«عندما بكى نيتشه»

نشر في 01-08-2015 | 00:01
آخر تحديث 01-08-2015 | 00:01
No Image Caption
دقّات ساعة سان سالفاتور أيقظت جوزف بريوير من أحلام يقظته. أخرج ساعته الذهبية الثقيلة من جيب سترته. كانت الساعة التاسعة. للمرة الثانية، قرأ البطاقة الصغيرة ذات الإطار الفضي التي تلقاها البارحة.

21  تشرين الأول 1882

دكتور بريوير،

يجب أن أراك لمناقشة مسألة بالغة الأهمية وعاجلة. إن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك. أرجو أن ألتقي بك في الساعة التاسعة من صباح الغد في مقهى سورينتو.

لو سالومي

يا لها من رسالة وقحة! فلم يسبق لأحد أن خاطبه بهذه الصفاقة. وهو لا يعرف أحداً باسم لو سالومي. لا يوجد عنوان على المغلف. لا توجد لديه وسيلة لإخبار مرسل هذه الرسالة بأن الساعة التاسعة ليست مناسبة، وبأن السيدة بريوير لن تكون سعيدة لتناول الفطور وحدها، وبأن الدكتور بريوير يمضي حالياً إجازته، وبأنه لا يبدي أي اهتمام بـ”المسائل البالغة الأهمية”- فقد جاء الدكتور بريوير إلى فينيسيا للابتعاد عن المسائل العاجلة تلك.

لكن ها هو يجلس هنا، في مقهى سورينتو، في الساعة التاسعة، يتصفح الوجوه حوله، متسائلاً أيّ منهم قد يكون لو سالومي الوقح.

“أتريد المزيد من القهوة يا سيدي؟”.

أومأ بريوير للنادل، وهو فتى في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره، شعره أسود ناعم رطب ممشط إلى الوراء. منذ متى استغرق في حلم اليقظة هذا؟ ألقى نظرة أخرى على ساعته. عشر دقائق أخرى أُهدرت من حياته. وأُهدرت على ماذا؟ كالعادة كان يحلم ببيرثا، بيرثا الجميلة، مريضته التي يعالجها منذ سنتين. لا يكفّ عن تذكّر صوتها المثير: “دكتور بريوير، لماذا تخشاني؟ تذكّر كلماتها عندما أخبرها بأنه سيتوقف عن معالجتها: “سأنتظر. ستظل دائماً الرجل الوحيد في حياتي».

قال موبّخاً نفسه: “بحق الله، أرجوكِ توقّفي! توقّفي عن التفكير! افتحي عينيك! انظري! دعي العالم يدخل».

رفع بريوير فنجان القهوة وتنشق رائحة القهوة القوية وغبّ نفساً عميقاً من هواء تشرين الأول الفينيسي المائل إلى البرودة. تلفّت حوله. كانت جميع الطاولات في مقهى سورينتو قد امتلأت بالرجال والنساء الذين راحوا يحتسون القهوة ويتناولون فطورهم، والذين كان معظمهم من السيّاح والمتقدمين في السن. كان عدد منهم يحمل صحيفة بيد وكوب القهوة باليد الأخرى. خلف الطاولات، كانت غيوم زرق فولاذية من الحمام تحوم في السماء ثم تنقضّ فجأة. لم تكن تلك الحمامات تعكّر صفو المياه الراكدة في قناة غراند كانال التي تنعكس على صفحتها صورة القصور الفخمة الممتدة على ضفتيها بجمال أخّاذ، سوى مويجات يوقظها من سباتها جندول يعبر فوقها. أما الجنادل الأخرى، فكانت لا تزال نائمة، مقيّدة بأوتاد مثبّتة على أطراف القناة، مثل رماح ألقت بها يد عملاقة كيفما اتفق.

“نعم، صحيح – أنظر حولك أيها الغبي!”، قال بريوير لنفسه، “فالناس يتقاطرون من جميع أنحاء العالم لمشاهدة فينيسيا. أناس يرفضون أن يموتوا قبل أن يباركهم هذا الجمال».

تساءل كم ضاعت أمور في هذه الحياة؟ هل لأنه لم يكن ينظر حوله؟ أم لأنه كان ينظر ولا يرى؟ فقد تمشّى البارحة وحده حول جزيرة مورانو، لكنه بعد ساعة من التجوال لم ير شيئاً، ولم يسجّل في عقله شيئاً. لم تنقل شبكيّة عينه تلك المشاهد الجميلة إلى البؤبؤ. لقد أضاع وقته كله بالتفكير في بيرثا: ابتسامتها الخادعة، عيناها الساحرتان، نعومة بشرتها الدافئة، وأنفاسها المتسارعة، عندما كان يفحصها أو يدلك جسمها. هذه المشاهد تنطوي على قوّة معينة – تنبض بالحياة. كانت هذه الصور تدهم عقله وتغزو مخيلته. تساءل هل سيكون هذا قدري إلى الأبد؟ هل قُدِّر لي أن أكون مجرد خشبة مسرح تؤدّي فيه ذكرياتي عن بيرثا مسرحيتها طوال الوقت؟

نهض أحد الجالسين إلى الطاولة المجاورة. أيقظه صوت احتكاك الكرسي المعدني على الأرض. مرةً أخرى راح يبحث عن لو سالومي.

ها هي! المرأة التي تسير في شارع ريفا ديل كاربون، ثم تدخل المقهى. لا بد أنها هي التي كتبت تلك الرسالة - تلك المرأة الأنيقة، الطويلة، الممشوقة، الملفّعة بالفراء، التي تسير الآن نحوه بخطى وئيدة تشي بغطرسة عبر متاهة الطاولات التي تكاد تلتصق إحداها بالأخرى. عندما اقتربت، تبيّن بريوير أنها فتاة شابة، أصغر من بيرثا. لعلها لا تزال تلميذة مدرسة. لكن هذا الحضور الطاغي ليس عادياً.

اتجهت لو سالومي نحوه بثقة تامة. كيف يمكنها أن تكون واثقة تماماً من أنه هو الشخص المطلوب؟ بيده اليسرى مسّد الشعيرات الخشنة المائلة إلى اللون الأحمر في لحيته خشية أن تكون قد علقت فيها بقايا من طعام الفطور. شدّ طرف سترته السوداء إلى الأسفل بيده اليمنى لكي لا تتجمع حول رقبته. عندما أصبحت على مسافة بضع أقدام منه، توقّفت قليلاً، وحدّقت في عينيه بجرأة.

فجأةً توقف عقل بريوير عن التفكير. لم يعد النظر الآن يحتاج إلى تركيز. فقد تعاونت شبكيّة وبؤبؤ عينيه تماماً، وتركتا صورة لو سالومي تتدفق بقوة إلى عقله. يا لها من امرأة فائقة الجمال: جبهة عريضة، ذقن قوية منحوتة بروعة، عينان زرقاوان برّاقتان، شفتان ممتلئتان، وشعر أشقر فضّي ممشط بإهمال جمعته بتكاسل في شكل كعكة عالية، مظهراً أذنيها وعنقها الطويل الجميل. بمتعة خاصة لاحظ خصلات شعرها التي أفلتت من كعكة شعرها وتدلت في جميع الاتجاهات.

بثلاث خطوات واسعة أخرى، أصبحت تقف أمام طاولته. “دكتور بريوير، أنا لو سالومي، هل لي أن...؟”، وأمأت برأسها نحو الكرسي. جلست بسرعة بحيث لم يتسنَّ لبريوير أن يحييها كما يجب - أن ينهض، وأن ينحني ويقبّل يدها، ويسحب كرسياً لتجلس عليه.

“أيها النادل! أيها النادل”. طقطق بريوير أصابعه، “قهوة للسيدة. قهوة بالحليب؟” نظر نحو السيدة سالومي. أومأت برأسها. ثم خلعت معطفها الفرو، بالرغم من برودة الصباح.

“نعم، قهوة بالحليب».

لم ينبس بريوير وضيفته بكلمة واحدة للحظات. ثمّ نظرت لو سالومي في عينيه مباشرة، وقالت: “لديّ صديق ينتابه شعور باليأس، وأخشى أن ينتحر. وإذا انتحر فذلك سيكون خسارة كبيرة لي، ومأساة شخصية عظيمة لأنني أتحمّل قدراً من المسؤولية. مع أنني أستطيع تحمّل ذلك. لكن” - مالت نحوه، وقالت بصوت أوطأ - “لكن قد تتجاوزني هذه الخسارة أنا شخصياً: فقد ينطوي موت هذا الرجل على نتائج بالغة الأهمية – لك وللثقافة الأوروبية ولنا جميعاً. صدّقني».

أراد بريوير أن يقول: “لا بد أنك تبالغين يا آنسة”، لكنه لم يستطع نطق هذه الكلمات. فما قد يبدو غلواً في المراهقة لدى أيّ شابّة في سنّها، قد يبدو مختلفاً هنا. أمر يجب أخذه بجدية. لم يكن صدقها وتدفقها يقاومان.

“ومن هو هذا الرجل، صديقك؟ هل أعرف عنه شيئاً؟».

“لم يحن الوقت بعد لأخبرك من هو! لكن مع الوقت ستعرفه. يدعى فريدريك نيتشه. ربما تساعدك هذه الرسالة التي أرسلها ريتشارد فاغنر إلى البروفسور نيتشه على التعريف به”. وأخرجت رسالة من حقيبتها. فتحتها وأعطتها إلى بريوير، وقالت: “يجب أن أقول لك في البداية إن نيتشه لا يعرف أنني جئت لأراك ولا يعرف أن في حوزتي هذه الرسالة».

الجملة الأخيرة التي نطقتها الآنسة سالومي جعلت بريوير يتوقف. هل عليّ أن أقرأ هذا الرسالة؟ فالبروفسور نيتشه هذا لا يعرف أنها تطلعني عليها، بل إنه لا يعرف أنها توجد في حوزتها! كيف حصلت عليها؟ استعارتها؟ سرقتها؟

كان بريوير يتفاخر بخصاله العديدة. فقد كان مخلصاً وسخياً، وكانت عبقريته في التشخيص أسطورية: ففي فيينا، كان الطبيب الشخصي لعدد من كبار العلماء والفنانين والفلاسفة مثل برامز وبروك وبرينتانو. وعلى الرغم من أنه في الأربعين من العمر، فقد كان ذائع الصيت في أنحاء أوروبا، وكانت شخصيات بارزة من جميع أنحاء الغرب تقطع مسافات طويلة وتأتي لاستشارته. الأهم من ذلك كله، يتفاخر بنزاهته - فلم يرتكب عملاً شائناً في حياته. إلا إذا كان عليه أن يتحمّل المسؤولية عن أفكاره الشهوانية المتعلقة ببيرثا التي كان يجب أن تتركز على زوجته، ماتيلد.

تردّد في أخذ الرسالة من يد لو سالومي الممدودة أمامه. لكن ذلك لم يدم سوى لحظات. مرةً أخرى ألقى نظرة على عينيها الزرقاوين البلّوريتين، ثمّ فضّ الرسالة المؤرخة 10 كانون الثاني 1882 التي بدأت بعبارة: “صديقي، فريدريك”، وأحيطت فقرات تلك بدوائر.

لقد قدمتَ إلى العالم عملاً لا يوازيه عمل آخر. إن كتابك يتسم بأصالة عميقة. لقد أدركت أنا وزوجتي أن هذا العمل هو الأمنية التي كنا نتوق إليها في حياتنا، الأمنية التي كنا نعرف أنها ستأتينا ذات يوم من الخارج وتأسر قلبينا وروحينا! لقد قرأنا كتابك مرّتين – مرة كل واحد منا على حدة أثناء النهار، ثم معاً بصوت مرتفع في المساء. وكدنا نتشاجر على قراءة النسخة الوحيدة المتوفرة لدينا، ونأسف كثيراً لعدم وصول النسخة الثانية الموعودة حتى الآن.

back to top