الحب والشِّعر!

نشر في 27-08-2015
آخر تحديث 27-08-2015 | 00:01
 مسفر الدوسري كل الأغراض الأخرى للشِّعر- في نظري- ما عدا الحب والغزل ثانوية وعرضية، ويستطيع أي منتج أدبي أو فني آخر غير الشعر أن يفي بها ويعبّر عنها ويترجمها.

تأمّل الحياة من زوايا مختلفة والغوص في أعماقها، هذا دور يمكن للحكمة أن تقوم به، ويمكنها التعبير عنه بكلمات قليلة مكثّفة تختزل رؤية شاملة وعميقة للحياة.

معرفة الناس والخبرة في معادنهم وأفعالهم وأخلاقهم ووصفهم مدحاً أو قدحاً، هذه مهمة يسهل على الأمثال اختزالها في كلمات مسجّعة كالرصاص الذي لا يخطئ هدفه.

الوصف المادي لمظاهر الحياة مجال الرسم بلا منازع.

توثيق المواقف والأحداث مادة التصوير وفضاؤه الأرحب.

المشاعر المجردة من فرح وحزن وشجن وغضب وسكينة وغيرها من المشاعر الأخرى، تولّت الموسيقى أمرها وتسلمت رايتها بجدارة واقتدار وعبّرت عنها ببلاغة خصبة.

الحب فقط هو الذي يبقى عارياً تتناهبه يدا البرد والظلام من دون حضرة الشِّعر، الحب فقط دون أي شيء آخر في الحياة، لم يصطف سوى الشعر متحدثاً رسمياً له، يقوم بصياغة نشرته الإخبارية ويتولى قراءتها، وهو الذي يعدّ له قهوته الصباحية ويشاركه الفنجان، وهو الذي يفتح الستائر عن نوافذه في النهار ويغلقها في المساء، وهو الذي يسقي أحواض الورد على شرفته، وعندما يأرق الحب لا يتناول الأقراص المهدئة إلاّ من يد الشِّعر، الحب لا يثق سوى بالشِّعر رفيقاً له، يحدّد له مواعيد يقظته، ومواعيد نومه، بل ويحدّد له ساعة مولده ويوم وفاته، وهو الذي يصاحبه نزهات المساء، والجلوس معه على مقاعد الحدائق العامة في ليالي الصيف، وأمام الموقدة في ليالي الشتاء، وهو أنيسه في وحشته، ونديمه في وحدته.

أي لباس غير الشِّعر لا يمنح الحب ما يكفيه من الدفء، وأي ضوء غير الشِّعر لا يهبه ما يكفيه من النور، الشِّعر بخور الحب وأي قصة حب لا يعطّرها الشِّعر تخلو رائحتها من الطيب، وتخاصم ثيابها رائحة الورد!

كل قصة حب لا تفيض عليها شمس الشِّعر بضوئها تصيبها هشاشة العظام وتكون عرضة للكساح!

وكل حب لا يتوضأ بماء الشِّعر لا يطهر ويكون عرضة للدرن والأوساخ والنجاسة.

بغير الشِّعر تصبح شجرة الحب مرعى لدودة "السرو"، تصادر خضرتها وتخنق أنفاسها حتى تحتضر، ولا يبقى منها سوى جذعها الجاف الآيل للانحناء أمام أول هبوب ريح من جهة النسيان، والليف القابل للاحتراق مع أول شرارة لهب.

كل قصص الحب الخالدة والراسخة في الذاكرة الإنسانية خلّدها الشِّعر ولا شيء سواه، وقام بكتابة تلك القصص على ستار القلوب بمائه السحري فأبقاها عصيّة على النسيان، وجعل من تلك الحكايات آباراً لا تجف، كلما مرّت بها قوافل العطش وجدت فيها ما يذهب الظمأ ويرفع عن لهاتها البأس والضّراء، الحب والشِّعر توءمان مرتبطان ارتباطاً عضوياً وعاطفياً يصعب فصل كل منهما عن الآخر، فحياة كل منهما مرتبطة بالآخر، ووجود أحدهما مرهون بوجود الآخر.

لا أرض للشِّعر بغير الحب، ولا سماء للحب بغير الشِّعر.

back to top