عين هوبرت سوبر المتمرّدة على جنوب السودان في We Come as friends

نشر في 24-08-2015
آخر تحديث 24-08-2015 | 00:01
No Image Caption
يتجوَّل ولد عارٍ يحمل قنينة بلاستيكية على درب ترابي، غافلاً عن تاريخ بلده القاسي أو غير مستعد لمستقبله. استُبدلت بالرماح بنادق رشاشة. ينقب الأجانب عن النفط، فيما يغني الأولاد وسط الغبار. يوزع المرسلون أناجيل مسجلة تعمل بالطاقة الشمسية. ومع حلول الشفق فوق هذه الأراضي المعشوشبة، تغرورق عينا أحد زعماء القبائل بالدمع، بعدما باع كل ممتلكاته مقابل حفنة من المال. يشكل We Come as Friends رحلة عميقة داخل الاستعمال، العولمة، والفساد اللذان خربا الجزء الأكبر من إفريقيا. يمثل الفيلم الوثائقي من إخراج Hubert Sauper سجلاً بالمظالم (بعضها متعمداً وبعضها الآخر وليد السذاجة) التي اجتاحت جنوب السودان، المكان الأكثر عرضة للخطر في العالم منذ الاستقلال عن السودان عام 2011.
يمثل الفيلم رحلة عبر الفقر، والجشع، الخداع والموت. يسافر سوبر من قرية إلى أخرى في طائرة فضية محلية الصنع يدعوها جزازة عشب بجناحين. فيُستقبل بالذهول، الفرح، الفضول، والريبة. وفي كل نقطة يتوقف عندها، يحاول إظهار معاناة الأرض والشعب، بدءاً من الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، مروراً بالحرب الباردة، وصولاً إلى تبدل نظام العالم الحالي، حيث يشكل عمال النفط والمضاربون الصينيون آخر مستكشفي هذه القارة.

يوضح سوبر، مغامر وناشط نمساوي: {يدور الفيلم حول ظروف الإنسان، الأحوال القاسية، والتصادم بين الإمبراطوريات والحضارات. اتخذ من قول لمارك تواين شعاراً لفيلمي هذا: التاريخ لا يعيد نفسه، بل يتناغم. ندرك هذه القصص، إلا أننا لا نقر بأنها تحدث المرة تلو الأخرى: التشبيه ومفارقات الشذوذ المتكرر}.

تشكل إفريقيا طيفاً يمكنك من خلاله قياس حظوظ وإخفاقات القوى الناشئة والمنهارة في العالم. كذلك يشير الفيلم إلى العداوات القبلية التي تحولت عام 2013 إلى حرب أهلية أودت بحياة عشرات الآلاف، هجرت أكثر من مليونين، وتفاقم مجاعة وشيكة تهدد أكثر 50 ألف ولد. لكن الجزء الأكبر من We Come as Friends يشكل رواية ملطفة للأجيال، ويعكس خطط الوافدين من الخارج ووعودهم المنسية.

يذكر رجل مسن في الفيلم، كما لو أنه يروي قصة غريبة قبل النوم: {دعوني أخبركم عن أناس، مثل الأوروبين والأميركيين، تركوا موطنهم وبدأوا يستعمروا بلداناً أخرى التي سيطروا عليها بالقوة. وقع كثير من الحروب، وقسموا إفريقيا إلى أجزاء، ثم دعوها {أمماً حرة}. انطلقوا بعد ذلك في الفضاء واستولوا على القمر. هل تعلم أن القمر ملك للرجل الأبيض؟}.

فضح الجرائم

سوبر رجل متمرد قرر فضح الجرائم التي ارتكبها الأقوياء بحق الضعفاء. في فيلمه الوثائقي السابق Darwin’s Nightmare، الذي رُشح لجائزة أوسكار، يكشف أن سمك البياض النيلي كان يُشحن من بحيرة فيكتوريا في تنزانيا إلى الأسواق العالمية، فيما كان السكان المحليون يواجهون خطر المجاعة. وفي فيلمه Kisangani Diary، تتبع آلاف اللاجئين الروانديين وهم يهيمون في الأدغال المتوحشة، هذا الشعب الذي وُصف {بأنه منسي عن عمد، شعب يتجاهل سائر العالم}.

لا تختلف لهجة We Come as Friends وأسلوبه عما نراه في Virunga، فيلم وثائقي عام 2015 رُشح لجائزة أوسكار وتناول تهديد التنقيب عن النفط حياة القرويين وحيوانات غوريلا الجبال في منتزه وطني وحوله في جمهورية الكونغو الديمقراطية. يغوص الفيلمان في انتهاكات الغرباء وحيرة السكان المحليين، الذين يعارض بعضهم ما يحدث، في حين يتواطأ آخرون معه.

يتحدث سوبر همساً، إلا أنه يجد نفسه غالباً في ورطة. فقد واجه فريق عمله الصغير الملاريا واللصوص. خلال تصوير We Come as Friends، سُرقت معداته وتعرض مساعد الطيار لإطلاق نار في محنة أدت إلى مقتل اثنين من المقاتلين في دولة كينيا المجاورة. يسلط سوبر الضوء على انتهاكات تُعتبر فاضحة على نحو ساخر. تحفل اللقطات التي صورها بصور مثيرة للاهتمام، مثل عاصفة غبار أو ولد أسود في مكب للنفايات يبدو كما لو أنه يطوف فوق بحر من قناني البلاستيك الشفافة.

يكتب روب نيلسون في Variety: {يمثل نظرة معدة بإتقان ومليئة بالغضب المبرر إلى الاستغلال الاستعماري الجديد في جنوب السودان}. ويضيف أن We Come as Friends {مصور بإتقان، ما يساهم في جعل الفظائع أكثر بروزاً}.

على نحو مماثل، ذكرت مجلة Hollywood Reporter أن Darwin’s Nightmare وWe Come as Friends يشكلان {إشارة قوية إلى نظام سقيم، مع أن الفيلمين يبدوان عفويين من دون اللجوء إلى الوعظ أو التحرير المفرط، وذلك بفضل سوبر، ما يمنح المشاهد الانطباع أنه توصل إلى الخلاصات المقلقة من تلقاء نفسه}.

تنبع هذه الخلاصات من الاختلافات الثقافية. ففي أحد المشاهد، يصر المرسلون من تكساس على إلباس أولاد القرويين العراة الجوارب والأحذية. تبدو نواياهم حسنة. لكن هؤلاء الأميركيين يحاولون نشر الدين في جنة قاسية لا يفهمونها. وهكذا يحاولون فرض بعض المعايير الغربية والقليل من الحداثة في لحظة فكاهية تبرز عقوداً من الاستعمار.

يقول سوبر (49 سنة)، الذي يعيش في فرنسا: {ما إن يلبس الجوربين، حتى يُحكم عليه بالهلاك. عندما يكبر، سيحتاج إلى شراء المزيد والمزيد من الجوارب. سيصبح حارساً في حقل نفط، وسيُطلق النار على أخيه}.

أنماط

بدأ افتتان سوبر بأنماط العالم الثنائية اللغة حين كان صبياً في جبال النمسا في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. يخبر: {كانت شياطين الريخ الثالث لا تزال حية في البالغين. رأينا كلنا النازيين في الأفلام، رأيتهم في باحة المدرسة}. أدار والداه (أبوه كاتب وأمه مغنية) نزلاً وصادق جنرالاً أميركياً أرسل الجنود إلى الفندق لقضاء الإجازات. تحولت البلدة، وفق سوبر، إلى مكان نقاهة {للجنود المجانين مدمني المخدرات العائدين من حرب فيتنام والنازيين القدماء. نتيجة لذلك، شهدنا تصادماً بين عالمين}. يؤكد أن هذه التجربة ساهمت في صوغ مبادئه كصانع أفلام. ويضيف: {ماذا وراء الصورة؟ وما تخفي المظاهر؟}.

يتابع سوبر موضحاً أن عبثية إفريقيا وألمها يوضحان غنائم التاريخ والعولمة. يقول سوبر، الذي يعمل على مشروع جديد عن السينما كوسيلة دعاية: {طاحونة الجنون هذه مترابطة جداً، ما يجعلها مثالية بالنسبة إلى معد أفلام. تعثر على أكثر مما تبحث عنه. هذا مذهل}.

يشكل جنوب السودان إطاراً مضطرباً للكشف عن واجهة إفريقيا والعالم الزائفة. فبعد الإخفاقات الاستعماراتية والمحلية، تمسك هذا البلد، الذي يعد نحو 11 مليوناً، بأمل أن يرفعه النفط والموارد الطبيعية من البؤس المتفشي في هذه القارة. وظلت أنظار العالم مركزة على جنوب السودان حتى تحول الانتباه إلى الانتفاضات العربية التي بدأت عام 2011، بعد عشرة أيام من استفتاء الاستقلال.

حرب أهلية

يغرق جنوب السودان  اليوم في حرب أهلية بين قبائل الدينكا والنوير أدت إلى عمليات اغتصاب جماعية، إحراق قرى بأكملها، وخصي صبية. استؤنفت مفاوضات السلام هذا الشهر. لكن  البلد تحول إلى قصة أخطاء سابقة وفظائع حالية، أرض نُهبت فيها المستشفيات ولا تضم إلا نحو 200 ميل من الطرقات المعبدة.

يشير سوبر: {بات البلد اليوم معسكرين تابعين إلى زعيمي حرب. تدور المشاكل حول أي قبلية ستوقع الاتفاق مع شيفرون أو غيرها من شركات النفط. هذا هو الأهم. دُفعوا إلى جو ما عاد أمامهم أي أمر آخر غير الهلع. باتوا أشبع بهر يقضم ذيله. ولكن من الجنون أن نلومهم وحدهم}.

مع طائرة فضية وحماسة متمرد، يهبط سوبر من السماء ليلتقط صوراً لا تُمحى: عمال النفط الصينيون وهم يشاهدون {حروب النجوم}، ثم يناقشون تتبع خطوات المستعمرين الأوروبيين، رجل يغطي جسمه برسوم قبلية وجلد نمر يرقص وسط حشد حضر ليسمع خطاب سفير أميركي قدم ليتحدث عن التقدم والكهرباء، وزعيم قرية مذهول بعدما علم أنه باع الموارد الطبيعية في 600 ألف هكتار تملكها قبيلته مقابل 25 ألف دولار لشركة تطوير من تكساس.

يخبر الزعيم: {كان آباؤنا محاربين ومقاتلين أقوياء. لكني أواجه اليوم مأزقاً. يظن شعبي أنني تخليت عن أرضنا}.

اجتمع أعضاء قبيلته وتأملوا العقد، فهمه البعض ولم يفهمه آخرون. يبدو الزعيم مصدوماً، شخصاً منحنياً وحيداً في ظلمة الليل. يقول سوبر: {يرمز هذا الرجل المسن إلى الحياة القديمة. بات منبوذاً. لن يقود سيارة جيب رباعية الدفع. لم يحمل هاتفاً خلوياً، بل تلاعبت به قوى خارجية}.

back to top