التكنولوجيا الحيوية... علاج مرتقب للسرطان

نشر في 31-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-07-2015 | 00:01
No Image Caption
حين شُخّص مرض السرطان لدى ميلتون رايت للمرة الثالثة، راح يبكي قبل أن ينفجر بالضحك. كان يبلغ حينها 20 عاماً وكان قد نجا مرتين من سرطان الدم: في الثامنة من عمره في المرة الأولى ثم في مرحلة المراهقة. وفي كل مرة، كان يضطر إلى الخضوع للعلاج الكيماوي الصعب على مر سنوات.

لكنه دخل الآن إلى مستشفى سياتل للأطفال. فقد انتكست حالته قبل جلسة تصوير واكتشف أنه لا يستطيع التخلص من الألم في ضلوعه. وحين بدأ الأطباء يحضّرونه لفحص السائل النخاغي، استنتج أنه أصيب مجدداً بالسرطان. يتذكر تلك الفترة قائلاً: {قلتُ في نفسي: لا شك أنهم سيخبرونني بأنني تعرضتُ لانتكاسة جديدة! سيخبرونني بأنني لن أعيش أكثر من ستة أشهر}.

كان يعلم أن المرة الثالثة هي نذير سيئ. شاهد ما يكفي من الأولاد المرضى في مركز {رونالد ماكدونالد} كي يعلم متى يتجدد سرطان الدم بهذا الشكل ويصبح مقاوماً للعلاج الكيماوي. يصعب أن ينجو أحد في هذه الحالة.

لكن رايت نجا.

 في عام 2013، نجح نوع جديد من العلاجات في القضاء على سرطان الدم الليمفاوي الحاد الذي أصاب ميلتون رايت، ويقضي ذلك العلاج باستخراج خلايا جهازه المناعي، أو ما يسمى {الخلايا التائية}، من دمه وهندستها وراثياً كي تستهدف السرطان لديه قبل حقنها مجدداً في عروقه. كان رايت ثاني شخص يتلقى هذا العلاج في مستشفى سياتل للأطفال، لكن بدت النتائج الأولية التي تحققت في فيلادلفيا ونيويورك شبه عجائبية. اختفى السرطان لدى 90% من المرضى الذين أصيبوا بانتكاسة وتعرضوا لسرطان الدم الليمفاوي الحاد الذي يقاوم الأدوية العادية. في العادة، يكون احتمال تخفيف حدة المرض في ظل هذه الظروف أقل من 10%.

توضح هذه النتائج ما جعل شركة {جونو} (Juno Therapeutics) تجمع 304 ملايين دولار حين أعلنت عن الاكتشاف في شهر ديسمبر، بعد 16 شهراً على تأسيسها. في وقت مثالي، أعلن أصحاب الرساميل الذين أسسوا شركة {جونو}، عبر ترخيص علاجات الخلايا التائية التجريبية التي يتم تطويرها في مستشفى سياتل للأطفال ومركز {فريد هاتشينسون} لأبحاث السرطان وبعض المستشفيات في نيويورك وممفيس، عن احتمال اكتشاف علاج للسرطان وسط سوق صاعدة غير مسبوقة في مجال التكنولوجيا الحيوية والعلاج المناعي تحديداً. كان الطرح العام الأولي الخاص بهذا المشروع أحد أكبر العروض المطروحة في البورصة في تاريخ قطاع التكنولوجيا الحيوية.

تُعتبر علاجات الخلايا التائية الأكثر أهمية من بين المقاربات الجديدة التي تستعمل جهاز المناعة لمهاجمة السرطان. كان العلاج المناعي مجرّد فكرة قديمة لا أمل منها، لكنه عاد إلى الواجهة بعد تحقيق نتائج مدهشة في السنوات الأربع الأخيرة. نجحت الأدوية التي تمّ تسويقها حديثاً، واسمها {مثبطات نقاط المرور}، في شفاء نسبة صغيرة من سرطان الجلد والرئة، بعدما كانت هذه الحالات ميؤوساً منها. عولج أكثر من 60 ألف شخص بهذه الأدوية     التي تبيعها شركتا {ميرك} و}بريستول مايرز}. تعطي هذه العلاجات مفعولها عبر إزالة الفرامل الجزيئية التي تمنع الخلايا التائية في العادة من اعتبار السرطان عدواً، وقد ساهمت في إثبات قدرة جهاز المناعة على تدمير السرطان. لا تزال التكنولوجيا التي تطرحها شركة {جونو} لهندسة الأحماض النووية والخلايا التائية وتوجيه نشاطها في مراحلها التجريبية الأولى. خلال الطرح العام الأولي للمشروع، عرضت {جونو} بيانات عن 61 مريضاً مصاباً بسرطان الدم أو الغدد الليمفاوية فقط.

تقع شركة {جونو} في حي ساوث لايك يونيون في سياتل ويسيطر عليها موقع {أمازون}، علماً أن مديره التنفيذي جيف بيزوس كان مستثمراً سابقاً في الشركة. خلال يوم أمضيتُه في مختبرات شركة {جونو} ومكاتبها في شهر مايو 2015، تكررت عبارة {إثبات المبدأ} على مسامعي. تقدم حالات مثل حالة رايت هذا النوع من الإثباتات. تبقى الدراسات صغيرة ولا تشمل أي مجموعات مرجعية أو مقارنات وافية، لكن ما من عوامل أخرى تفسّر اختفاء السرطان عدا الخلايا التائية. يقول هانز بيشوب، مدير تنفيذي سابق في شركة {باير} والمدير التنفيذي الراهن لشركة {جونو}: {تبين أن الخلية التائية لها مفعول الأدوية}.

أدوية حية

يعتبر بيشوب أن عالم الأدوية بدأ يدخل مرحلة جديدة حيث تصبح الخلايا عبارة عن أدوية حية. إنها ثالث ركيزة للأدوية. أما الركيزة الأولى، فهي المنتجات الصيدلانية التي تشتق من الكيمياء الاصطناعية. وبعدما أنتجت شركة {جينيتيك} (Genentech) الأنسولين داخل جرثومة في عام 1978، انطلقت ثورة الأدوية بالبروتينات. تأمل شركات مثل {جونو} اليوم أن تستعمل خلايا الجسم كعلاج. في ما يخص الخلايا التائية، تشير الأدلة المدهشة إلى احتمال معالجة بعض أنواع السرطان مقابل آثار جانبية قليلة باستثناء الحمى القوية.

لن يكون تجاوز مفهوم {إثبات المبدأ} أمراً سهلاً. لم يقم أحد يوماً بتصنيع علاج خلوي أعطى أي نتائج تجارية. ولم تتضح بعد أفضل طريقة لتصنيع وتسويق هذا النوع من العلاجات الشخصية.

ولم يتضح أيضاً ما إذا كانت الخلايا التائية المهندَسة تستطيع معالجة مختلف أنواع السرطان. ستطلق {جونو} وشركات أخرى هذه السنة دراسات جديدة لمعرفة الجواب. حتى بالنسبة إلى سرطان الدم الذي يصيب النخاع العظمي والدم، لا يزال الوقت مبكراً للإعلان عن ظهور علاج نهائي. تلقى معظم المرضى هذا العلاج خلال الأشهر الاثني عشر الماضية. تجدد السرطان لدى 25% منهم وقد تغير شكل المرض أحياناً بطريقةٍ جعلت المرضى يقاومون الخلايا التائية. بعد 18 شهراً على تلقي العلاج، يُعتبر رايت الذي يأمل أن يصبح ضابط شرطة من الأشخاص الذين بقيوا على قيد الحياة لأطول فترة رغم المرض.

منافسة

{جونو} ليست الشركة الوحيدة التي تحاول إثبات مفعول الخلايا التائية. أطلقت أكثر من 30 شركة تجارب عيادية أو تخطط لفعل ذلك، منها {نوفارتيس} (Novartis) التي تنوي تقديم طلب على أمل المصادقة على علاج منافِس لسرطان الدم في عام 2016. في الصيف الماضي، منحت إدارة الغذاء والدواء الأميركية شركتَي {نوفارتيس} و}جونو} الضوء الأخضر لمتابعة الأبحاث، ما يعني احتمال المصادقة على علاجات سرطان الدم التي تطرحها الشركتان بعد إجراء تجربة عيادية واسعة.

إذا ثبتت النتائج الأولية، قد تؤدي الاختبارات على الخلايا التائية المهندَسة لمعالجة سرطان الدم إلى واحدة من أسرع الموافقات في تاريخ تطوير الأدوية. قد لا تحتاج هذه العملية إلى أكثر من سبع سنوات، بينما يحتاج أي دواء نموذجي في العادة إلى 14 سنة تقريباً. يقول عثمان عزام، رئيس قسم العلاج بالجينات والخلايا في {نوفارتيس}: {إنه أمر غير مسبوق في هذا القطاع}.

في شركة {جونو}، قابلتُ المدير المالي ستيفن هار الذي كان مصرفياً استثمارياً متخصصاً في مجال التكنولوجيا الحيوية في {مورغان ستانلي} قبل الانضمام إلى الشركة. سألتُه إذا كان قد اهتمّ يوماً بالشركات المعنية بالعلاج الخلوي أثناء وجوده في وول ستريت، فأجاب بالنفي. فقد كانت تلك الشركات بحسب رأيه تطارد فكرة فاشلة. وحتى لو نجحت الفكرة، كان تسويقها معقداً. تعدد إدارة الغذاء والدواء 14 علاجاً خلوياً تمت المصاقة عليها، علماً أن معظمها كان يرتبط بترقيع الجلد أو يشمل تخزين حبال السرة.

لكن يقول هار إنه عاد وأبدى دعمه الكامل للمشروع حين شاهد البيانات عن مرضى سرطان الدم. يظن الآن أن {جونو} ستستفيد اقتصادياً من خلال حل مشكلة تسويق العلاجات الخلوية: {العلاج عبارة عن كيان حي وهو يختلف عن الحبوب العادية}.

مبادرات متلاحقة

نُشرت النتائج الأولية التي توصلت إليها جامعة بنسلفانيا على نطاق واسع وجذبت انتباه {نوفارتيس}، ثاني أهم شركة أدوية في العالم. في أغسطس 2012، وافقت على منح الجامعة 20 مليون دولار لبناء مركز جديد للعلاج الخلوي كجزءٍ من تحالف يسمح لشركة الأدوية السويسرية العملاقة بدعم وامتلاك العلاجات بالخلايا التائية. كان الاتفاق لافتاً لأنه حصل على أساس بيانات منشورة عن ثلاثة مرضى فقط ويبدو الآن أنها كانت صفقة رابحة.

هذا ما دفع شركة {جونو} إلى إطلاق مبادرات مماثلة سريعاً. اتخذت الشركة صفة قانونية في عام 2013، وهي {شركة لها آباء كثيرون} بحسب قول لورانس كوري، طبيب مختص بالأمراض المُعدِية وقد كان حينها رئيس مركز {فريد هاتشينسون}. بمساعدة الرأسمالي بوب نيلسون وريتشارد كلوسنر الذي كان مدير {معهد السرطان الوطني} وأصبح الآن كبير المسؤولين الطبيين في شركة {إيلومينا} (Illumina) المختصة بتجزئة الحمض النووي، أسس كوري شركة {جونو} من خلال شراء براءات اختراع وحقوق ترخيص التجارب المستمرة على الخلايا التائية في سياتل و}سلون كيترينغ} في نيويورك.

منذ الطرح العام الأولي، ارتفعت قيمة شركة {جونو} في البورصة وتجاوزت الستة مليارات دولار، ما يعزز التوقعات التي تعتبر الخلايا التائية المهندَسة طريقة جديدة لمعالجة أنواع عدة من السرطان، وليس سرطان الدم النادر نسبياً فقط. يظن المدراء التنفيذيون في {جونو} أنهم يستطيعون ابتكار تصاميم جديدة للخلايا التائية وتقييمها سريعاً من خلال اختبارها على مرضى السرطان القاتل حيث يسهل تبرير المخاطر. تخطط الشركة لإجراء عشر دراسات لستة تصاميم مختلفة من الخلايا التائية في السنة المقبلة. يقول الطبيب مارك فروهليش، وهو نائب رئيس القسم الاستراتيجي في شركة {جونو}: {نسعى إلى تحقيق إنجازات ثورية. لا نريد أن نقول لأحد: بقي لديك شهران كي تعيش!}.

لكن تتعلق أهم مسألة بقدرة الخلايا التائية على استهداف أنواع السرطان غير المرتبطة بالدم. قبل أسبوع على زيارتي لشركة {جونو}، خفّض المستثمرون حصصهم في الشركة بنسبة 35% بعدما اعتبرت {نوفارتيس} وجامعة بنسلفانيا أن الجرعات المنخفضة من الخلايا التائية المهندَسة لم تُعْطِ أي آثار جذرية على خمسة مرضى مصابين بسرطان البنكرياس والمبيض والرئتين. لكن كانت البيانات بدائية جداً ولا يمكن أن تحمل دلالات كبرى. يقول سادلين: {نعلم أنه علاج عملي. لكن ما هي أنواع السرطان التي يمكن تطبيق العلاج عليها؟ لا نعرف ذلك بعد. الأمر الذي تغير هو أن الجميع باتوا يعرفون الآن ما يجب فعله. هذا ما يفسر جزئياً الضجة الحاصلة بشأن الخلايا التائية}.

الهدف هو إيجاد مستضد CD19 المقبل. لكنها ليست عملية سهلة. بما أن بعض المستضدات يظهر على خلايا الأورام حصراً، قد تقضي كل خلية تائية مستهدفة على بعض الأعضاء الحيوية، كما حصل مع مريض مصاب بسرطان القولون في عام 2009. دعت {لجنة الحمض النووي الاستشارية} (هيئة اتحادية تراقب العلاج الجيني) إلى عقد اجتماع في شهر يونيو للتناقش حول ما ينوي العلماء فعله لتجنب هذه الآثار الجانبية وغيرها. لتخفيض نسبة الخطر، تخضع إحدى الطرق للاختبار على المرضى اليوم: إنها طريقة {مفاتيح الانتحار} التي تسمح للأطباء سريعاً بالقضاء على جميع الخلايا التائية المهندَسة في حال وقوع أي مشكلة جدية. خلال الربيع الماضي، أطلق مايكل جنسن (طبيب مختص بسرطان الأطفال في مستشفى سياتل وقد تولى مركزه المعني بالعلاج الخلوي معالجة رايت) دراسة لمعالجة ورم الأوليّات العصبية، وهو أبرز نوع سرطاني يصيب الأطفال. يقول إن الخلايا التائية ستستهدف مستضداً موجوداً في الخلايا العصبية. إذا سببت الخلايا التائية ضرراً غير متوقع، يمكن تعطيلها بجرعة من دواء إيربيتوكس.

لكنّ السلامة ليست العائق الوحيد. كيف يمكن إطالة مفعول الخلايا التائية المهندَسة في الجسم كي توفر حماية دائمة؟ حتى الآن، لا يبدو أنها تبقى طويلاً في جسم المريض، وهو أمر يعتبره فروهليش {مشكلة كبرى}. يمكن أن تطلق الأورام الثقيلة سيلاً من الإشارات في محيطها، مثل جزيئة PD-L1 التي تعطّل الخلايا التائية. تثبت هذه الخطة الدفاعية أن مثبطات نقاط المرور (أدوية جديدة من فئة العلاجات المناعية تبيعها شركتا {ميرك} و}بريستول مايرز سكويب}) تؤثر عليها. لكن يمكن التوصل إلى حلول ذكية أيضاً عبر هندسة الحمض النووي. يقول جنسن إنه أعاد تصميم الحمض النووي الخاص بالخلايا التائية بما يضمن القضاء على عدد إضافي منها.

يظن جنسن أن التقنيات التي تشهد تحسناً سريعاً على مستوى تعديل الجينات وتطوير الخلايا ستسمح للباحثين بمهاجمة أورام صلبة: {تشمل عيادات سرطان الدم اليوم النسخة الأولية من نظام التشغيل هذا. لكن في المختبرات، تُعتبر هذه التقنية بالية}.

بحسب قول سادلين، تطلّب التوصل إلى هذه النتائج في مجال سرطان الدم عشرين سنة، لذا من السذاجة أن نتوقع حصول إنجاز مهم خلال فترة قصيرة}. لكن يعني إطلاق عشرات الدراسات على الخلايا التائية احتمال التوصل إلى نتائج مهمة قريباً.

هذه السنة، اختبرت عالِمة الأورام في جامعة بنسلفانيا، مارسيلا موس، الخلايا التائية المهندَسة على خمسة مرضى مصابين بورم أرومي (سرطان دماغي غير قابل للشفاء) وقد قادت واحدة من تلك الدراسات. حين خضع أحد هؤلاء المرضى لجراحة في الدماغ، لاحظت موس أن الورم اختفى بالكامل تقريباً. لم تَبْقَ أي خلايا سرطانية على الإطلاق. هل هذا إثبات على أن الخلايا التائية يمكن أن تعالج سرطان الدماغ أيضاً؟ تتردد موس في الإجابة عن هذا السؤال: {ربما! لا يزال الوقت مبكراً لمعرفة ما إذا كان هؤلاء المرضى سيعيشون لفترة أطول بعد العلاج. يصعب التحلي بالصبر، لكن لا مفر من ذلك}.

التكلفة

كم ستكلف إذاً جرعة من الخلايا المناعية المهندَسة وراثياً؟ أشارت تقديرات مجموعة {سيتي غروب} التحليلية إلى أن السعر سيتجاوز 500 ألف دولار، أي أنه سيكون أعلى كلفة من أي دواء آخر للسرطان. لكنه قد يُعتبر رخيصاً إذا تمكنت عملية حَقن واحدة، مدتها عشر دقائق، من معالجة سرطان الدم بفاعلية ومن دون التسبب بضرر دائم للمريض. تدوم العلاجات الكيماوية الراهنة لسنة أو أكثر ويمكن أن تضعف قلب المريض وجسمه طوال حياته. قد تصل فواتير المستشفى للمصابين بسرطان الدم إلى مليونَي دولار.

كان هار، المدير المالي لشركة {جونو}، معروفاً في وول ستريت بانتقاده لارتفاع كلفة أدوية السرطان. وقد حذر من أنّ الوضع قد يحتّم تدخّل الحكومة كي تحدد الأسعار بنفسها إذا لم تصبح الكلفة معقولة. حين سألتُه عن العلاج بالخلايا التائية، قال إن الوقت لا يزال مبكراً جداً لتقدير كلفته. يتوقف الأمر على مستوى فاعليته ومدى صعوبة تصنيعه: {ما من نموذج معين لتحديد الكلفة. لكننا نتحدث في هذا المجال عن {علاج شافٍ}. وحتى هذه المرحلة، يقتصر العلاج على جرعة واحدة}.

تفاصيل العلاج

يتذكر رايت ما حصل قائلاً: {أثاروا الحماسة بشأن العلاج وكأنه يمهد لإنجاز مدهش}. لذا وافق على المشاركة في تجربة عيادية فوراً، لكنه لم يخبر أحداً بأنه موجود في المستشفى. كتبت له والدته رسائل نصية كثيرة تسأله فيها عن مكان وجوده وعما يحصل معه. بعد بضعة أيام، أخبرها بالحقيقة أخيراً: {أنا في مستشفى الأطفال. أستعد للمشاركة في تجربة}. خضع رايت لعملية اسمها {فصادة الكريات البيض»، مدتها ساعتان، ويمرّ خلالها دمه عبر جهاز لفصل الخلايا التائية. أُخذت الخلايا إلى مختبر حيث وُضع فيها جزء من حمض نووي جديد عبر استعمال فيروس. بعد أسبوعين، تلقى رايت العلاج: يُعاد ضخ الخلايا من كيس مصل طوال عشر دقائق. إنها عملية سهلة مقارنةً بالعلاج الكيماوي. لكن لم يحصل شيء في البداية.

تتضح قوة العلاجات بالخلايا التائية عبر إصابة معظم المرضى بـ}متلازمة إطلاق السيتوكين}، وهو فيض من الجزيئات التي ينتجها الجسم على شكل خلايا لمحاربة السرطان. قُتل سبعة مرضى على الأقل بسبب هذه المتلازمة. تابع الأطباء الذين عالجوا رايت تحليل النتائج للتأكد من إصابته بالحمى، ما قد يشير إلى مفعول الخلايا التائية. قال رايت: {كانوا يضغطون علي كي أتصل بهم وأخبرهم بوضعي}. بعد أسبوعين، اتخذت الأعراض شكل إنفلونزا قوية. فدخل إلى قسم العناية المشددة وهو يقول إنه لم يفهم ما يحدث حين أخبره الأطباء المبتسمون بأنهم لم يجدوا السرطان في جسمه.

تولى الطبيب كارل جون من جامعة بنسلفانيا تسويق أوائل العلاجات الناجحة بالخلايا التائية المهندَسة، وقد شبّه ما يحصل داخل أجسام المرضى بـ}القتل المتسلسل} و}القتل الجماعي}. مع انتشار مليارات الخلايا التائية الموجودة في الجرعة، يمكن تحديد موقع الأورام الثقيلة والقضاء عليها.

الخلايا التائية العادية لا تقوم بذلك لأنها تكون مدرّبة على عدم إيذاء الجسم. يحصل ذلك التدريب في الغدة الصعترية. تعج كل خلية بآلاف النسخ من مستقبِل واحد، ويتكوّن شكلها عشوائياً بفعل حمض نووي معدّل (ثمة مليارات الترتيبات المحتملة). يتم التخلص من الخلايا التائية التي يتصل مستقبلها بمؤشرات السطح، أو المستضدات، على خلايا الجسم. تنطلق بقية الخلايا بحثاً عن أي فيروسات أو جراثيم غريبة الشكل أو خلايا ملتهبة، فتلتصق بها وتدمرها. يقول ميشال سادلين، باحث في مركز السرطان التذكاري سلون – كيترينغ وأحد مؤسسي شركة «جونو»: «المشكلة أنّ السرطان جزء منك. ولا تكون مستضدات السرطان ضخمة وحيوية».

ابتكر العالِم زيليغ إيشار فكرة تغيير عمل الخلية التائية المهندَسة. في دراسة نُشرت في عام 1989 في {حوليات الأكاديمية الوطنية للعلوم}، استبدل بالمستقبِل الطبيعي في الخلية التائية آخر من اختياره. بفضل تقنيته، أدرك إيشار أن الخلية التائية يمكن هندستها كي تتصل بأي عنصر يُطلَب منها الاتصال به.

إنها فكرة خطيرة وقوية في آن لأن عدداً صغيراً من المستضدات يظهر حصراً في الخلايا السرطانية. في عام 2009، تلقت امرأة خلايا تائية مهندَسة كي تتعرف إلى سرطان القولون لكنها واجهت مشكلة تنفسية فجأةً، ثم توفيت بعد خمسة أيام. ألغى الأطباء في {معهد السرطان الوطني} الدراسة سريعاً واستنتجوا أن الخلايا التائية واجهت مستضدها في الرئتين وهاجمته.

سرعان ما ركز العلماء على مستضد مثالي اسمه CD19. هو لا يظهر في أي منطقة من الجسم باستثناء الخلايا البائية، وهو النوع نفسه الذي يضطرب عند الإصابة بسرطان الغدد الليمفاوية وسرطان الدم الذي أصاب رايت. تبين أن استئصال الخلايا البائية لا يهدد حياة المريض. بفضل حقن الغلوبولين المناعي، يمكن أن يعيش المريض من دونها لسنوات.

في عام 2010، بدأ الأطباء في مركز {سلون كيترينغ} وجامعة بنسلفانيا و}المعهد الوطني للسرطان} يحاولون معالجة المصابين بسرطان الدم بالخلايا التائية التي تحمل مستقبِلاً معدّلاً للمستضد CD19. داخل المستقبِل، أضافوا جزءاً آخر من الحمض النووي الذي يحفز الخلايا على الانقسام. لا أحد متأكد من طريقة عمل التحفيز. لكن من دونه، لا تعطي الخلايا التائية المعدّلة مفعولاً بارزاً. سرعان ما تحولت التقارير الأولية إلى تجارب عالجت نحو 350 مصاباً بسرطان الدم والغدد الليمفاوية. كانت النتائج لافتة لأنها بدت متماسكة جداً، مع أن كل مختبر يستعمل تصاميم مختلفة من الحمض النووي.

عوائق تجارية

عند استخراج خلايا الدم البيضاء من جسم رايت في أواخر عام 2013، توجه الباحثون نحو منشأة لمعالجة الخلايا في مستشفى سياتل للأطفال. وضعها العاملون في قسم الأقنعة والبذلات الواقية في مفاعلات حيوية واستعملوا فيروساً لدسّ الحمض النووي الجديد. ثم نمت الخلايا طوال عشرة أيام داخل أكياس بلاستيكية يغذيها مصل الدم البشري. لو لم تبنِ ستة مراكز أكاديمية غرفاً نظيفة ومتخصصة بهذا الشكل لما جرت أي تجارب عيادية ولما طُرحت أي عروض في البورصة. لكنّ مركز جنسن لا يحمل أي أهداف تجارية: يحضّر الخلايا لعشرة مرضى فقط في الشهر، وتكلف عملية تصنيع الخلايا لكل مريض 75 ألف دولار.

يقول جنسن إن ربع الأولاد الذين يجلبهم أهلهم للمشاركة في دراسة سياتل لا يتم قبولهم. تكون الأسباب طبية أحياناً لكن ليس دوماً: القدرات محدودة بكل بساطة! يقول جنسن عن العلاج الخلوي: {أتمنى أن يتمكن كل طفل من الاستفادة منه. أبرز عائق في هذا المجال تجاري: بناء المصانع وإجراء التجارب وتمكّن الأطباء من وصف العلاج في جميع المناطق}.

التسويق

لا أحد متأكد من طريقة تسويق العلاج الخلوي على نطاق واسع. تشير الخطط التي تحدد طريقة عمله إلى أن نقل الخلايا من وإلى المرضى يتطلب 12 خطوة معقدة في المختبر واستعمال طائرتين. هذا ما جعل أكبر عدد من موظفي {جونو} يشاركون في عملية الهندسة. أحدهم هو كريس رامسبورغ وقد أخذني في جولة إلى القسم المخصص لتحليل أفكار جديدة عن تطوير وتوضيب الخلايا. لكن كان معظم المعدات بعيداً عن الأنظار: {يكمن سر {جونو} في تكنولوجيا التصنيع وطريقة استعمالها. ما من تقنيات لصنع هذه المنتجات بعد}.

عمل أعضاء عدة من فريق {جونو}، منهم رامسبورغ وفروهليش وهانز بيشوب، في شركة {داندريون} (Dendreon) للتكنولوجيا الحيوية في سياتل، وقد طوروا علاجاً بالخلايا التائية لسرطان البروستات (بدل هندسة الخلايا، هي تتعرض لمستضدات السرطان ثم تتضاعف. كان العلاج فاعلاً بنسبة ضئيلة). صحيح أن شركة {داندريون} فرضت 93 ألف دولار مقابل هذا العلاج، لكنّ تصنيعه يكلّف نصف هذا المبلغ. أفلست الشركة في السنة الماضية.

أخذت {نوفارتيس} مصنع {داندريون} في نيو جيرسي وبدأت تستعمله لمعالجة خلايا المرضى المشاركين في دراستها عن سرطان الدم. يقول عزام إن {نوفارتيس} التي تشمل 400 شخص يعملون في العلاج الجيني والخلوي تدرس الإجراءات اللوجستية لتحديد طريقة طرح العلاج الخلوي عالمياً: {نعمل على تحديد مسار المرضى ورحلة الخلايا الفردية. إنها طريقة جديدة لمعالجة المرضى ولتنفيذ الأعمال التجارية أيضاً}.

قد يتمكن العلماء يوماً من إنتاج كميات كبيرة من هذه الخلايا التائية أو القيام بهندسة وراثية بالقرب من المريض. يستعمل بعض المختبرات أدوات لضخ المواد الوراثية في الخلايا عن طريق الكهرباء أو الضغط. وأثبتت مختبرات أخرى أنها تستطيع إنتاج الخلايا التائية في طبق مخبري واستعمالها لمعالجة الفئران، ما يعني احتمال نشوء مصانع للخلايا التائية. لكن حتى الآن، تستعمل علاجات الخلايا التائية في الاختبارات العيادية خلايا المريض الخاصة.

back to top