«قضية جيفاغو»: الكرملن ووكالة الاستخبارات... ومعركة على كتاب محظور

نشر في 03-08-2015
آخر تحديث 03-08-2015 | 00:01
No Image Caption
بعد 25 سنة تقريباً على انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت ذكريات الحرب الباردة تتلاشى من الذاكرة الأميركية. أما الملاجئ التي بُنيت في ظل أزمة الصواريخ الكوبية، فيتآكلها الصدأ في أنحاء الولايات المتحدة. وبدأت روسيا تنهار أيضاً، إذ أصبح ناتجها المحلي الإجمالي اليوم أصغر مما هو عليه في البرازيل وهو يساوي ثِمْن الناتج الأميركي. بُنيت محطة فضاء دولية في المكان الذي شهد سباق الفضاء، ونشأ اقتصاد أوروبي موحّد حيث كان جدار برلين قائماً في الماضي، وتستضيف “فجوة فولدا” اليوم متحفاً عن الحرب الباردة (سعر الدخول 5 يورو، تُقفَل أبوابه في أيام الاثنين خلال الشتاء).

في كتاب “قضية جيفاغو”، يعمد بيتر فين، المحرر المختصّ بشؤون الأمن القومي في “واشنطن بوست”، وبيترا كوفيه، الكاتبة والمترجمة والأستاذة في جامعة ولاية سانت بيترسبرغ في روسيا، إلى إعادة القرّاء إلى ذروة الحرب الباردة، حين كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يتصارعان على الهيمنة الجيوسياسية، فواجه مواطنو البلدين شبح الحرب النووية.

فيما يركز عدد كبير من قصص الحرب الباردة الحديثة على شخصيات بارزة (مثل كتابَي «خدعة أيك» (Ike’s Bluff) و”محارب الظل” (Shadow Warrior)) أو الإنجازات التكنولوجية (مثل “مشروع أزوريان”)، يتخذ بيتر فين وبيترا كوفيه في كتابهما “قضية جيفاغو” (دار «بانتيون بوكز»، 2014) اتجاهاً مختلفاً، فيحللان الجهود المبتكرة التي بذلتها وكالة الاستخبارات المركزية لاستعمال الأدب (وتحديداً رواية «دكتور جيفاغو» (Doctor Zhivago) للكاتب بوريس باسترناك)، باعتباره قوة مؤثرة لزعزعة الاستقرار داخل الاتحاد السوفياتي. كان باسترناك كاتباً روسياً مشهوراً، وقد عُرف بأعماله المميزة وترجماته أعمال شكسبير الكلاسيكية. طوال أربعين سنة تقريباً، بلغت خلالها الأحداث ذروتها في حقبة الخمسينيات، كتب باسترناك رواية “دكتور جيفاغو” الأصلية التي تدور أحداثها بين بداية القرن العشرين والحرب العالمية الثانية. تتضمن الرواية عدداً من الحبكات والمواضيع المعقدة وتشمل انتقاداً لدور الحكومة في حياة المواطنين ولثورة أكتوبر وتداعياتها. لا عجب إذاً أن تتعرض للرفض بسبب ضعفها الإيديولوجي حين قدّمها باسترناك إلى الناشر السوفياتي نوفي مير: “ترتكز روحية روايتك على عدم قبول الثورة الاشتراكية.

الفحوى العام لروايتك هو أنّ ثورة أكتوبر والحرب الأهلية والتحولات الاجتماعية اللاحقة لم تقدّم للناس إلا المعاناة وقد دمّرت النخبة المثقفة الروسية، جسدياً أو معنوياً”.

حين أدرك باسترناك أن رواية “دكتور جيفاغو” لن تُطبَع في الاتحاد السوفياتي، قَبِل عرضاً من الناشر الإيطالي جيانجاكومو فيلترينيلي في يونيو 1956، وشمل الاتفاق طبع نسخة من الرواية باللغة الإيطالية. قدّم باسترناك نسخة من الرواية باللغة الروسية الأصلية إلى فيلترينيلي. وبعد سنة، أي في نوفمبر 1957، صدر الكتاب علناً في إيطاليا بعد ترجمته.

حصلت الاستخبارات البريطانية سريعاً على نسخة منه باللغة الروسية وصوّرت العمل وأرسلت الشريط إلى وكالة الاستخبارات المركزية في يناير 1958 على اعتبار أن الوكالة قد ترغب في توزيع الكتاب في الاتحاد السوفياتي.

سلاح فاعل

أدرك قادة الوكالة فوراً قيمة الكتاب كسلاح فاعل في الصراع المستمر ضد الاتحاد السوفياتي. في هذا السياق، كتب جون موري، مدير قسم روسيا السوفياتية: “الرسالة الإنسانية التي يطرحها باسترناك - أي أنّ كل شخص له الحق بعيش حياته الخاصة ويستحق الاحترام كإنسان، بغض النظر عن حجم ولائه السياسي أو مساهمته في الدولة - تشكّل تحدياً جوهرياً للمبدأ السوفياتي الذي يدعو إلى التضحية بالأفراد لصالح النظام الشيوعي”. في صيف عام 1958، اتصلت وكالة الاستخبارات المركزية بجهاز الاستخبارات العامة والأمن الهولندي لمعرفة مدى استعداده لتسهيل طباعة الرواية في لاهاي. وافق جهاز الاستخبارات الهولندي على ذلك الطلب، فأرسلت له وكالة الاستخبارات المركزية الأموال اللازمة لتغطية تكاليف الطباعة، فضلاً عن توجيهات صريحة بالتكتم عن تورط وكالة الاستخبارات المركزية أو الولايات المتحدة في هذه العملية. نشرت دار “موتون” ألف نسخة، وأُرسِلت 200 نسخة إلى مقر وكالة الاستخبارات المركزية، و200 نسخة أخرى إلى فرانكفورت، و100 إلى برلين، و100 إلى ميونخ، و25 إلى لندن، و10 إلى باريس، ووصلت أكبر كمية (365) إلى بروكسل. نظّمت بلجيكا “معرض بروكسل العالمي والمعرض الدولي” في صيف وخريف عام 1958، وهو أول معرض عالمي بعد الحرب العالمية الثانية. شاركت 43 دولة في المعرض الذي أقيم خارج بروكسل.

بَنَت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معارض كبرى، وتلقى أكثر من 16 ألف مواطن سوفياتي تأشيرات للمشاركة في الحدث.

كان حضور 16 ألف مواطن سوفياتي، من خارج الاتحاد السوفياتي وداخل بلد حليف، فرصة مغرية بالنسبة إلى ضباط الاستخبارات الذين أرادوا التواصل مع أفراد من الجانب الآخر من “الستار الحديدي”. كان ذلك الحدث يضمن حضور عدد كبير من الأفراد الذين يمكن أن يأخذوا معهم نسخة من رواية “دكتور جيفاغو” إلى الاتحاد السوفياتي لقراءتها وتوزيعها على أشخاص آخرين. بما أن الحكومة الأميركية كانت تصرّ على إخفاء تورط الولايات المتحدة في نشر وتوزيع الرواية، لجأت وكالة الاستخبارات المركزية إلى شريك غير متوقع كي يساعدها على توزيع الكتب في بروكسل: الفاتيكان.

مثل الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ودول أخرى، كان للكرسي الرسولي مركز في بروكسل وقد شمل مكتبة صغيرة يديرها المهاجرون الروس الكاثوليك وفيها كتب ومقالات وكتيّبات مرتبطة بقمع الحكومة للمسيحية. شكّلت هذه المكتبة مركزاً لتوزيع رواية “دكتور جيفاغو” وقد كانت فاعلة جداً: كان الغلاف الأزرق المصنوع من الكتّان غطاءً مناسباً.

تمزيق الغلاف

عمد بعض الأشخاص الذين حصلوا على الرواية إلى تمزيق الغلاف وتقسيم الصفحات وتخبئتها في جيوبهم لتسهيل إخفاء الكتاب. ذكر تقرير إخباري حينها أن المهاجرين الروس حاصروا قافلة من الحافلات السوفياتية ورموا نسخ الكتاب عبر نوافذها المفتوحة. مثل أي دار نشر رائدة، تجيد وكالة الاستخبارات المركزية تحديد المشاريع الناجحة. بعد توزيع أول ألف نسخة من الرواية باللغة الروسية، قررت الوكالة تمويل طباعة الدفعة الثانية، منها 7 آلاف نسخة للأفراد الذين سيأخذونها إلى الاتحاد السوفياتي ويسمحون للآخرين باكتشافها، وكان يجب توزيع ألفَي نسخة خلال {مهرجان الشباب} في فيينا في وقت لاحق من تلك السنة. وضعت الوكالة ختماً على كل واحدة من تلك النسخ للإشارة إلى أنها آتية من {جمعية التحرير والطباعة العالمية}، وهي دار نشر فرنسية وهمية.

ساهمت مجموعة أخرى من المهاجرين الروس في التستّر على العملية وأعلنت سريعاً عن توليها مهمّة التوزيع. عند إعداد كتاب {قضية جيفاغو}، استند فين وكوفيه إلى سجلات من أرشيف الحكومات في ثمانية بلدان، وأكثر من 12 مقابلة، وأبحاث ثانوية موسّعة، فضلاً عن استعمال عدد كبير من سجلات وكالة الاستخبارات المركزية التي تم الكشف عنها حديثاً. كانت كوفيه أول كاتبة تكشف عن الرابط بين جهاز الاستخبارات العامة والأمن الهولندي ورواية «دكتور جيفاغو» وقد كتبت عن الموضوع في عام 1999. تبرز تجربتها كباحثة ومترجِمة في ستين صفحة من الملاحظات والمراجع التي ترافق النص. أما فين الذي كان أول من كتب عن احتمال تورط وكالة الاستخبارات المركزية في عام 2007، فهو يعمل مع صحيفة «واشنطن بوست» منذ 20 سنة تقريباً، وقد كان خلالها رئيس مكتب الصحيفة في موسكو وهو يحضّر تقارير عن شؤون الأمن القومي من أنحاء العالم منذ عام 2001. هو يفهم بكل وضوح مسار العمليات الاستخبارية وطبيعة الثقافة السوفياتية والمجتمع ويضفي عناصر جاذبة على كتاباته. بالإضافة إلى المعنى التاريخي الذي يحمله كتاب «قضية جيفاغو» وتشديده على الجهود الاستخبارية الخفية خلال الحرب الباردة، هو يطرح قصة ممتازة تشمل مجموعة واسعة من الشخصيات الناشطة وسط بيئة عالمية.

 ذكر الكاتبان: «ثمة جانب من المغامرة في عملية توزيع رواية «جيفاغو» وفي برنامج نشر الكتب عموماً. كان المهاجرون والكهنة والرياضيون والطلاب ورجال الأعمال والسياح والجنود والموسيقيون والدبلوماسيون يحملون الكتب ويقطعون «الستار الحديدي» وصولاً إلى الاتحاد السوفياتي. أُرسِلت الكتب إلى سجناء الحرب الروس في أفغانستان وقد تم تهريبها مع سائقي الشاحنات الروس في إيران، وقُدّمت للبحارة الروس في جزر الكناري، وجرى تسليمها يداً بيد لزوار مركز الفاتيكان في بروكسل وخلال «مهرجان الشباب العالمي» في فيينا. كانت تلك الجهود متعددة الجنسيات، على عكس أي جهود أخرى في التاريخ الحديث. نتيجة النجاح الباهر الذي حققته وكالة الاستخبارات المركزية، تابعت الولايات المتحدة توزيع نحو 10 ملايين كتاب ومنشورات أخرى في أنحاء الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، منها 165 ألف نسخة سنوية على الأقل خلال السنوات الأخيرة من الحرب الباردة. أشادت مراجعة تاريخية بتلك الجهود، معتبرةً أن البرامج «نجحت بكل وضوح في بلوغ فئات واسعة من أهم المحترفين والتقنيين قبل أن تصل المواد من خلالهم إلى زملائهم في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، ويمكن اعتبار تلك المواد مؤثرة على المواقف والنزعات الداعمة للحرية الفكرية والثقافية، كذلك تعزز مشاعر الاستياء عند غياب تلك الحريات». في ذروة الحرب الباردة، ثبت أن القلم أقوى من السيف فعلاً!

back to top