أنجيلا ميركل... خذلت اليونان وأوروبا؟

نشر في 08-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 08-07-2015 | 00:01
كانت أنجيلا ميركل تستعد للمغادرة لتمضية عطلة نهاية الأسبوع حين تلقت اتصالاً غيّر الوضع كله. أمضت المستشارة الألمانية يوماً مشحوناً وهي تعقد اللقاءات مع رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس، فكانت الاجتماعات تحصل حيناً مع مجموعة أكبر من المسؤولين وتقتصر أحياناً على تسيبراس والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند.

تناقش المجتمعون بشأن إعادة هيكلة الديون وإنفاق مليارات اليورو على شكل استثمارات إضافية. يمكن أن يكون تسيبراس عنيداً جداً في ما يخص المسائل التي تهمّه. لكن في النهاية، غادرت ميركل وهي تشعر بأن قمة الاتحاد الأوروبي لم تنجح بأي شكل في تحسين الوضع.

في حديث جانبي، همس رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولز لميركل في بروكسل أنّ تسيبراس كان يسعى إلى إيجاد حلفاء له في المعارضة كي يتمكن معهم من فرض برنامج إصلاحي في البرلمان اليوناني، من دون الحاجة إلى موافقة حزب {سيريزا} الراديكالي عند الاقتضاء. سأل تسيبراس شولز إذا كان يستطيع مساعدته، إذ يرتبط شولز بعلاقات وثيقة مع أعضاء حزب {باسوك} الديمقراطي الاجتماعي.

لكن حين عادت ميركل إلى برلين، تلقت اتصالاً من تسيبراس. فأخبرها بأنه لا يهتم بعقد صفقة بل إنه ينوي إجراء استفتاء في اليونان أولاً.

بعد فترة قصيرة، كتب في تغريدة على حسابه: {إذا قلنا {لا} بكل وضوح، فسنوجه رسالة مفادها أن اليونان لن تستسلم}.

تستمتع أنجيلا ميركل بأداء دور «ملكة أوروبا». لكنها لم تتعلَّم طريقة استعمال نفوذها بل إنها تسمح بتفاقم وضع سيئ إلى أن يخرج عن السيطرة. هكذا أدى عجزها عن اتخاذ مواقف لا تحظى بتأييد شعبي إلى تفاقم الأزمة اليونانية. «شبيغل» جاءت بالتفاصيل.

من المعروف أن ميركل لا تنزعج بسهولة، فقد وصلت إلى هذه المكانة لأنها تجيد التحكم بعواطفها. هي التزمت الصمت طوال نهاية الأسبوع. لكن خلال اجتماع عُقد أخيراً لأعضاء بارزين من حزب {الاتحاد الديمقراطي المسيحي} الذي تنتمي إليه، ألمحت إلى أنها تشعر بخيبة أمل كبيرة من تسيبراس. فاعتبرت أن سياساته {صارمة وإيديولوجية} وأنه يقود البلد إلى طريق مسدود مع أنه يدرك ذلك.

لطالما وصفت ميركل تسيبراس بالرجل المنفتح والمعتدل على الصعيد الشخصي مع أنه يقود منظمة مجنونة. كانت تأمل أن يسعى تسيبراس في النهاية إلى الاحتكام إلى المنطق. لكن يبدو أنه تسبب الآن بأكبر هزيمة لميركل خلال عهدها كمستشارة ألمانيا.

{لن يبقى ما يخيفنا}!

في نهاية المطاف، سيقع اللوم طبعاً على الحكومة اليونانية الراديكالية إذا طُرد البلد من منطقة اليورو. كيف يمكن التعامل مع رئيس حكومة يخوض المفاوضات عبر استعمال لغة التعبئة العسكرية؟ كتب تسيبراس في تغريدة: {العدالة إلى جانبنا. إذا تمكنا من تجاوز الخوف، فلن يبقى ما يخيفنا}.

لكنّ الانقسام السائد اليوم في أوروبا يتعلق أيضاً بأسلوب ميركل القيادي وإصرارها الغريب على السماح بالممطالة في مختلف القضايا لفترات مطولة. قد تكون هذه الطريقة فاعلة عند التفاوض على تسوية أو حين يبدي جميع المشاركين في التفاوض استعدادهم للتوصل إلى نتيجة إيجابية. لكنها تصبح محدودة حين يبدو شخص مثل تسيبراس مصمماً على التعامل مع المسائل بشكل متطرف.

اتضح منذ فترة طويلة أن وضع اليونان مختلف في سياق أزمة اليورو. إنه بلد فاشل في نظامه الضريبي ونظام تسجيل الأراضي، وهو بلد مديون بشدة لدرجة أن أي خبير اقتصادي منطقي لا يصدّق أنه سيتمكن يوماً من تسديد ديونه. كذلك، يخضع البلد منذ سنوات لأحزاب كانت تنهب الدولة. ثم ظهرت حركة {سيريزا} التي تحلم بالإطاحة بالنظام، أو هذا ما تعترف به على الأقل في أوساطها الراديكالية.

كانت ميركل تعرف هذه المعلومات كلها. لكنها حاولت معالجة المشكلة عبر حلول استعملتها في السياسة المحلية الألمانية: التأجيل والاختباء وإبقاء الأمور مبهمة. لم تغب الأصوات التحذيرية طبعاً، إذ لطالما أكد وزير المالية فولفغانغ شويبله على ضرورة إخراج اليونان من منطقة اليورو بطريقة منظّمة.

تأمل ميركل أن يصوّت اليونانيون ضد تسيبراس ولصالح اقتراحات التقشف التي طرحها الدائنون يوم الأحد. إذا حدث ذلك، بالكاد سيتمكن رئيس الحكومة اليوناني من البقاء في منصبه.

لكن رغم ذلك، ستبقى اليونان مفلسة وستضطر لتشكيل حكومة جديدة وسط جو من الفوضى.

كانت أزمة اليونان تتطلب حساً قيادياً عالي المستوى وخطة مدروسة لكن لم تكن ميركل مستعدة لتوفير أيٍّ من هذين العاملين. صحيح أنها تحب النفوذ، لكنها لا تجيد استعماله في الأوقات الحاسمة. وها هي تواجه الآن انهيار سياستها الأوروبية.

كيف اتخذ الوضع هذا المنحى الكارثي؟

سياسات {ماكينزي}

لفهم سياسات ميركل، لا بد من العودة بالزمن إلى عام 2003. في تلك الفترة، كانت قد مرت ثلاث سنوات فقط على ترأسها لحزبها وكانت منشغلة بصياغة برنامجها الجديد لحزب {الاتحاد الديمقراطي المسيحي}. كانت ألمانيا تشمل حينها أربعة ملايين ونصف عاطل عن العمل، وكانت خزائن الضمان الاجتماعي فارغة، وكان أرباب العمل يتذمرون من ارتفاع الأعباء الضريبية عليهم. لم يكن وضع ألمانيا سيئاً بقدر اليونان اليوم، لكنها كانت بأمسّ الحاجة إلى إعادة الهيكلة فبدأت ميركل تطرح برنامجاً إصلاحياً صارماً للبلد. وفرت شركة {ماكينزي} الإدارية والاستشارية الأرقام الدقيقة لدعم رسالتها المريرة التي تدعو إلى التقشف.

تتولى شركة {ماكينزي} عرض الحقائق المزعجة وتستعين بها الشركات التي تحتاج إلى تخفيض نفقاتها وتسريح الموظفين. من الأسهل على المدراء أن يختبئوا وراء تحليلات المستشارين. هذا هو مبدأ {ماكينزي}.

طبّقت ميركل هذا المبدأ في عالم السياسة. حين اندلعت أزمة اليورو في عام 2010، حرصت على إشراك صندوق النقد الدولي لتنفيذ خطة إعادة الهيكلة في اليونان. فعلت ذلك رغم معارضة وزير المالية شويبله الذي اعتبر أن أوروبا يجب أن تحلّ مشاكلها بنفسها.

يؤدي صندوق النقد الدولي دور شركة {ماكينزي} في مجال السياسة العالمية. فهو يساعد أي بلد يواجه مصاعب مالية ويقدم القروض إذا وافقت البلدان في المقابل على تطبيق الإصلاحات.

تجديد استعمال الرياضيات

كانت هذه الفكرة منطقية في البداية. فقد غرقت أوروبا في الأزمة أصلاً لأن القارة العجوز، في خضم احتفالها بالتكامل الأوروبي، لم تتنبه كثيراً للأرقام. طرح المستشار السابق هلموت كول مفهوم اليورو لكنه بالغ بذلك في التركيز على عواطفه مقابل تراجع الاهتمام بالوقائع الاقتصادية. كان إشراك صندوق النقد الدولي يهدف إلى إعادة الرياضيات إلى المعادلة.

لكن يتعارض مبدأ {ماكينزي} مع مساعي ميركل إلى كسب النفوذ. يحب مستشاروها وصفها بملكة أوروبا باعتبارها المسؤولة عن تحديد المبادئ التوجيهية للقارة. لكن في الأشهر الأخيرة، بدأت تُعتبَر المرأة التي تختبئ وراء نصائح وتوصيات خبراء صندوق النقد الدولي، أي وراء {التكنوقراط} كما يقول تسيبراس.

لذا يعكس الصراع القائم بين ميركل ورئيس الحكومة اليوناني معركة على تعريف معنى العمل السياسي. حوّل تسيبراس صندوق النقد الدولي إلى رمز للقمع باعتباره مجموعة من التكنوقراط الذين يفتقرون إلى الشرعية الديمقراطية ولكنهم لا يترددون رغم ذلك في إخضاع بلد كامل. لقد كان يعرف كيف ينظم المقاومة ضد صندوق النقد الدولي ويحولها إلى معركة تطالب بحق البلد بتقرير مصيره. كان يهدف بذلك إلى رفع المحادثات إلى المستوى السياسي.

بالنسبة إلى تسيبراس، تُعتبر السياسة أشبه بعصا سحرية يمكنها أن تخفي كل شيء: أكوام الديون ومتطلبات الإصلاح والقانون الذي يمنع البنك المركزي الأوروبي من توفير السيولة للبلدان عبر طباعة الأموال. يصعب تحديد ما يريده حزب {سيريزا}. يشمل هذا الحزب عدداً من الماويين السابقين فضلاً عن أعضاء محبطين من الحزب الديمقراطي الاجتماعي. يحلم البعض بالثورة بينما سيُسَرّ البعض الآخر بنيل إعفاء من الديون. لكن ثمة أمر واحد مؤكد: يكمن تطرف تسيبراس في إيمانه بقوة القرار. إذا لم يقبل بالقوانين، هو يطالب بإسقاطها. هذا هو منطق حزب {سيريزا}.

يتعلق فشل ميركل الحقيقي بامتناعها عن مجابهة منطق تفكيره بشكل صارم، فهي اختبأت وراء الترويكا في البداية لأنها لم تشأ أن تتولى نقل الحقائق المرّة إلى الحكومة اليونانية. لقد طبّقت مبدأ {ماكينزي}.

وعندما أصبحت مطالب تسيبراس أكثر إلحاحاً، رضخت لمنطقه. فتبنّت الشعار التالي: {الحل يكمن في قوة الإرادة}! في ألمانيا، اعتُبرت تلك الكلمات مؤشراً على حسن النية أو الرغبة في إبقاء اليونان ضمن منطقة اليورو. لكن فسّرها تسيبراس بطريقة مختلفة بالكامل، فاعتبرها تحدياً يدفعه إلى اتخاذ قرارات حاسمة.

أوروبا في عهد ميركل

وقفت ميركل أمام شاشة زرقاء في ردهة دار الاستشارية وتفوهت بعبارة تختصر سياستها الأوروبية. كانت تناقش ما إذا كانت معارضة اليونانيين لبرنامج الإصلاح الذي طرحه الدائنون تعني معارضتهم للبقاء في منطقة اليورو. لكن بدل تأييد القرار أو معارضته قالت: {أعترف بكل صراحة بأنني محتارة في هذه المسألة}.

لا يمكن أن يتهم أحد ميركل بافتقارها إلى المبادئ على مستوى السياسة الخارجية. من المعروف أن ولاءها للولايات المتحدة لا يمكن أن يتزعزع، ولم يتأثر هذا الموقف بعد الكشف عن تجسس وكالة الأمن القومي على هاتفها الخليوي وهواتف عدد من الوزراء الألمان.

هي تؤيد إسرائيل بشدة، حتى لو لم تفعل الحكومة الراهنة شيئاً لعقد السلام مع الفلسطينيين. في النهاية، نجحت في التوافق مع كل رئيس فرنسي قابلته، حتى فرانسوا هولاند الذي خاض حملة ضد المستشارة الألمانية وسياسات التقشف التي تؤيدها.

لكن يبقى موقفها بشأن أوروبا أقل وضوحاً. من جهة، تبرز ميركل الموضوعية التي تتعامل بالأرقام. حين تسافر حول العالم، إلى الصين أو أندونيسيا مثلاً، تحمل في يدها دوماً جميع الجداول والرسوم البيانية اللازمة لإثبات الجهود الكبرى التي تبذلها هذه البلدان ومدى استفادة أوروبا من ازدهارها. من المألوف أن تتحدث ميركل عن الإحصاءات التالية: تشمل أوروبا 7% من سكان العالم فقط وهي مسؤولة عن 25% من الإنتاج الاقتصادي العالمي فقط، لكنها تدفع نصف تكاليف الرعاية الاجتماعية العالمية. من وجهة نظرها، لا داعي ليكون الفرد مثقفاً جداً كي يدرك أن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد.

من جهة أخرى، تعلّمت ميركل على مر السنين أن الوضع لا يتحسَّن حين تكتفي بمقاربة المسائل من الناحية الاقتصادية في أوروبا. إنه موقف غير ودي. هذا ما يفسر ما جعل تسيبراس قادراً على إظهارها بصورة الشريرة، أو الطاغية الألمانية التي تدعو إلى التقشف، لأنها كانت تتحدث دوماً عن استهلاك الدين ومعدلات الفائدة.

كذلك ترأس حزباً ناضل أكثر من غيره لتحقيق التكامل الأوروبي ولم يركز على الناحية المادية حصراً. تعلم أنها لا تستطيع تجاهل ذلك التقليد، لذا تضطر أحياناً إلى التظاهر باقتناعها بالوحدة الأوروبية.

يمكن إدراك حجم الحيرة التي تصيب ميركل أيضاً عبر النظر إلى مستشاريها.

رئيس مكتب دار الاستشارية بيتر ألتماير هو رجل محترم وهادئ من ساربروكن بالقرب من الحدود الفرنسية. قبل الدخول إلى عالم السياسة الألمانية، عمل لصالح المفوضية الأوروبية وهو يتكلم الإنكليزية والهولندية والفرنسية بطلاقة.

في الأشهر القليلة الماضية، أدى ألتماير دوراً لضمان أن تبقى ميركل ملتزمة بملف اليونان معتبراً أن المفهوم الأوروبي سيتضرر إذا سمح المجتمع الدولي بسقوط بلد معين.

كان جوابه على الأزمة: تعزيز الالتزام بأوروبا الواحدة.

ما من توقعات وهمية!

على الجانب الآخر، نجد نيكولاس ماير لاندروت الذي ترأس قسم الشؤون الأوروبية في دار الاستشارية طوال سنوات. بيروقراطي صارم وكلامه لاذع، لكنه يتمتع بحس فكاهة. هو أحد الأشخاص الذين يقدمون لميركل جميع الأرقام التي تفسر أسباب غياب التقدم في اليونان. كان جوابه حول الأزمة: الدول القومية يجب أن تفرض سيطرتها!

لا تحمل ميركل العمليّة أي أوهام بشأن اليونان. لا تظن أن الطبقات السياسية في أثينا ستتمكَّن من وضع البلد على المسار الصحيح. خلال إحدى الرحلات، أصابتها نوبة ضحك مفاجئة. فقالت إن الحكومة اليونانية كانت ترفض دفع ثمن الغواصات الألمانية التي اشترتها بحجة أن الغواصات شائبة. قالت ميركل {تصوروا أنها شائبة!} وهي تذرف الدموع من فرط الضحك.

في أكتوبر 2012، زارت ميركل أنتونيس ساماراس الذي كان رئيس الحكومة اليوناني حينها في أثينا. هي لم تكن تحمل احتراماً شديداً لساماراس الذي فاز برئاسة حزب {الديمقراطية الجديدة} المحافظ بعد الإعلان عن معارضته لبرنامج الإصلاح الذي طالب به الدائنون في اليونان، مع أنه عاد وتراجع عن موقفه بعد وصوله إلى السلطة. لكن كما يحصل في أغلب الأحيان، لم تتحقق الوعود التي قطعها لبروكسل يوماً.

خلال رحلة العودة إلى برلين، تحدثت ميركل المرتبكة عن تفاخر ساماراس خلال إحدى المقابلات بقدرة وزرائه على التواصل معه في عطلة نهاية الأسبوع. كان المغزى من القصة واضحاً بالنسبة إليها: كيف يمكن أن يتقدم البلد إذا كان زعيمه يعتبر هذا الأمر السخيف عملاً بطولياً؟

في عام 2012، كادت ميركل تطرد اليونان من منطقة اليورو، لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة. كانت تخشى أن يؤدي هذا القرار إلى مصير شبيه بإفلاس بنك ليمان في عام 2008. كانت تلك الخطوة الشرارة التي أشعلت الأزمة المالية العالمية.

الإمبريالية التربوية

منذ ذلك الحين، شهدت مواقف المستشارة الألمانية تقلبات كثيرة. تتصرف حيناً بطريقة عملية وتكشف أحياناً عن تمسكها بأوروبا الموحدة. تعتبر ميركل العملية أن خروج اليونان من منطقة اليورو هو أفضل حل منطقي، بينما تشعر ميركل المتعاطفة مع أوروبا بالقلق من أن يعتبرها المراقبون {حافرة قبر} الاتحاد الأوروبي إذا سمحت بسقوط اليونان. تتعدد الحجج التي تبرر الموقفَين، لكن لم تتخذ ميركل يوماً قراراً حاسماً بهذا الشأن. لقد تركت الوضع مفتوحاً على جميع الاحتمالات.

مهّدت أزمة اليورو لنشوء بُعد جديد لمعنى النفوذ بالنسبة إلى ميركل. منذ عام 2010، عُقدت سلسلة لامتناهية من القمم الرامية إلى حل الأزمة في بروكسل ولطالما كانت المستشارة الألمانية محور الانتباه، فهي تُعتبر أهم مصدر لتمويل خطط الإنقاذ وقد منحتها هذه المكانة نفوذاً واسع النطاق. كانت ميركل تستمتع بأداء دور ملكة أوروبا ولم تسمح بمنح هذا اللقب لغيرها: لم تكن صاخبة في مواقفها بقدر غيرهارد شرودر ولا قوية بقدر هلموت كول.

لكنها قامت بما لم يفعله أي مستشار ألماني يوماً: طبقت سياسة الإمبريالية التربوية فدعت خطتها إلى ضبط الميزانية وإصلاح سوق العمل واللجوء إلى الخصخصة. نجحت الخطة في إسبانيا والبرتغال وإيرلندا. لكن في اليونان، لم تكن الشروط التي فرضها الدائنون العلاج الشافي للأزمة بل كانت أشبه بِسمّ بدأ بتدمير المجتمع.

أدركت ميركل حقيقة ما يحصل لكنها لم تتمتع بالشجاعة الكافية لمواجهة العواقب. كانت الخيارات البديلة موجودة. كان يمكن أن تعرض على اليونان مساراً آمناً ومدعوماً للخروج من منطقة اليورو. إنها خطة العمل التي يدعمها وزير المالية فولفغانغ شويبله داخلياً منذ سنوات. أو كان يمكن أن تعرض على اليونان تخفيض الديون. لو فعلت ذلك في الوقت المناسب، كان يمكن أن تتجنب على الأقل توجّه السياسة اليونانية نحو التطرف.

لم تكن هذه الخيارات لتخلو من المخاطر طبعاً. لكنها كانت تتطلب الكثير من الشجاعة والتمويل وكانت لتعرّض ميركل للهجوم، وهي لم تشأ وضع نفسها في موقف مماثل.

لذا اختبأت وراء الترويكا، أو وراء التكنوقراط المكروهين، ما أدى إلى تنامي نفوذ حزب {سيريزا} سريعاً. يُعتبر تسيبراس، بدرجة معينة، نتاج تأرجح أسلوب ميركل القيادي. في دار الاستشارية الألمانية، يعبّر المسؤولون عن ارتياحهم لأن تسيبراس لم يتمكن من تقسيم أوروبا ولأن أحداً لا يلوم ألمانيا على المأزق الراهن. قد يكون ذلك صحيحاً، لكنها نظرة مبسّطة للأمور. ستحقق ميركل نجاحاً حقيقياً حين يتوقف الجميع عن توجيه أصابع الاتهام إليها.

ما الذي تريده ميركل؟

قبل ثلاثة أيام من احتفال حزب {الاتحاد الديمقراطي المسيحي}، كانت ميركل تشارك في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وكانت أزمة اليونان مدرجة على جدول الأعمال لكن برزت مسألة أخرى على طاولة النقاش أيضاً. طرح رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جانكر وثيقة تسعى إلى تحديد هدف جديد لأوروبا، أو رسم فكرة جديدة تتجاوز حدود المشاغل اليومية.

فاقترح توسيع صلاحيات المفوضية من حيث الإشراف على الميزانية مثلاً. لم يكن جانكر يحاول إطلاق ثورة أو وضع حجر الأساس لإنشاء حكومة أوروبية موحدة أو للتخلص من الدول القومية الأوروبية. بل كانت مجرد محاولة لاستخلاص بعض الاستنتاجات العملية من أزمة اليورو.

لكن لا تريد ميركل حصول ذلك. خلال مؤتمر صحفي بعد القمة، تحدثت عن كل شيء: عن اليونان، وعن اللاجئين الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط، وعن جاك ديلور الذي حصل على لقب المواطن الفخري في أوروبا... لكن في ما يخص اقتراح جانكر، لم تقل إلا أمراً واحداً: {لقد تبلّغتُ به}. تعني هذه العبارة في عالم السياسة: انسوا أمره!

تريد ميركل أن تحافظ أوروبا على الدول القومية وألا تصبح متكاملة بدرجة عميقة. لقد كانت تشعر بالقلق من ترشح جانكر عن معسكر المحافظين في الانتخابات الأوروبية في عام 2014 (وكانت محقة في قلقها) خوفاً من أن تؤدي هذه الخطوة إلى تراجع نفوذ رؤساء الدول والحكومات الأوروبية. كما أنها لا تثق بالبرلمان الأوروبي لأن الأغلبية فيه ليست موثوقة بقدر البوندستاغ الألماني في برلين.

لا تعبّر المستشارة الألمانية عن هذه الأفكار صراحةً لأنها ستعارض بذلك المبدأ التأسيسي لحزب {الاتحاد الديمقراطي المسيحي}. هي تستطيع التحدث مثل كول لكنها تخالف ما يمثّله من مبادئ. أمام هذا الوضع، لم يبق إلا اتحاد أوروبي مرتبك كونه لا يعلم ما تريده أقوى امرأة في القارة الأوروبية.

في ظل  أسلاف عمالقة

بعد أقل من خمسة أشهر، وتحديداً في 22 نوفمبر، سيكون قد مر عقد كامل على وصول ميركل إلى السلطة. حتى الآن، لم تركز كثيراً على الإرث الذي ستتركه وراءها، وهو أمر منطقي لأن  هويتها وحدها تجعلها استثنائية من بين المستشارين الألمان كلهم. سعى كونراد أديناور بكامل قوته إلى ترسيخ ألمانيا ضمن محور الغرب، وحرص ويلي برانت على مصالحة الألمان مع الديمقراطية، ويُعتبر هلموت كول المستشار المسؤول عن إعادة توحيد البلد.

أما ميركل، فهي أول امرأة تتولى منصب المستشارة الألمانية. هذا الإنجاز ليس بسيطاً، بل إنه مهم من الناحية الرمزية. لكنّ الأشخاص الذين يعرفون ميركل جيداً يقولون إنها مصمّمة على الترشح مجدداً خلال الانتخابات العامة المقبلة من أجل أوروبا! تريد استعمال نفوذها لإعادة رسم معالم القارة. إذا تفككت منطقة اليورو، سيلقي الحدث بثقله على عهدها. وهكذا ستُعتبر رئيسة حكومة فاشلة.

ألقت ميركل خطاباً بمناسبة الذكرى السبعين لنشوء حزب {الاتحاد الديمقراطي المسيحي}، وقد كانت فرصة جيدة كي توضح بعض المسائل. لكنها بدت متمسكة على نحو غريب بالخطاب الذي استعمله هلموت كول سابقاً. تم تنظيم الاحتفال في محطة لتوليد الطاقة وقد اعتبرت ميركل في خطابها أن تلك المنشأة كانت جزءاً من آخر خط دفاعي استعملته قوات الفيرماخت لمنع تقدم الجيش الأحمر: {مثل هذا المصنع تماماً، تحول البلد كله إلى أنقاض}.

ثم تابعت كلامها واعتبرت أن أوروبا هي الرد المناسب على أهوال تلك الحرب. إنها فكرة جميلة ومحورية، لكنها ليست جديدة بأي شكل. كان كول قد استنتج ضرورة تقريب المسافة بين بلدان أوروبا بوتيرة مستمرة. لكن لم تتوصل ميركل إلى استنتاج مماثل وهذا ما يكشف عن حجم التناقض في مواقفها. فهي تقتبس من خطاب كول لكنها لا تؤيد قناعاته السياسية، وهذا ما يفسر توسّع الفجوة بين أقوالها وأفعالها.

back to top