً.

إن مفردة "الفساد"، التي أطلقتها الجماهير المتظاهرة، والتي تردَّد صداها على أفواه القيادات الحزبية الحاكمة، "غامضة" و"سحريةٌ" هي الأخرى. فالسيد رئيس الوزراء أعلن سعيه في القضاء على الفساد، واحتفت قيادات الأحزاب بهذا المسعى النبيل، واطمأنت كوادر الأحزاب من رعاية قياداتها. والآن ليشرع الجميع بتحديد معنى "الفساد"، حتى إن السيد الجعفري بادر، بفعل ثقافة حداثية، إلى الكشف عن طبيعتها، إذ وجدها قد تحولّت إلى "ثقافة فساد"، في المجتمع العراقي، بدءاً من المسؤول داخل أروقة الحكم، إلى بائع الطرشي في شارع الرشيد. هذه الثقافة المؤسفة وليدة عوامل تتطلب كتباً للخوض فيها. وستشرع الأحزاب الحاكمة في إجراءات البحث العلمي لتأليف هذه الكتب. وسيتطلب الأمر أعواماً.

حين تمكن صدام حسين من سلطته بصورة تامة، صار حزب البعث مجرد مظهر، يتمتع بفساد لا يشكل خطراً. وكذا شأن الأحزاب العقائدية المثالية، حين تتسلم سلطة، سرعان ما يهدم الواقع الحي معمارها المثالي، فتُطلع بالضرورة آفة من داخلها، في هيئة ديكتاتور لا يرمش له جفن.

في العراق اليوم لا تختلف أحزاب "الإسلام السياسي" عن أي حزب عقائدي، ولكن المخاطر تنتفي بفعل تعددها، إلا إذا ما انفرد واحد منها في الحكم، كما حاول الإخوان في مصر. ولكن هل يمكن تحويل أحزاب "الإسلام السياسي" إلى أحزاب مدنية؟

إن كسب المال الحرام باسم الإسلام يجعل الدين أوهى بنياناً من المصالح الدنيوية. وحزب "الإسلام السياسي" برمته يتطلّع إلى تلك المصالح الدنيوية، أكثر من تطلعه الديني، ولذلك يسهل علينا تصور هذه الأحزاب، وهي تتحول، بتغيير قياداتها، إلى أحزاب سياسية، يشبه إسلامُها إسلام أبي وأمي العامييْن، أو إسلام مرجع أعلى كالسيستاني.

back to top