أناس صالحون... وأحكام طالحة

نشر في 29-07-2015
آخر تحديث 29-07-2015 | 00:01
هناك من زعماء الدهماء الشعبويين في الغرب من ينادي بحظر القرآن ومنع المسلمين من الهجرة إلى بلادهم، وهؤلاء الزعماء لهم أتباع، وربما تتزايد أعداد هؤلاء الأتباع بفِعل القلق الواسع الانتشار إزاء امتداد الإرهاب من الشرق الأوسط، لكنهم لا يشكلون أغلبية حتى الآن، ولا يمثل الاعتقاد بأن الغرب يتعرض لخطر داهم يتمثل بـ«التعريب» أو «الأسلمة» تياراً سائداً بعد.
 بروجيكت سنديكيت كان فيدكون كويسلينغ، زعيم النرويج الفاشي في زمن الحرب والذي أصبح اسمه مرادفاً للتعاون مع الشر، يعيش مع زوجته في فيلا فخمة خارج أوسلو، والآن تحولت هذه الفيلا إلى المركز النرويجي لدراسات الهولوكوست والأقليات الدينية، وهو تحول حسن وبارع لمكان ذميم.

في وقت سابق من هذا العام، قمت بزيارة المركز لحضور معرض رائع لأول دستور نرويجي مستقل صدر في عام 1814. كانت وثيقة مستنيرة وتقدمية بشكل ملحوظ، تولى كتابتها علماء مثقفون ومتعمقون في التاريخ والقانون والفلسفة، وكان بعضهم خبراء في الكلاسيكيات الإغريقية، وآخرون خبراء في الثقافة العبرية القديمة، وكانوا جميعاً من القراء المتحمسين لأعمال كانط وفولتير.

ولكن هناك رغم ذلك فقرة استثنائية في ذلك الدستور: فالمادة الثانية تعلن حرية الدين في الدولة اللوثرية، ولكن مع التنبيه على «الاستمرار في منع اليهود من دخول المملكة»، وكان ذلك غريباً حتى في ذلك الوقت، والواقع أن نابليون، الذي هُزِم في العام نفسه، كفل الحقوق المدنية لليهود في البلدان التي فتحها، وقبل أن تدخل هذه الفقرة القانون النرويجي، منح ملك الدنمارك اليهود في مملكته حق المواطنة.

لم يكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام في دستور 1814 هو أنه يحتوي على هذه الفقرة، بل لماذا احتوى عليها، والواقع أن الدوافع التي أعلنها المفكرون الذين وضعوا الدستور لم تكن عنصرية؛ فهم لم يفترضوا أن اليهود أقل شأناً من الناحية البيولوجية، بل كانت الحجة وراء هذه المسألة ثقافية وإيمانية، حيث اعتبرت معتقدات اليهود وعاداتهم غير متوافقة مع القيم الغربية الحديثة المستنيرة.

وقد زعم أحد واضعي الدستور، فريدريك موتزفيلت، أن اليهود لن يدمجوا أنفسهم أبداً مع الناس في أي بلد، وأكَّد آخر أن الديانة اليهودية تشجع أتباعها على خداع المسيحيين وغيرهم من غير اليهود، وكان الاعتقاد السائد أن اليهود سيشكلون دائماً «دولة داخل الدولة».

لا شك أن واضعي الدستور كانوا يدركون أن اليهود تعرضوا لفترة طويلة للاضطهاد في بلدان أخرى، ولكنهم خلصوا إلى أن تلك لم تكن مشكلة النرويج، وبالنسبة إلى النرويج كان من الأفضل عدم السماح لهم بأن يصبحوا مواطنين على الإطلاق، وشرح خبراء الثقافة العبرية أن التوفيق بين الثقافة اليهودية والدستور النرويجي أمر مستحيل، وأكد الخبراء أن (التوراة) هي الدستور الوحيد الذي يعترف به اليهود، وبالتالي فمن المنطقي أن تكون مصدر خشية، تماماً كما يخشى منتقدو الإسلام المعاصرون الشريعة الإسلامية.

أي أن القضية الرئيسة كانت الدين لا العِرق، وإن كان الخلط بين الاثنين أمراً وارداً بسهولة، وكما يوضح هاكون هاركت، الباحث النرويجي العظيم في موضوع الفقرة المعادية لليهود: «فحتى أولئك الذين ناضلوا من أجل منح الحقوق المدنية لليهود كانوا يطمحون غالباً إلى تحرير اليهود من اليهودية».

الواقع أن أوجه التشابه مع الأفكار الحالية عن المسلمين والإسلام واضحة ولا تحتاج إلى الإشارة إليها، فالآن أيضاً كثيراً ما يستحضر التنوير بوصفه اختصاراً للقيم الغربية التي يفترض أنها معرضة لخطر «الأسلمة»، والآن أيضاً يحذر الناس من المسلمين المخادعين، والدولة داخل الدولة، واستحالة الاندماج، والاحتياج الشديد إلى العلمانيين المخلصين لتحرير المسلمين المغيبين من دينهم.

من المؤكد أنه في عام 1814 لم يكن هناك معادل يهودي للجهادية العنيفة التي تسمم العلاقات مع المسلمين في الغرب اليوم، ولكن هناك دروس يمكن استخلاصها من الفقرة المضللة المعادية لليهود في الدستور النرويجي، والتي ألغيت بعد بضعة عقود فقط. إن الآراء والأحكام السيئة من الممكن أن تنشأ حتى من الدوافع اللائقة، والمعرفة (بالإسلام أو اليهودية) ليست وقاية كافية ضد الأفكار الغبية.

بيد أن الدرس الأكثر أهمية رغم ذلك هو أنه من الحماقة في كل الأحوال- بل من الخطورة بمكان- أن نحكم على الناس من خلال ما نعتقد أنهم يؤمنون به، فافتراض أن جميع المسلمين يفكرون بنفس الطريقة بسبب خلفيتهم الدينية، وأنهم يتبعون «عقلاً جماعيا» لا أفكاراً فردية، خطأ لا يقل فداحة عن افتراض أي شخص أنه يعرف عقول اليهود أو المسيحيين أو أي شخص آخر، والادعاء بأن شيئاً بهذا التنوع، والغموض في بعض الأحيان، مثل الإيمان الديني، يمكن ربطه بموقف إيديولوجي ثابت، بسبب نصوص قديمة بعينها، أمر شديد التضليل.

هناك من زعماء الدهماء الشعبويين في الغرب من ينادي بحظر القرآن ومنع المسلمين من الهجرة إلى بلادهم، وهؤلاء الزعماء لهم أتباع، وربما تتزايد أعداد هؤلاء الأتباع بفِعل القلق الواسع الانتشار إزاء امتداد الإرهاب من الشرق الأوسط، لكنهم لا يشكلون أغلبية حتى الآن، ولا يمثل الاعتقاد بأن الغرب يتعرض لخطر داهم يتمثل بـ»التعريب» أو «الأسلمة» تياراً سائداً بعد.

ولكن حتى ساسة التيار السائد ربما باتوا معرضين، وأحياناً لأفضل الأسباب، لخطر الانزلاق إلى ارتكاب النوع نفسه من الأخطاء التي ارتكبها أعضاء الجمعية التأسيسية النرويجية في عام 1814، على سبيل المثال، يسعى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد التطرف الإسلامي من خلال حظر التعبير عن أفكار ترى الحكومة أنها تروج للتطرف أو تمجده، وقد أعلن أن الأشخاص الذين «يرفضون قيمنا» سيحاكمون «سواء انتهجوا أساليب عنيفة أو لم يفعلوا».

الحق أن كاميرون ليس معروفاً بالعنصرية أو التعصب، فهو يحاول التصدي لمشكلة حقيقية: الترويج لأيديولوجيات متطرفة عنيفة، ولكن في حين يجب معاقبة أولئك الذين يرتكبون أعمال عنف بكل تأكيد، فإن ملاحقة الناس بسبب أفكارهم فحسب- أو ما هو أسوأ بسبب ما نتصور أنه أفكارهم- لا يختلف كثيراً عن مطاردة الساحرات (المعارضين).

الواقع أن كاميرون على حق: فالقيم الأساسية مثل الديمقراطية والتسامح أمور مرهفة، ولابد من الدفاع عنها، ولكن من الصعب أن نرى كيف يمكن اعتبار حظر الأفكار، أو معاقبة أولئك الذين لا يفعلون شيئاً أكثر من التعبير عنها، أفضل وسيلة للدفاع عن هذه القيم النبيلة.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في بارد كوليدج، ومؤلف كتاب «العام صِفر: تاريخ من 1945».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top