لا لدعاة الحرب

نشر في 05-08-2015
آخر تحديث 05-08-2015 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت  كان الاتفاق الذي تم التوصل إليه في فيينا لكبح جِماح الأنشطة النووية في إيران سبباً في إصابة دعاة الحرب بحالة من الهياج الشديد، وينبغي للمواطنين في مختلف أنحاء العالم أن يدعموا الجهود الشجاعة التي يبذلها الرئيس الأميركي باراك أوباما لإحباط مناوراتهم، وأن يستمدوا الشجاعة والجرأة من حقيقة مفادها أن قائمة الموقعين على الاتفاق لا تشمل الولايات المتحدة فحسب، بل كل الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إضافة إلى ألمانيا.

الواقع أن حكومة أوباما ذاتها لا تخلو من دعاة الحرب، ويناضل أغلب الأميركيين في محاولة لإدراك أو فهم الحالة الأمنية الدائمة التي تعيشها بلادهم، حيث يبدو الأمر وكأن الساسة المنتخبين هم من يديرون العرض، ولكن كثيراً ما يكون زمام القيادة في يد وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع، وهي الحالة التي تتحرك بطبيعتها نحو الحلول العسكرية لا الحلول الدبلوماسية، لتحديات السياسة الخارجية.

منذ عام 1947، عندما تأسست وكالة الاستخبارات المركزية، كانت الولايات المتحدة تدير سياسة مستمرة شبه سرية وشبه علنية تسعى إلى إسقاط حكومات أجنبية، والواقع أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت مصممة لتجنب الإشراف الديمقراطي الحقيقي وتزويد الرؤساء بقدر من «الإنكار المقبول»، وقد استمرت وكالة الاستخبارات المركزية في إسقاط عشرات الحكومات في مختلف مناطق العالم، من دون التعرض لأي قدر من المساءلة سواء هناك أو في الداخل.

مؤخرا، تناولت بالدراسة إحدى فترات نشاط وكالة الاستخبارات المركزية في كتابي «تحريك العالم: مسعى جون كينيدي من أجل السلام». بعد فترة وجيزة من تولي كينيدي منصب الرئاسة في عام 1961 «أبلغته» وكالة الاستخبارات المركزية بمكيدتها الرامية إلى إسقاط فيدل كاسترو، وشعر كينيدي بأنه في ورطة: فهل يقر غزو وكالة الاستخبارات المركزية المخطط لكوبا أم يعترض عليه؟ ولأن مثل هذه الألعاب المروعة الشنيعة كانت جديدة عليه، فقد حاول كينيدي التعامل مع الأمر من كلا الاتجاهين، فسمح بالعملية ولكن من دون غطاء جوي أميركي.

وكان الغزو بقيادة وكالة الاستخبارات المركزية، والذي نفذته مجموعة متنافرة من المنفيين الكوبيين في خليج الخنازير، فشلاً عسكرياً وكارثة في السياسة الخارجية، وقد أفضى إلى اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية في العام التالي. وأثناء أزمة الصواريخ، كان أغلب كبار المسؤولين الأمنيين الذين تولوا مهمة تقديم المشورة للرئيس راغبين في شن عمل عسكري ضد القوات السوفياتية، وهو المسار الذي كان سينتهي إلى الإبادة النووية، بيد أن كينيدي رفض مشورة دعاة الحرب، وكانت له الغَلَبة في الأزمة من خلال الحلول الدبلوماسية.

وبحلول عام 1963 لم يعد كينيدي يثق بمشورة العسكريين ووكالة الاستخبارات المركزية، والواقع أنه كان ينظر إلى العديد من مستشاريه المفترضين باعتبارهم يشكلون تهديداً للسلام العالمي، وفي ذلك العام استخدم كينيدي الدبلوماسية بلا هوادة وبمهارة للتوصل إلى الاتفاق النووي الخارق مع الاتحاد السوفياتي، معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية.

وسارع الشعب الأميركي بقوة- وعن حق- إلى دعم جهود كينيدي ضد دعاة الحرب، ولكن بعد ثلاثة أشهر من توقيع المعاهدة، اغتيل جون كينيدي.

من منظور التاريخ، تتلخص وظيفة رؤساء الولايات المتحدة الرئيسة في الاستعانة بالقدر الكافي من النضوج والحكمة للوقوف في وجه آلة الحرب المستديمة، وقد حاول كينيدي؛ ولكن خليفته ليندون جونسون لم يفعل، وكانت كارثة فيتنام هي النتيجة، كما حاول جيمي كارتر؛ ولكن ريغان لم يفعل (ساعدت وكالة استخباراته المركزية في إطلاق العنان للموت والفوضى في أميركا الوسطى طيلة ثمانينيات القرن العشرين). وحاول كلينتون غالبا (ما عدا في منطقة البلقان)؛ ولم يفعل جورج بوش، بل كان حريصاً على توليد حروب واضطرابات جديدة.

في عموم الأمر، حاول أوباما كبح جِماح دعاة الحرب، ولكنه كثيراً ما استسلم لهم، ليس بالاعتماد على طائرات مسلحة بدون طيار فقط، بل أيضاً بشن حروب سرية في سورية، وليبيا، واليمن، والصومال، وأماكن أخرى من العالم، ولم يعمل أوباما حقاً على إنهاء الحروب الأميركية في العراق وأفغانستان؛ بل استعاض عن القوات على الأرض بالطائرات الأميركية بدون طيار، والغارات الجوية، والمتعاقدين «السريين».

من المؤكد أن التعامل مع إيران يُعَد أفضل لحظات أوباما، فهو يمثل حدثاً تاريخياً يستحق التأييد التام، والواقع أن الصعوبات السياسية التي ينطوي عليها صنع السلام مع إيران تماثل تلك التي واجهت جون كينيدي في صنع السلام مع الاتحاد السوفياتي في عام 1963، فكان الأميركيون متشككين في إيران منذ اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979 وأزمة الرهائن اللاحقة، حيث احتجز طلبة إيرانيون 52 مواطناً أميركياً في السفارة الأميركية لمدة 444 يوما. ولكن شكوكهم تعكس أيضاً استغلال النعرة القومية المتعصبة والافتقار إلى المنظور السليم للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران.

كان قِلة من الأميركيين يعلمون أن وكالة الاستخبارات المركزية أطاحت بالحكومة الإيرانية الديمقراطية في عام 1953، فقد تحلى الإيرانيون بالجسارة والجرأة لانتخاب رئيس الوزراء التقدمي العلماني الذي كان يعتقد أن ثروة البلاد النفطية تنتمي إلى شعبها لا المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، وقليلون من الأميركيين يتذكرون أن وكالة الاستخبارات المركزية أقامت بعد الانقلاب دولة بوليسية وحشية تحت حكم الشاه.

وعلى نحو مماثل، في أعقاب الثورة الإيرانية في عام 1979، سلحت الولايات المتحدة العراق في عهد صدّام حسين لكي تخوض حرباً ضد إيران، وهي الحرب التي أسفرت عن مئات الآلاف من القتلى بين الإيرانيين في ثمانينيات القرن العشرين، وكان الهدف من العقوبات الدولية بقيادة الولايات المتحدة، والتي فُرِضَت على إيران من التسعينيات فصاعدا، إفقار النظام الإسلامي وزعزعة أركانه ثم إسقاطه في نهاية المطاف.

واليوم، يحاول دعاة الحرب إفشال اتفاق فيينا، فالمملكة العربية السعودية تخوض صراعاً عنيفاً ضد إيران لتأمين سيادتها الإقليمية، مع تلاقي المنافسة الجيوسياسية مع الخصومة السُنّية الشيعية، وتريد إسرائيل، وهي القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، الحفاظ على احتكارها الاستراتيجي، ويبدو أن دعاة الحرب في الولايات المتحدة يعتبرون أي دولة إسلامية نظاماً آن أوان إسقاطه.

الواقع أن أوباما محق في الاحتجاج بأن مصالح أميركا الحقيقية، ومصالح العالم، هي مع السلام لا الصراع المستمر مع إيران، ولا يجوز للولايات المتحدة أن تناصر أياً من طرفي الصراع السُنّي الشيعي؛ ولكن الأمر الواضح هو أن الولايات المتحدة تواجه إرهاباً سُنّياً في الأساس، بتمويل من المملكة العربية السعودية، لا إرهاباً شيعياً تدعمه إيران. وأوباما محق أيضاً في اعتقاده، برغم حجج إسرائيل ومزاعمها، أن الاتفاق من شأنه أن يقلل من إمكانية تحول إيران إلى دولة نووية في أي وقت في المستقبل.

وتتلخص أفضل طريقة لضمان هذه النتيجة في تطبيع العلاقات مع إيران، ومساعدة اقتصادها على تحقيق التعافي، ودعم اندماجها في المجتمع الدولي، إذ إن إيران تمثل حضارة عظيمة وقديمة، ومن المؤكد أن انفتاحها على العالم كمكان للعمل والسياحة والفنون والرياضة من شأنه أن يعزز الاستقرار العالمي والازدهار.

والمعاهدة الجديدة كفيلة بمنع إيران على نحو يمكن التحقق منه ولفترة لا تقل عن عشر سنوات من تطوير السلاح النووي، فضلاً عن إلزامها بمعاهدة منع الانتشار النووي لاحقا، وهذا هو الوقت المناسب لإطلاق عملية التقارب على نطاق أوسع بين الولايات المتحدة وإيران وبناء نظام أمني جديد في الشرق الأوسط والعالم يقودنا في نهاية المطاف إلى نزع السلاح النووي على مستوى العالم بالكامل، غير أن تحقيق هذه الغاية يتطلب أولاً وقبل كل شيء نبذ الحرب (بما في ذلك حروب وكالة الاستخبارات المركزية السرية) والاستعانة بالتجارة وغيرها من أشكال التبادل السلمي.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسات الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top