القراءة... هل تزيدنا سعادةً؟

نشر في 31-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-07-2015 | 00:01
No Image Caption
منذ بضع سنوات، تلقيتُ هدية غريبة كانت جلسةً بعيدة مع معالِجة بالقراءة في مقر «مدرسة الحياة» في لندن، وهي تقدم دروساً مبتكرة لمساعدة الناس على التعامل مع تحديات الوجود اليومية على المستوى العاطفي. أعترف بأنني لم أحبذ في البداية فكرة أن أتلقى «وصفة» بشأن المؤلفات التي يجب أن أقرأها. لأنني كنت أفضّل تقليد طريقة فيرجينيا وولف العاطفية فأتّكل على الصدفة في اكتشافاتي الشخصية للمؤلفات، ولا أستمتع بالكتب وحدها بل بالطريقة العشوائية التي توصلني إليها (في الحافلة بعد انفصال عاطفي، أو في نزل في دمشق، أو على رفوف مكتبة مظلمة في الجامعة، أو خلال تصفح الكتب بدل الدراسة). وكثيراً ما كنت أنزعج من الطريقة «التبشيرية» الغريبة التي يعتمدها بعض القرّاء: فيوصون بقراءة كتاب معين ويقذفون كتاباً في يدك بكل حماسة، من دون أن يدركوا أن قيمة الكتب تختلف بين شخص وآخر (أو يمكن أن تعني أموراً مختلفة بالنسبة إلى الشخص نفسه) في مراحل متنوعة من حياتنا. ولطالما أحببتُ قصص جون أبدايك عن عائلة مايبل حين كنت في العشرينيات من عمري مثلاً، ولكني صرتُ أكرهها حين أصبحتُ في الثلاثينيات، وما زلت لا أعرف السبب. الكلام لسريدوين دوفي في «نيووركر» حيث يعرض تجربته مع القراءة.

كانت تلك الجلسة هدية لي، فوجدتُ نفسي أستمتع على نحو مفاجئ بالاستمارة الأولية التي أرسلتها لي المعالِجة بالقراءة إيلا بيرثوود والتي تشمل أسئلة عن عادات القراءة لديّ. لم يطرح عليّ أحد يوماً هذا النوع من الأسئلة، مع أن قراءة الأدب القصصي لطالما كانت، ولا تزال، أساسية في حياتي. أنا أحب الغوص في الكتب خلال العطل الطويلة وأوضّب الكتب أكثر من الملابس. لقد أفشيتُ بسري الصغير: لا أحب شراء الكتب أو اقتناءها، وأفضّل دوماً جلبها من المكتبة (بصفتي كاتبة، قد لا ينعكس هذا السلوك إيجاباً على مبيعاتي!). رداً على سؤال {ما الذي يشغلك في هذه اللحظة؟}، تفاجأتُ من الإجابة التي أردتُ الاعتراف بها، فكتبتُ: أشعر بالقلق من غياب الموارد الروحية التي تسمح لي بمواجهة أحزان المستقبل الحتمية عند خسارة شخص أحبه. أنا لست متديّنة ولا أريد أن أكون كذلك، لكني أحب أن أقرأ المزيد عن أفكار الآخرين بشأن طريقة وصولهم إلى شكل مبكر وغريب من الإيمان بـ}كائن أعلى} كتكتيك عاطفي للصمود. مجرّد الإجابة على تلك الأسئلة جعلني أشعر بالتحسن والراحة.

تبادلنا بعض الرسائل المثيرة للاهتمام عبر البريد الإلكتروني: سعت بيرثوود إلى الغوص في أعماقي، فسألتني عن تاريخي العائلي وخوفي من الحزن. وحين أرسلت لي «وصفة» أخيرة من الكتب، كانت مليئة بالمؤلفات الثمينة التي لم أقرأها يوماً. شملت الكتب التي أوصت بها «المرشد» (The Guide) للكاتب ر. ك. نارايان. كتبت بيرثوود أنها {قصة جميلة عن رجل يبدأ حياته المهنية كمرشد سياحي في محطة قطار في مالغودي، الهند، لكنه يعود ويعمل في وظائف أخرى قبل إيجاد مصيره غير المتوقع كمرشد روحي}.

اختارت لي ذلك الكتاب على أمل أن يجعلني {أستنير على نحو غريب}. حمل كتاب آخر عنوان {الإنجيل بحسب يسوع المسيح} (The Gospel According to Jesus Christ) للكاتب خوسيه ساراماغو: {لا يكشف ساراماغو عن موقفه الروحي الخاص في هذا الكتاب بل إنه يطرح نسخة حية ومقنعة من القصة التي نعرفها جميعاً}. كانت كتب {هندرسون ملك الأمطار} (Henderson the Rain King) للكاتب سول بيلو و} سيدهارتا» (Siddhartha) للكاتب هيرمان هسه من بين الأعمال الأخرى التي أوصتني بها، وقد أضافت أيضاً بعض القصص الواقعية مثل {قضية في سبيل الله} (The Case for God) للكاتبة كارين أرمسترونغ و{المجموع} (Sum) لعالم الأعصاب ديفيد إيغلمان، وهو {كتاب قصير ورائع عن الحياة الأخرى}.

حرصتُ على مطالعة الكتب الواردة على اللائحة خلال السنتين اللاحقتين، بوتيرتي الخاصة، وقد خلطتُها مع {اكتشافاتي} الشخصية: كنت محظوظة بما يكفي لتجنب اختبار قدرتي على تحمّل مواقف الحزن المريعة، حتى الآن، لكن ساعدني بعض الأفكار التي استخلصتُها من هذه الكتب على تجاوز وضع مختلف بالكامل، وتحديداً حين تحمّلتُ ألماً جسدياً حاداً على مرّ أشهر عدة. لا تزال الأفكار بحد ذاتها مبهمة، تماماً مثل الخبرة المكتسبة من قراءة الأدب القصصي، لكن تكمن قوتها في هذه النقطة بالذات. في ظل العصر العلماني الراهن، أظن أنّ قراءة الأدب القصصي هي واحدة من المسارات القليلة المتبقية لتطوير الذات: إنها الحالة المبهمة التي تشهد تلاشي المسافة بين الذات والكون. إنّ قراءة الأدب القصصي تجعلني أغيب عن ذاتي، لكنها تُشعِرني في الوقت نفسه بحقيقة ذاتي على نحو فريد من نوعه. كتبت وولف التي تُعتبر من أكثر القرّاء شغفاً أن الكتاب {يقسمنا إلى جزئين حين نقرأ}، لأن {فعل القراءة يستلزم التخلص التام من الأنا} تزامناً مع التعهد بتحقيق {اندماج دائم} مع عقل آخر.

أهداف علاجية

العلاج بالقراءة مصطلح واسع جداً يُستعمل للإشارة إلى الممارسة القديمة التي تقضي بالتشجيع على القراءة لأهداف علاجية. استُعمل هذا المصطلح للمرة الأولى في مقالة ممتعة صدرت في عام 1916 في مجلة The Atlantic Monthly بعنوان {عيادة أدبية}. يصف الكاتب فيها كيف عثر على معهد خاص بمحبي القراءة عبر شخص يعرفه اسمه باغستر، في الطابق السفلي من كنيسته، فيبدأ من هناك بتوزيع التوصيات بشأن الكتب التي تحمل قيمة علاجية. يوضح باغستر: {العلاج بالقراءة هو علم جديد. قد يكون الكتاب منشّطاً أو مهدئاً أو مزعجاً أو مخدّراً. المهم هو أنه يؤثر بالقارئ بطريقةٍ ما ولا بد من اكتشاف ذلك الأثر. قد يكون الكتاب بطبيعته أشبه بشراب مهدئ أو ضمادة شافية}. بالنسبة إلى شخص في منتصف العمر يحمل {آراءً متحجرة جزئياً}، يقدم باغستر الوصفة التالية: {يجب أن تقرأ روايات إضافية بدل القصص الممتعة التي تجعلك تنسى نفسك. ويجب أن تكون تلك الروايات بحثية وقوية ولاذعة ومؤثرة} (جورج برنارد شو هو على رأس اللائحة!). استُدعي باغستر أخيراً للتعامل مع مريض {أخذ جرعة زائدة من الأدب الحربي}، ما جعل الكاتب يفكر بالكتب التي {تبث فينا حياة جديدة ثم تجدد نبض الحياة بوتيرة قوية لكن بطيئة}.

اليوم، يتخذ العلاج بالقراءة أشكالاً مختلفة، بدءاً من الدروس الأدبية التي تُعطى للسجناء وصولاً إلى أوساط القراءة المخصصة لكبار السن المصابين بالخرف. قد يقتصر الأمر أحياناً على جلسات فردية أو جماعية للقراء الذين يفتقرون إلى التركيز ويريدون الاستمتاع بالكتب مجدداً. تمارس بيرثوود وصديقتها القديمة والمعالِجة بالقراءة سوزان إيلدركين العلاج «العاطفي» بالقراءة، فتدافعان عن قوة القراءة الترميمية. تقابلت الاثنتان في جامعة كامبريدج، منذ أكثر من 20 سنة، وقد طورتا علاقتهما فوراً بناءً على الكتب المشتركة التي تطالعانها، ولا سيما رواية إيتالو كالفينو، «مسافر في ليلة شتاء» (a Winter’s Night Traveller)، وهي تتمحور حول طبيعة القراءة. مع تطور صداقتهما، بدأتا تتبادلان التوصيات بشأن الروايات المفيدة لتجاوز اضطراباتهما، مثل الجروح العاطفية أو الشكوك المهنية. قالت لي بيرثوود: «حين كانت سوزان تواجه أزمة مهنية (أرادت أن تصبح كاتبة لكنها كانت تتساءل عن قدرتها على التكيف مع مواقف الرفض الحتمية)، أعطيتُها قصائد «أركي وميهيتابل» للكاتب دون ماركيز: «بما أن الصرصار «أركي» كرّس نفسه لفنه لدرجة أن يقفز على مفاتيح الآلة الكاتبة لكتابة قصائده كل ليلة في مكاتب مجلة Evening Sun في نيويورك، يجب أن تكون بدورها مستعدة لتحمّل المعاناة من أجل فنها}. بعد مرور سنوات، قدمت إيلدركين لبيرثوود، التي أرادت أن تعرف كيفية إقامة توازن بين الرسم والأمومة، رواية باتريك غيل، {ملاحظات من معرض} (Notes from an Exhibition)، وهي تتناول قصة فنانة ناجحة لكن مضطربة.

هما تابعتا تبادل التوصيات بشأن الروايات مع بعضهما ومع الأصدقاء وأفراد العائلة طوال سنوات عدة. وفي عام 2007، حين كان الفيلسوف آلن دي بوتون (زميل لهما في جامعة كامبريدج) يفكر بالذهاب إلى {مدرسة الحياة}، عرضتا عليه فكرة إدارة عيادة للعلاج بالقراءة. قالت بيرثوود: {كل ما كنا نعرفه هو أن أحداً لم يقم بهذا العمل في تلك الفترة. كان العلاج بالقراءة، إذا وُجد أصلاً، يرتكز عموماً على سياق طبي أوسع، مع التركيز على كتب المساعدة الذاتية. لكننا كرّسنا نفسنا للأدب القصصي باعتباره أفضل علاج على الإطلاق كونه يمنح القرّاء تجربة حاسمة تكون كفيلة بتغيير حياتهم}.

زمن الإغريق

درست بيرثوود وإيلدركين طريقة العلاج بالقراءة وعادتا إلى زمن الإغريق القدامى الذين كتبوا فوق مدخل إحدى المكتبات في طيبة أنه {مكان لشفاء الروح}. تطورت هذه الممارسة تلقائياً في نهاية القرن التاسع عشر، حين بدأ سيغموند فرويد يستعمل الأدب خلال جلسات التحليل النفسي. بعد الحرب العالمية الأولى، تلقى الجنود المصدومون والعائدون إلى ديارهم من جبهة القتال توصيات بأخذ درس في القراءة. توضح إيلدركين: {تلقى أمناء المكتبات في الولايات المتحدة تدريباً حول طريقة تقديم الكتب إلى المحاربين القدامى في الحرب العالمية الأولى، وانتشرت قصة جميلة عن استعمال روايات جين أوستن لغايات علاجية في الوقت نفسه في بريطانيا}. في وقت لاحق من ذلك القرن، استُعمل العلاج بالقراءة بطرق متنوعة في المستشفيات والمكتبات وقد استعمله مؤخراً علماء النفس والاختصاصيون الاجتماعيون والعاملون في مجال الرعاية بالمسنين والأطباء باعتباره نمطاً علاجياً فاعلاً.

نجد اليوم شبكة من المعالجين بالقراءة يتم اختيارهم وتدريبهم على يد بيرثوود وإيلدكين، وهي تابعة لـ}مدرسة الحياة} وتنشط حول العالم، من نيويورك إلى ملبورن. تتعلق أبرز الاضطرابات التي يحملها الناس معهم بالعمليات الانتقالية في المراحل المفصلية من الحياة: أي حين ندخل في نفق مظلم في مسيرتنا المهنية، أو نشعر بالاكتئاب في علاقاتنا، أو نفقد أشخاصاً أعزاء على قلوبنا. يقابل المعالجون بالقراءة عدداً كبيراً من المتقاعدين أيضاً ويعرف هؤلاء أنهم سيحصلون على فرصة القراءة خلال العشرين سنة اللاحقة مع أنهم اكتفوا سابقاً بقراءة كتب التشويق والجرائم ويريدون إيجاد عامل جديد لمتابعة مسارهم. يسعى الكثيرون إلى التأقلم مع مسؤوليات الأبوة. تقول بيرثوود: {قابلتُ عميلاً في نيويورك، وهو رجل أنجب أول طفل له وكان يشعر بالقلق من تحمّل مسؤولية كائن صغير آخر. فنصحتُه بقراءة كتاب {حرارة الغرفة} (Room Temperature) للكاتب نيكلسون بايكر، فهو يتمحور حول رجل يطعم طفله زجاجة حليب وتراوده تلك الأفكار التأملية بشأن الأبوة. ولا ننسى طبعاً كتاب {أن تقتل طائراً بريئاً} (To Kill a Mockingbird) لأن شخصية {أتيكوس فينش} تعكس صورة الأب المثالي في عالم الأدب}.

بيرثوود وإيلدركين هما كاتبتا {العلاج بالرواية: دليل شامل عن العلاجات الأدبية} (The Novel Cure: An A-Z of Literary Remedies)، وقد كُتب بأسلوب القاموس الطبي وهو يحدد لمختلف الاضطرابات ({الفشل، مشاعر متفرفة}) علاجات القراءة المناسبة (تاريخ السيد  بولي (The History of Mr. Polly) للكاتب ه. ج. ويلز). صدر الكتاب للمرة الأولى في بريطانيا في عام 2013، وقد نُشر الآن في 18 بلداً. وفي تحول لافت للأحداث، يسمح العقد لأي محرر محلي واختصاصي في القراءة باقتباس حتى 25% من الاضطرابات وتوصيات القراءة بما يناسب القرّاء في كل بلد تزامناً مع إدراج عدد إضافي من الكتّاب المحليين. تبدو الاضطرابات المقتبسة الجديدة مهمة ثقافياً. في النسخة الهولندية، تتعلق إحدى الاضطرابات المقتبسة بـ}المبالغة في تقدير قدرات الطفل}. وفي النسخة الهندية، طُرحت مواضيع {التبول في الأماكن العامة} و}الهوس بلعبة الكريكيت}. أدرج الإيطاليون من جهتهم مفاهيم {العجز} و}الخوف من الطرق السريعة} و}الرغبة في الحماية}. وأضاف الألمان مواضيع {كره العالم} و}الأطراف التي تتبادل الكره}. تعمل بيرثوود وإيلدركين الآن على إصدار نسخة أدبية للأولاد، بعنوان {مجموعة غنية من القصص} (A Spoonful of Stories)، ومن المتوقع أن تصدر في عام 2016.

الآثار على الدماغ

بالنسبة إلى جميع المتعطشين للقراءة الذين اعتادوا على مداواة نفسهم بكتب ممتازة طوال حياتهم، لا عجب أن تكون قراءة الكتب مفيدة للصحة العقلية والعلاقات مع الآخرين، لكن بدأ سبب هذه الظاهرة وطريقة حصولها يتّضحان الآن بفضل بحث جديد حول آثار القراءة على الدماغ. منذ اكتشاف {الخلايا العصبية الانعكاسية} (أي الخلايا التي تنشط في الدماغ حين نقوم شخصياً بعمل معين وحين نشاهد عملاً يقوم به شخص آخر)، في منتصف التسعينات، زاد علم الأعصاب المبني على التعاطف وضوحاً. نُشرت دراسة في عام 2011 في {المراجعة السنوية لعلم النفس}، استناداً إلى تحليل مسوحات دماغية بتقنية التصوير بالرنين المغناطيسي لدى المشاركين بالدراسة، فتبين أن الناس الذين يقرأون عن تجربة معينة يسجلون إشارة تحفيزية ضمن المناطق العصبية التي تنشط حين يخوضون تلك التجربة بنفسهم. نحن نتكل على الشبكات الدماغية عينها حين نقرأ القصص وحين نحاول تكهّن مشاعر الآخرين. نُشرت دراسات أخرى في عامَي 2006 و2009 وتوصلت إلى نتيجة مماثلة: الناس الذين يطالعون الكثير من مؤلفات الأدب القصصي يتعاطفون مع الآخرين أكثر من غيرهم (مع أن الباحثين اعترفوا بالنزعة المحتملة التي تجعل أكثر الأشخاص تعاطفاً يفضلون قراءة الروايات). في عام 2013، نُشرت دراسة مهمة في مجلة {العلوم} واستنتجت أن قراءة الخيال الأدبي (بدل قصص الخيال الشعبي أو القصص الأدبية الواقعية) تحسن نتائج المشاركين في الاختبارات التي تقيس درجة الإدراك الاجتماعي والتعاطف، وهي عوامل حاسمة بالنسبة إلى {نظرية العقل}: إنها القدرة على تكهّن أفكار أو مشاعر إنسان آخر بشكل دقيق، وهي مهارة يبدأ البشر بتطويرها في عمر الرابعة تقريباً.

النفس المرتبط بالأدب

أدار كيث أوتلي، روائي وأستاذ فخري في علم النفس المعرفي في جامعة تورنتو، جماعة بحثية تُعنى بعلم النفس المرتبط بالأدب القصصي طوال سنوات عدة. فذكر في كتابه {أشياء مثل الأحلام: علم النفس المرتبط بالأدب القصصي} (Such Stuff as Dreams: The Psychology of Fiction) الذي صدر في عام 2011: {لقد بدأنا نحدد طريقة التعايش مع الشخصيات الخيالية ونفهم كيف يحسن الفن الأدبي القدرات الاجتماعية وكيف يمكن أن ينقلنا عاطفياً ويُحدِث فينا تغيرات ذاتية. الخيال هو نوع من المحاكاة وهو لا يحصل على الحواسيب بل في العقول: إنها محاكاة للذات في تفاعلاتها مع الآخرين داخل العالم الاجتماعي... هي ترتكز على الخبرة وتشمل القدرة على التفكير بسيناريوهات مستقبلية محتملة}. تعكس هذه الفكرة قناعة قديمة وشائعة بين الكتّاب والقراء مفادها أن الكتب هي أفضل أصدقاء لنا، كونها تمنحنا فرصة التدرب على التفاعلات مع الآخرين في العالم، من دون التسبب بأي ضرر دائم. في مقالة أصدرها مارسيل بروست في عام 1905 بعنوان {حول القراءة}، يعبّر الكاتب عن الوضع بكل براعة فيقول: {مع الكتب، ما من تفاعلات اجتماعية إجبارية. نحن نمضي الأمسيات مع أولئك الأصدقاء (أي الكتب) لأننا نرغب في ذلك فعلاً. وحين نتركهم، نقوم بذلك بكل أسف. وبعد أن نتركهم، لا تراودنا تلك الأفكار التي يمكن أن تفسد الصداقة: {ما رأيهم بنا}؟ {هل ارتكبنا خطأً وتفوهنا بأمر غير لائق}؟ {هل أعجبوا بنا فعلاً}؟ ولن نشعر بالقلق من أن ينسوننا إذا انتقلنا إلى فعل نشاط آخر}.

جورج إليوت

سرت إشاعات مفادها أن الروائية جورج إليوت تجاوزت حزنها على فقدان شريك حياتها عبر برنامج من القراءة الموجّهة مع شاب أصبح زوجها لاحقاً. هي كانت تظن أن {الفن هو أقرب ما يكون إلى الحياة. إنه نمط مبني على تضخيم التجارب وتوسيع احتكاكنا بالناس بما يتجاوز روابطنا الشخصية}. لكن لا يوافق الجميع على هذا الوصف لقراءة الأدب القصصي باعتبارها قادرة على تحسين تصرفاتنا على أرض الواقع. تناقش سوزان كين، في كتابها {التعاطف والرواية} (Empathy and the Novel) الذي صدر في عام 2007، {فرضية التعاطف مع الغير}، وهي تشكك بتحول روابط التعاطف التي تنشأ خلال القراءة إلى سلوك اجتماعي إيجابي في العالم. كما أنها تشير إلى صعوبة إثبات تلك الفرضية. كتبت كين: {لا يمكن أن تُحدِث الكتب بحد ذاتها أي تغيير، ولا يشعر الجميع بضرورة أن تفعل ذلك. يعرف جميع محبّي الكتب أن القراء قد يبدون غير اجتماعيين وكسالى أيضاً. قراءة الروايات ليست رياضة جماعية}. لذا تحثنا كين على أن نستمتع بما يقدمه لنا الأدب القصصي، ولا سيما التحرر من الواجب الأخلاقي الذي يدعونا إلى حمل شعور معين تجاه الشخصيات المبتكرة، كما نفعل تجاه الكائنات الحية الحقيقية التي تتألم أو تعاني، ما يعني أن القراء {يتجاوبون أحياناً بهامش أوسع من التعاطف مع موقف غير حقيقي وشخصيات خيالية بسبب الطابع الخيالي الواقي}. هي تدعم من كل قلبها المنافع الصحية لأي تجربة مؤثرة مثل القراءة كونها {تسمح بإيجاد منفذ مريح والابتعاد عن الضغوط اليومية العادية}.

حالة من النشوة الممتعة

حتى لو لم نوافق على قدرة القراءة على تحسين طريقة تعاملنا مع الآخرين، لا يمكن أن ننكر أنها طريقة لتحسين تعاملنا مع نفسنا. تبين أن القراءة تضع الدماغ في حالة من النشوة الممتعة، بما يشبه أثر التأمل، وهي توفر المنافع الصحية التي يقدمها الاسترخاء العميق والهدوء الداخلي. تتحسن نوعية النوم لدى الأشخاص الذين يقرأون بانتظام وتتراجع لديهم مستويات الضغط النفسي ومعدلات الاكتئاب ويزيد تقديرهم لنفسهم مقارنةً بمن لا يقرأون. كتبت الكاتبة جانيت وينترسون: {تحمل مؤلفات الأدب القصصي والشعر جرعات من الأدوية. هي تشفي الأثر الذي يخلّفه الواقع على المخيلة}.

وصفت لي امرأة كيف ساعدتها الجلسات الجماعية والفردية التي عقدتها مع بيرثوود على التكيف مع سلسلة من المصائب، بما في ذلك خسارة زوجها، ونهاية التزام مدته خمس سنوات، والتعرض لنوبة قلبية. هي تقول: {شعرتُ بأن حياتي لا هدف لها. شعرتُ بالفشل كامرأة}. شملت الكتب التي أوصت بها بيرثوود في البداية رواية {فندق نيو هامبشير} (The Hotel New Hampshire) للكاتب جون إيرفينغ. {كان هذا الأخير الكاتب المفضل لزوجي وقد شعرتُ بأنني عاجزة عن قراءته لأسباب عاطفية}. هي شعرت {بالدهشة والتأثر الشديد} عند رؤيته ضمن اللائحة، ومع أنها تجنبت قراءة كتب زوجها حتى تلك الفترة، سرعان ما اكتشفت أن القراءة هي {تجربة عاطفية وغنية جداً}، على مستوى الأدب بحد ذاته وللتخلص من الشياطين التي تطاردنا}. كما أنها أشادت بتوجيهات بيرثوود التي قادتها إلى رواية {عطر رقص الجتربغ» (Jitterbug Perfume) للكاتب توم روبنز، فقد شكلت تجربة تعليمية حقيقية بشأن الأحكام المسبقة ومختلف التجارب.

مشاكل

تشمل المشاكل الواردة في {العلاج بالرواية} {الشعور بوجود عدد مفرط من الكتب في العالم}، وهي مشكلة أعاني منها في مناسبات متكررة. تقول إيلدركين إنها من أبرز المشاكل لدى القراء المعاصرين وهي لا تزال تشكّل حافزاً قوياً لها ولعمل بيرثوود في مجال المعالجة بالقراءة: {رغم نشر أعداد كبيرة من الكتب أكثر من أي وقت مضى، نشعر بأن الناس يختارون من مجموعة محدودة. يكفي أن ننظر إلى لوائح القراءة في معظم نوادي الكتب كي نلاحظ وجود المؤلفات نفسها، أي تلك التي تروّج لها الصحافة. إذا احتسبنا عدد الكتب التي نقرأها سنوياً، وبالتالي العدد الذي سنقرأه طوال حياتنا، سندرك تدريجاً ضرورة أن نكون انتقائيين جداً لضمان الاستفادة القصوى من وقت القراءة}.

 ما هي أفضل طريقة لفعل ذلك؟ يجب مقابلة المعالِجين بالقراءة وتلبية دعوتهم في أقرب فرصة، أو كما قال شكسبير في مسرحية {تيتوس أندرونيكوس}: {تعالوا واختاروا ما تشاؤون من مكتبتي كلها/ وتناسوا بذلك همومكم...}.

back to top