خرائط التيه

نشر في 01-08-2015 | 00:01
آخر تحديث 01-08-2015 | 00:01
No Image Caption
نَفير

يومٌ أوَّل

مكة. الحرم الشريف

7 ذي الحجة، 1431

12:16 ظهراً

... قبل تلك اللحظة، كان كلُّ شيءٍ على ما يُرام.

كانت سُميَّة قد أَوْشَكَت على إتمام شوطها الرّابع، تطوفُ، مأخوذةً بجلال اللحظةِ، بين مئات الآلاف من الحجّاج؛ شفتاها تلهجان، غارقةً في العرق.

كانت زائغة، نظراتُها معلّقة فوق مئات آلاف الرؤوس التي تعبّئ المكان. العالمُ حلقةٌ تدور؛ لبّيك، لبّيك. كانت تهمس. ترسل عينيها إلى اليمينِ، تلمحُ قفاه؛ فيصل يسبقها ببضعِ خطوات. بين كلّ الرؤوس الحسيرة، الحليقة، الصلعاء، المحتجبة، السوداء، الرمادية، البيضاء، المتعرّقة، كانت تستطيعُ رؤيته. تنظرُ يساراً؛ الكعبة مُحرِمة، مشمّرة الأستار، أحجارِها مرصوصة في قاعدتها، يعلوها قماشٌ أبيض، ينتهي بالكسوة السوداء المذهّبة. أحسّت بتعرّق يد الصغيرِ في يدِها، نظرت إليه، يحثُّ خطوه لكي يواكبَ. ها مشاري.. تعبت؟ يهزُّ رأسه نفياً.

صار مشيُهما أبطأ مع اقترابهما من الرّكن اليمانيّ، احتقن المكان. عندما وطأت بقدميها الحافيتين على الخطّ الرخاميّ البنيّ، رفعتْ يُمناها صوبَ الكعبة المتربعة في صدرِ العالم؛ اللهُ أكبر. كانت تمسكُهُ بيسراها.

اصطدمَ بهما وفدٌ آسيوي يسير متماسك الأيدي، انفكّتْ يدهُ من يدِها. شعرتْ سميّة بكتفها تكادُ تنخلع، وبجسدها ينقذفُ إلى الأمام خطوتين، تعثّرت بطرفِ عباءتها. عندما استعادت توازنها، واستقامت واقفة، لم ترَه. تلفتّت حولها؛ كان قد اختفى.

نظرت سُميّة حولها، كان الطوفانُ البشريُّ يجيشُ ويجرفها في أمواجِه. صارت تصرخُ: مشاري! لا تتحرّك! لا تتحرّك! ابقَ مكانَك! ثمَّ، حين تذكّرت أنه يمكنُ أن يُدهس حتى الموت، صارت تردّد: مشاري! امْش! امْش! امْش!

أرسلتْ عينيها تبحثُ في الفُرَج، بين الأجساد؛ صبيٌّ ضئيلٌ مثله يمكن أن يكون في أيّ مكان. تيبّست ساقاها، خفق قلبها بجنون. ارتطمت بكتفٍ عارية، أحسّت برطوبة على خدّها. دهست قدمها عجلة كرسيٍ متحركٍ، وتشكّل احتقانٌ مروريٌ من آلاف الأجساد المتسربلةِ بالإحرامات البيضاء والعباءات السود. في تلك اللحظة صارت تنادي: فيصل! فيصل! بين مئات آلاف الرؤوس، كان بوسعها أن تراه.

التفتَ فيصل في تلك اللحظة. رأى سمية تصرخ، بوجهٍ شاحبٍ وعينين حمراوين. هَرَعَ إليها، يشقّ طريقهُ بين الأَجساد، كمن يسبحُ ضدَّ التيّار، حاصداً عشرات اللطماتِ والصّفعاتِ على وجهه وكتفيْه. عندما صار أمامها راحتْ تشدّهُ من إحرامه، نظرت إليهِ بعينين ذاهلتينِ، مشرّعتين على الرعب كلّه. ورغم أنها كانت عاجزة عن تركيبِ جملة مفهومة واحدة، إلا أنه فهم كل شيء؛ لقد اختفى مشاري.

تدافع فوجٌ من الأفارقة بين الاثنين. تباعدا قسْراً، وصارت سميّة تخرج، دون إرادة منها، عن حلقة الطواف. رفع فيصل يدهُ في الهواء، مثل صارية، صاح بأعلى صوته: سميّة! سميّة! جدَّفَ كلاهما باتجاهِ الآخر، تلاقت أيديهما، أمسك بمعصمها وسحبَها ناحيته. غادرا حلقة الطواف؛ لا تقلقي، سنجده، ابحثي عنهُ في الصّحن، أنا سأبحثُ خارجه.

فكّر فيصل بأن عليه أن يتبعَ التيّار، لا شكّ وأنه جرف ولده. مشاري الهزيل، الصغير، الهش! ما أسهل أن يجرفه نهرٌ بشريٌ. أخذَ يعدو، بين الجموع، يعدو ويصرخ. سُميّة أيضاً، مثله، صارت تعدو وتصرخ. اصطدما بعشراتِ الأظهر والأذرع. حصدا اللطمات والصفعات على وجهيهما، واصلا الرّكض..

ركضا من قلبيهما، أطلقا صرخاتٍ مذعورة، وكأنهما يهويانِ في جهنّم.

مكة. الحَرم الشريف

7 ذي الحجة، 1431

1:36 ظهراً

بعد مضيِّ ساعة، شعرَ فيصل بأن عليهِ أن يفعل ما هو أكثر من هذا الرّكض الملتاع. الأجسادُ التي يموجُ بها العالم؛ بياض، سواد، أمواجٌ تتعاقب في حلقةٍ مركزها الكعبة وهامشها خوفه، الدائرة تدورُ إلى الأبد. دردورٌ بشريٌّ يرقصُ حول نفسِهِ، لو يكفّ الجميع عن الطواف لخمسِ دقائق فقط؟ الدائرة لا تكفُّ عن الدوران، وأنتَ نفسك، في أقصى قطرها، يجرفك الذُّعر.

جال بعينيه في المكان؛ يمكنُ أن يكون الصغير على مبعدةِ مترينِ منه، دون أن يتمكّن من رؤيته. قرّب كفّيهِ من فمهِ وصرخ؛ مشاري! مشاري! هرع ناحية الاختناق البشريّ عند مقام إبراهيم، ماذا لو سقط، لو دَهَسَهُ الحشد الغفير، وحطَّم عظامه؟ لماذا لم يتّصل وهو يحفظ أرقامنا؟ أدار ظهره للكعبة وركض، بقدرِ ما يمكن للمرءِ أن يركض في الزحام، إلى أقربِ بوابةٍ للحرم. رجالٌ ببزّات عسكرية، على صدورهم شارة كتب عليها “قوّات الطوارئ الخاصة”، يقفون أمام البوّابة. انفجرَ أمامهم: مشاري ضاع! ضاع! كان يلهثُ، العرقُ يرشحُ من جبينِه، عيناه جزعتان. نظروا إليه مقطّبين، لم يفهموا كلمةً مما قال: ايش فيك يا حاج؟ أخرج جهاز الآيفون من جيبِ الحزام الجلديّ الذي يثبّتُ فيه إحرامه. عرض صورة ابنهِ على العساكرِ واحداً بعد الآخر؛ ضاع! كرّرها، وكأنه يتلو الفجيعة على نفسه، واقفاً بين آلافٍ من أزواج النِّعال، مصطدماً بآلافِ القادمين، رافعاً هاتفه عالياً؛ يستسلم لحقيقةٍ قاهرة.

على الشاشة المستطيلة للهاتف، ظهرت صورة مشاري؛ مرتدياً بيجاما سوداء، على صدرهِ شعار الرجل الوطواط. أخذ فيصل يصفُ ابنه للضابط، كأن الصورة لا تكفيه: شعرٌ أسود غزير، غرة كثيفة، بشرة فاتحة. هزيلٌ بإفراط، يبدو في الخامسة ولكنه في السابعة. يرتدي بلوزة برتقالية وبنطلون بيج. عنده شامة بُنيّة في رقبته. وفراغ في أسنانه الأمامية.

متى ضاع؟ من ساعة. وين كان؟ في الصَّحن. كويتي؟ إيه. قبض الضابط على جهازه اللاسلكي وأطلق خبر ضياع مشاري. شعر فيصل بأن الخبر يرتجعُ داخل صدرهِ ويتردّد بلا انتهاء؛ طفلٌ كويتي عُمره سبع سنوات يرتدي بلوزة برتقالية لديه شامة على رقبته. لم يذكر الغمازة، ولا لون البنطلون، ولا السن الناقصة. والأهمّ أنه لم يُشِر إلى ضآلة ابنه الذي يحسبه الناظر في خامستِه. لقد غيّب الكثير من التفاصيل التي تجعلُ مشاري على ما هو عليهِ. البنطلون بيج! قال فيصل مؤكداً. إن شاء الله خير. خير؟ الله يعين، رجالنا على جميع المنافذ، إذا رآه أحد سنبلغك، أعطني رقمك وعُدْ إلى المكان الذي فقدته فيه. لا تضيّع وقتك هنا، واصِل البحث. تلكأ قبل أن يسأل؛ ألن تشكّلوا فرق بحث؟ نظر إليه الضابط يكتم ابتسامته؛ فرق بحث؟ أصرَّ فيصل؛ ولدي ضاع! رفع الرجل كتفيه. لدينا أكثر من ثلاثة ملايين حاج يا حاج.. لم يكمل الرّجل. كيف يسعكَ أن تسألَ المحيط عن قطرة؟ ثلاثة ملايين حاج وطفلٌ ضائع. إنهم يضيعون طوال الوقت، أطفال وشيوخٌ ونساء. ما الذي يجعله مختلفاً؟ ما الذي يريده؟ أن يكفَّ الطّوفان عن الطَّواف؟

تسمّر فيصل في مكانه، عيناه ذاهلتان، يكاد لا يصدّق ما يسمع. وولدي؟ هزّ الضابط رأسه آسفاً:

-    دوّر عليه. لا تضيّع وقت زيادة. إذا شافه واحد من رجالنا حنبلّغك على طول.

أعطى فيصل للضابط رقمه الهاتفي، ثم استدار يركضُ بعيداً، ركضَ غير مصدّقٍ، أنَّ عليهِ أن يجابه كل هذا الجحيم وحده.

مكة. الحرم الشريف

7 ذي الحجة، 1431

5:02 مساءً

أثناءَ عَدْوه، سَقَط الإحرامُ عن كتفهِ. تركهُ على الأرضِ وواصلَ الركض، عاري الصدر. يلسعه باطن فخذيه مع كل خطوة، العرقُ يتصبّبُ من جبينه وراحتيه. جهاز الآيفون في يدِه، مشاري على خلفية الشاشة، في زيّ الرّجل الوطواط، يقحمُ وجهه في وجوه الحجّاج؛ ولدي ضاع! هل رأيت ولدي؟

في تلك الأثناء كانت سُميّة قد أتّمت طواف سبعة عشرَ شوطاً، وبدأت تشعر بأن ساقيها ستنفصلانِ عن جسدها وتواصلان الطَّوافَ إلى الأبد. سميّة تمشي في دوائر سرمدية تبحث عن مشاري الذي ذابَ في الزحام. تأمل أن تعثر عليهِ في المكان الذي فقدته فيهِ؛ أن تجده يطوفُ، بوفاءٍ، حول النقطة ذاتها. رفعت يديها إلى السّماء عالياً وصاحت: يا رب! أَسحبُ كل ما قلته، فقط أعِد لي ولدي! تضمّخ وجهها بالدمع والعرق. الصحة، والمال، وترقية ترجوها لفيصل، وطفلٌ ثانٍ بعد أربعة إجهاضات.. ما عادت تريد شيئاً. بين لحظةٍ وأخرى كانت تتفحّصُ الهاتف في يدها، تأمل أن يرن، أن تسمع صوته يناديها؛ ماما؟ أن يدلّها على المكان الذي ينتظرها فيه، وينتهي كلّ هذا الرُّعب.

بعد خمس ساعاتٍ أصبح الخوف أكثر توحّشاً؛ لماذا لم يتّصل؟ مشاري يعرف أرقامنا. ماذا حلّ بولدي؟ تهاوت على ركبتيها، كادت تدهسُها الحشود؛ مئات الآلاف من الطائفين العابدين السائحين السابحين الذاهلين السادرين في غياهبِ المجد الإلهي. جثمت على الأرض، غطّت رأسها بساعديها، أحسّت بالرخام البارد يلامسُ جبينها؛ أنخنا مطايانا ببابِك.. حطّت قدمٌ ثقيلةٌ على فخذها وداست أخرى كتفها الأيمن. أغمضت عينين مليئتين بالدّمع: يا رب! شعرت بيدين ترفعانها من أسفل إبطيها وتسحبانها إلى خارج الزحام.

أجهشت سمية عندما وجدت نفسها جاثية على الدرج

الرخاميّ الأبيض، وثمة امرأة مصرية متينة الجذعِ تهزّها من كتفيها وتوجّه لخديْها ضرباتٍ خفيفة. لم يتصل. ما الذي حدث له لكيلا يتّصل؟ صاحت بها المرأة: مالك يا حاجة؟ صارت تلهجُ: مشاري، يا رب، ولدي! السيِّدة تهزّ سمية من كتفيها، سمية تتداعى في متوالية انهيارات. إنتي جاية مع حد؟ مع زوجي. ولم تستطع أن تضيف: وولدي.

عضّت سمية على شفتيها واعتصرت وجهها نوبة بكاء. فينه جوزك؟ سمية لا ترد، ترفعُ المرأة صوتها: فينه جوزك؟! سمية تريحُ جبينها على الدّرَجِ الرّخامي وتنتحب؛ هل سيضيع ولدي في بيتك يا الله؟ كانت تدفنُ وجهها في حقيبتها وتنتحب. ارتبكت السيدة. فهذه المرأة المليئة بالهذيان لا تسمعها ولا تراها. هرولت إلى برّادة زمزم القريبة وعادت تحمل الماء في كأس بلاستيكي، غسلت به وجه سمية وهي تُبسملُ. تحوّلت سمية من البكاء إلى الجؤار. عندما انتبه فيصل إلى مكان زوجِه، وجدَ أن بضعة رجال يتحلّقون حولها. رجلٌ بلحية حمراءَ وعصاً كان يهش عليها مردّداً “لعن الله المرأة النائحة! لعن الله المرأة النائحة!”. كانت سميّة ترفس بقدميها، مثل ذبيحة.

عندما نتأ وجه فيصل بين الوجوه التي تراكم بعضها فوق بعضٍ للتفرج على المرأة النائحة، وقرأت سمية في ملامحهِ ألا أثر للولد، بعد مرور أكثر من خمس ساعات، صارت تلطمُ وجهها، تعض يدها، وتضربُ فخذيها وهي تردّد: راح مشاري! راح! ولدي راح! اخترق فيصل الأجساد وقبض على ذراع امرأته ينهِضُها.

-    خلاص سميّة! هدّي نفسك، مو وقته تبكين!

سالت الدموع على خدّيها المكتنـزين، المتعرّقين. رفعت إليه عينين حمراوين، واسعتين:

-    ليش ما اتّصل فيصل؟ مشاري يعرف أرقامنا..

قال يؤمّلُ نفسه:

-    يمكن نسى!

-    مشاري ينسى؟ ما تعرف ولدك؟

-    يمكن رجع الفندق.

-    مستحيل!

-    يمكن طاح غشيان وأخذته الإسعاف!

هزَّت رأسها وكفكفت دموعها؛ كلامٌ معقول! نهضت فوراً لتكمل البحث وقد امتلأ قلبها بأملٍ مباغت. أدهشها أنّها لم تفكّر بالأمرِ قبل اللحظة؛ أن الصَّغير فاقد الوعي في غرفةِ إسعافاتٍ أوليّة. لا يمكن أن يكون في الحرم، فلو كان هنا لاستعار هاتفاً من أحدهم واتّصل. مشاري غائبٌ على الوعي في مستشفى، وبمجرد أن يستيقظ، سوف يطلب من المسعفين الاتصال بوالده.

مشاري يحفظ الرّقم جيّداً، مشاري يجيد التصرّف.

back to top