كامل الشناوي ... شاعر الليل (14): قائد سلاح النكتة والسخرية والمقالب

نشر في 01-07-2015 | 00:02
آخر تحديث 01-07-2015 | 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس. كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.
يوصف كامل الشناوي بأنه آخر ظرفاء العصر. كانت قدرته على السخرية وإطلاق النكات وتدبير المقالب والإفلات من المواقف الصعبة من ملامح شخصيته التي عُرفت عنه، وكانت جرأته في ذلك مضرب الأمثال، وكيف وقد تجرأ مرة وكتب قصيدة بأسلوب شاعر شهير، وسلمها للنشر في صحيفة، مدعياً أنه مندوب  الشاعر، فقط ليثبت لنفسه وللمثقفين، أن معايير نشر الشعر تنظر إلى الأسماء قبل أن تنظر إلى مضمون الشعر، وأن هذا النوع من الشعر العمودي الغارق في التوصيفات والتراكيب والصور الشعرية القديمة سهلة التقليد والنظم. 

بدأت هذه المهارة معه مبكراً منذ صنع من نفسه صورة كاريكاتورية كطفل {مقطوع الذراع} ليصرف نظر الأطفال في قريته عن السخرية من بدانة جسده. 

 

ذكريات عا ئلية

 

ومن نوادره في حي {السيدة زينب} أنه كان يعشق السهر، ويعود إلى المنزل في وقت متأخر جداً. وكان والده يتشدد في منع السهر، خصوصاً أثناء ليالي مولد السيدة زينب. لكن كامل كان يتحايل على هذه الأوامر، وحدث أن قضى سهرته حتى مطلع الفجر، وعاد إلى المنزل بحذر، فسمع والده وقع خطاه على السلم، فخرج من غرفته ليجد نجله أمامه على السلم، فما كان من كامل سوى أن استدار باتجاه هبوط السلم وليس صعوده، وبمجرد أن سأله الوالد عن سبب استيقاظه في هذه الساعة، رد:

- {رايح أصلي الفجر في مسجد السيدة}.

فبادر والده بالدعاء له باستمرار الهداية والإيمان.

 ومرة سمع الوالد وقع قدميه، وحين فتح باب غرفته وجد كامل يصيح:

- {مين؟}. 

ويدعي أمام والده أنه استيقظ لفتح الباب الذي ظن أن أحداً طرقه، وهو في الحقيقة عائد للتو من الخارج. 

وكان والده يرفض تماماً هواية التمثيل التي شعر أن كامل مغرم بها، وعنفه عليها بدعوى أنه لا يريد لنجله أن يكون {مشخصاتي}. وكان لوالده صديق معروف كان رئيساً لحزب العمال، ويدعى محجوب ثابت، انقطعت زياراته فجأة واختفى حتى قلق الشيخ سيد الشناوي عليه، فتنكر كامل في هيئة صديق والده، استخدم ملابس مشابهة، وماكياجاً جعل ملامحه قريبة، وقلد صوته وكان بارعاً في تقليد الأصوات، وذهب لزيارة والده على أنه صديقه محجوب، فاحتفى به الوالد احتفاء كبيرا، حتى اكتشف الملعوب، فانهال على كامل ضرباً بالعصا.  

في أحد الأيام،  أراد شراء مجلة {اللطائف المصورة} ولم يكن معه ثمنها، فقال لشقيقه مأمون الذي لم يكن من متابعيها: 

- مجلة {اللطائف} نشرت هذا العدد صور جميع طلاب مدرستكم}.

فسارع مأمون إلى شراء المجلة، ولم يجد أية صور. لكن كامل ظفر بالعدد مجاناً. وحين تخرج أخوه غير الشقيق المعتز بالله الشناوي، وعمل في المحاماة، وعلقت الأسرة لافتة دعائية له تقول {المحامي أمام المحاكم الشرعية}، تسلل كامل وكان صبياً وأزال من اللافتة كلمة {أمام} ووضع بدلاً منها {وراء}، وظلت اللافتة هكذا، وحين لاحظ شقيقه الأمر، اشتكاه لوالده، أدعى كامل بسذاجة أنه ظن أن الجملة تصف موقع البيت، وهم يسكنون وراء المحكمة الشرعية وليس أمامها. 

ومرة مرض وأوصى الطبيب ألا يأكل سوى اللبن والتين المجفف، لكن شقيقه عبد الرحيم كان يتسلل يومياً ليأكل من طعامه دون أن يدري، وحاول كامل أن يعرف اللص، فقرر عند اجتماع جميع أشقائه على الغداء، وأمسك فكه متوجعاً وقال:

- {أسناني مازالت تؤلمني، رغم كمادات اللبن والتين}. 

بالقطع سأله شقيقه عن هذه الكمادات، فشرح له كامل أنه كل يوم يبلل القطن باللبن والتين، ويضع القطن على أسنانه ثم يعيد القطن إلى الطبق... وهكذا، فما كان من عبدالرحيم أن سمع ذلك، حتى فضح نفسه بإفراغ ما في جوفه.  

وكان يلعب الورق في مراهقته مع أصدقائه، ودخل عليهم والده، فنهرهم بعنف: 

- {بتلعبوا قمار؟!}.

لكن كامل رد بثبات مستغلاً جهل والده بالمسميات الحديثة لهذا اللعب: 

- {أبداً... والله العظيم مش قمار... ده بوكر}.

 

مقالب النجوم

 

كان يسهر مع المطرب المعروف عزيز عثمان وزوجته النجمة السينمائية ليلى فوزي، حين جاء النادل يخبر عزيز أن مكالمة هاتفية بانتظاره. اتجه عزيز نحو الهاتف، ووجد من يخبره أن حريقاً شب في منزله، فهرع إلى هناك ليجد عدداً من أقاربه يبكون وينتحبون ويرتدون السواد، بعدما تلقوا اتصالاً يفيد بموت عزيز عثمان في حادث أليم. وفهم المرحوم الحي أن كامل صاحب المقلب، بسبب هجوم سابق لـعزيز عليه. 

وكان صديقه الممثل سعيد أبوبكر معروفاً بحرصه على المال، وفي الوقت نفسه حب الطعام، فهاتفه كامل وأخبره أنه يعزمه على عشاء فاخر مع خمسة آخرين من أصدقائه، وأن عليه أن يتصل بالمطعم الشهير، حيث يعرفونه أي {أبو بكر} ويحجز العزومة في الثامنة مساء. جاء الموعد ولم يحضر سوى {أبو بكر}، وعندما مر الوقت فهم المقلب، واضطر إلى دفع الفاتورة، وهاتفه كامل، ليخبره أن ضيوفه مرهقون ولن يحضروا، ثم يضحك وهو يقول له:

- {وزع الأكل على المساكين وأبناء السبيل}.

وكان المخرج محمد سالم قد عاد بعد غيبة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية، وفاته كثير من المتغيرات في مصر، وحاول استعادة نشاطه الفني، وسأل كامل النصيحة، فأشار عليه أنه يمكن أن يجمع فريد الأطرش وشقيقته أسمهان في عمل مشترك، وطلب منه أن يتصل بفريد، ويطرح عليه الفكرة، وحذره مسبقاً من أن فريد قد يرفض، أو يتحجج بسفر أسمهان أو حتى يدعي وفاتها، وأن عليه أن يلح بإصرار، ويعرض عليه أجراً مضاعفاً.ولما نفذ سالم النصيحة تعرض لحرج بالغ من فريد الأطرش حتى اقتنع أنه مقلب من الشناوي، وأسمهان توفيت بالفعل. 

وفي تلك الأثناء أقنع كامل المخرج محمد سالم، أن الدكتور لويس عوض واحد من أشهر مفكري عصره، فنان قدير وحاصل على دكتوراه في الدراما، ويجيد تمثيل كل الأدوار، لكنه اعتزل، واكتأب بسبب مضايقات المخرجين والمنتجين الذين لا يقدرونه مادياً وأدبياً، وأن أعظم ما يمكن أن يقدمه كمخرج للفن، هو إقناع لويس عوض بالعودة إلى جمهوره وفنه.  

ونفذ سالم النصيحة أيضاً، واتصل بلويس عوض، وعرض عليه المشاركة بالتمثيل في عمل تلفزيوني كبير، فعاجله عوض بالتقريع لاعناً جهله وضحالة ثقافته، وأغلق الهاتف في وجهه. 

عاد سالم، وحكى لكامل الشناوي ما جرى، فعنفه بدعوى أنه اتصل في وقت غير مناسب، لأن والدة لويس عوض توفيت للتو، فانتظر سالم أسبوعين ثم عاود الاتصال بلويس عوض مجدداً العرض، ومحاولاً نصحه أن يتغلب على أحزانه ويعود إلى فنه وجمهوره ويبدأ من جديد. لكن لويس أسمعه المزيد من الشتائم، وهدده بإبلاغ البوليس إن استمر في إزعاجه. 

 

{بالطو} حمدي وعشاء أم كلثوم

 

وكان كامل مستشاراً عاطفياً لبليغ حمدي، الملحن الشهير جداً، والذي كان رفيقاً دائماً في السهرات. وحين بدأت العلاقة العاطفية بين بليغ ووردة الجزائرية، كان يشكو من تشدد شقيق المطربة، وحضوره الدائم في كل لقاءاتهما، ما يمنعه من الانفراد بها أو الإفصاح عما بداخله نحوها. حتى في تلك اللقاءات التي كانت تجمعهما للتدريب على لحن جديد كان الشقيق يفرض نفسه. ونصحه كامل أن يرتدي {بالطو} كلما التقى وردة، وأن يكتب خطاباته الغرامية لها ويضعها في الجيب، وكانت وردة تمد يدها، وتأخذ الخطاب، وتضع في الجيب الآخر خطابها. 

وحدث أن كان سهراناً بصحبة محمد عبد الوهاب وعدد آخر من الموسيقيين والمطربين من بينهم عبد الغني السيد، فدخل عليهم مطرب شعبي كان في الأصل أحد أفراد تخت عبد الوهاب، وكان مخموراً، فأخذ يهجو الموسيقار ويسبه، فغرق في الحرج وعجز عن الرد بما عُرف عنه من افتقاره لملكات الهجوم العلني على خصومه. فتصدى كامل للرد عليه، وهذه المرة هجاه بشعر ارتجله من وحي اللحظة، فأغرق الحاضرين جميعاً في ضحك مجلجل، فقال في هذا المطرب المغمور: 

 

ما أصعبه

ما أرهبه

ما أعجبه

ما أغربه

يا ليت إنساناً بمد الكف

كان هذبه

وعلى الرصيف وضبه

وشده واغتصبه

ونال منه مأربه.

 

وعندما اشترى الكاتب الصحافي يوسف الشريف سيارة صغيرة، قال له كامل: 

- {والله ربنا رحمك يا يوسف... بدل ما تزق عربية بليغ... تزق لحسابك}.

وبمناسبة السيارات كانت للمصور الصحافي منير فريد سيارة قديمة كثيرة الأعطال، وجاء من يشتريها في حضور كامل، فقال منير فريد للمشتري إنها لم تعمل سوى أربعة آلاف كيلو متر، فسارع كامل بالتدخل في الحديث قائلاً:

- {هذا صحيح... حتى بالأمارة أنا زقيت منهم ألفين كيلو}.

وكان الشاعر أحمد رامي لا يملك هاتفاً في منزله، وكلما سأله أحد لماذا لا يحصل على واحد، يقول: 

- {قدمت طلباً لمصلحة التليفونات منذ عشر سنوات ولم ترد، ويبدو أن المصلحة تفضل عدم إزعاجه بالمكالمات حتى يتفرغ لكتابة الأغاني لأم كلثوم}.

لكن كامل كان عنده تفسير آخر، حيث قال إنه يخشى أن تكلمه أم كلثوم في الهاتف ويرد عليها أمام زوجته، فتظن أن {الست} متيمة بزوجها، وقال في ذلك قولته الساخرة الشهيرة: 

- {تاريخ الشعر سيذكر أن شاعرين فقط لم يدخل بيتهما الهاتف... امرؤ القيس وأحمد رامي}.

وخلال خوضه معركة الشعر الجديد مع الجيل الأحدث الذي تحرر تماماً من السجع والتفاعيل، دخل في سجال مع الشاعر الشاب وقتها أحمد عبد المعطي حجازي، وكان يسخر من صلعته، وسماه {أصلع غرناطة}.وكان يجاوره صحافي في جريدة {الجمهورية} يخرج صوته من الأنف فسماه {أخنف نوتردام}. وكان له صديق دائم الخطبة ثم فسخ الخطبة، فسماه {إسماعيل الفسخاني}. وسمى كاتباً يسارياً كان دائم الكتابة عن الفقراء والعدالة رغم ثرائه وامتلاكه الكثير {البارون الاشتراكي}. وقال عن الممثل سعيد أبو بكر:

- {دخلت عليه غرفته بمسرح الأزبكية فضبطته بيحوش}.  

وذهب مع صديقه الشاعر عبد الحميد الديب إلى عزاء، وهما بعد لم يخلعا الزي الأزهري، وكان العزاء في قرية بجوار القاهرة، ويحضره عدد كبير من الأزهريين، والجو شديد الحرارة، وكان {الديب} من ظرفاء عصره، فجلس وكامل يتأملان العمائم وهما يضحكان ضحكاً مكتوماً، ثم مال عليه كامل وكأنه يلقنه شيئاً، وفجأة صاح الديب في المعزين، بحديث مزعوم عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)..

ورغم أن غالبية الحضور أزهريون، إلا أنهم سمعوا {الحديث المزعوم} وصلوا على النبي، ثم حلوا عمائمهم، بعدما بدأ كامل بحلها استجابة لدعوة الديب. لكن شيخاً عجوزاً انتبه فجأة بعدما حل عمامته، فصرخ في الناس أن يعيدوا العمائم، وأخبرهم أن الحديث غير صحيح، فغضب المعزون وانهالوا على الديب ضرباً، فيما أظهر كامل أنه لا يعرفه. 

وفي ليلة ذات صيف، قرر أن يدعو  أم كلثوم وعبد الوهاب ومجموعة من الأصدقاء على العشاء في فندق {مينا هاوس}، وهناك وجد المطعم أغلق أبوابه مبكراً، وصار موقفاً محرجاً أمام ضيوفه، وسخرت منه أم كلثوم، وكانت الوحيدة التي تقدر عليه. لكنه في تلك اللحظات شاهد عمال مطعم شهير يحملون خروفاً محشواً بالمكسرات، ويدخلون به الفندق، تحرى عن الأمر سريعاً، فعرف أن المطرب محمد أمين يقضي شهر العسل في الفندق بعد زواجه من الفنانة الشهيرة مديحة يسري، فسارع كامل إلى إعلان أن العزومة قائمة، معلناً انتصاره على أم كلثوم، وقال لضيوفه إن الفندق طلب الطعام من الخارج، بسبب الإصلاحات في مطعمه. 

وصحب كامل ضيوفه إلى الدور العلوي، حيث جناح مديحة يسري وزوجها، وظن الزوجان أن هذه الكوكبة جاءت لتبارك لهما الزواج، فرحبوا بالجميع، وتقاسموا الخروف، وكانت سهرة رائعة غنى فيها عبد الوهاب وأم كلثوم، وكان الزوجان في غاية السعادة. 

 

تقليد الأصوات

 

وكان كامل يجيد تقليد الأصوات، واستغل موهبته تلك في تدبير بعض المقالب وبعض المصالحات، أشهرها خلاف كبير نشب بين الكاتبين الكبيرين وقتها توفيق دياب وعبدالقادر حمزة، تطور إلى المحاكم وفضح الأسرار الخاصة، فاتصل ذات ليلة بعبدالقادر حمزة مُقلداً صوت توفيق دياب، وأبدى توفيق المزيف الندم والاعتذار عما بدر منه، وبكى حمزة من التأثر، وبكى كامل بطريقة بكاء توفيق، ثم عاود الكرة وتقمص صوت عبد القادر حمزة واتصل بتوفيق دياب مبدياً ذات الندم والاعتذار. وفي صباح اليوم التالي كان الكاتبان يتحادثان ويعلنان انتهاء خلافهما وكل منهما يعتقد أن الآخر من بادر بالاعتذار.   

وخلال صيف ما في {رأس البر} وجد جاره القاضي، يضرب خادمته الصغيرة بعنف، فقرر أن ينتقم منها، وكانت لهذا القاضي ميول وفدية، وكان الملك فاروق قد دعا مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد، لتشكيل الحكومة، فتقمص كامل صوت فؤاد باشا سراج الدين، سكرتير عام الحزب، واتصل بجاره القاضي، وأخبره أن النحاس باشا اختاره ليكون وزيراً للعدل، وعليه أن يمثل في قصر عابدين صباحاً بزي التشريفة ليحلف اليمين أمام الملك.

استأجر القاضي بدلة التشريفة، وأذاع الخبر على كل أهله وأصدقائه ومعارفه، وذهب لقصر عابدين، ووجد النحاس وسراج الدين وباقي الوزراء وسلم عليهم بحرارة وهم يتعجبون من وجوده. وحين جاء موعد الدخول إلى قاعة حلف اليمين حاول الدخول، فناداه النحاس باشا وعنفه بشدة على وجوده، وكاد يضربه بعصاه، والرجل يحاول إفهامهم أنه تم الاتصال به ليكون وزير العدل. لكن الجميع استقبل حديثه بالسخرية والضحك وتم طرده من القصر. 

ومرة جاءه رجل ريفي يدعى حسين العجيزي، يطلب منه التدخل باعتباره صحافياً معروفاً ومعه البكوية، لإعفاء نجليه من التجنيد، وحاول كامل إقناعه أن ذلك لم يعد يحدث لا بالوساطة ولا حتى بدفع الرشاوى ولكن دون جدوى، فاضطر إلى أن يخبره أنه سيكلم له حيدر باشا، وزير الحربية. 

وبالفعل تحدث كامل إلى الباشا، لكن بصوت هذا الرجل أكثر من مرة، وقال لخادمه إنه يريده في أمر خطير، فأيقظوه، وعندها قال له: 

- {أنا حسين العجيزي، وعندي ولدان محبوسان، واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، وأريد جمع شملهما في سجن واحد}. 

كان حيدر باشا ضابطاً صارماً، استمع إلى المكالمة وأغلق الخط. لكن كامل طارده في كل مكان بالاتصالات على أنه حسين العجيزي، حتى طلبه مرة على هاتفه المباشر الخاص جداً، وعنفه جداً، وقال له كلاماً قاسياً عن أن الوزراء هم خدام المواطنين، وأنه لا يصلح وزيراً، وأنه سيأتي إلى مكتبه غداً في العاشرة صباحاً، فإما أن ينجز له طلبه، أو لن يسلم من غضبه. 

وجاء الرجل يسأل كامل عمَّا فعل، فقال له إنه رتب له موعداً مع حيدر باشا شخصياً غداً في العاشرة صباحاً، فذهب الرجل في اليوم التالي في الموعد المحدد، وبمجرد أن ذكر اسمه، حتى قبض عليه أمن الوزارة وأوسعوه ضرباً بأوامر مباشرة من وزير الحربية. 

وحين كان رئيساً لتحرير جريدة {الجمهورية}، لاحظ أن محرراً ما يستسهل الحصول على البيانات الرسمية، ولا يجلب أخباراً مهمة فيها جهد بحثي، فأراد أن يستحثه، فاستدعاه مرة، وقال له:

- {طبعاً أنت تعرف أن الأديب الروسي الكبير تولستوي هو رئيس المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي}.

رد المحرر:   

- {طبعاً يا فندم... هو مؤلف الحب والسلام، أنا شاهدت الفيلم}.  

اطمأن كامل إلى ضحالة معلومات المحرر، فالرجل مؤلف {الحرب والسلام}، وهو يختلط عليه اسم الرواية، ولم يتوقف بأي شكل من الدهشة أو الإنكار أمام المعلومة المغلوطة حول تولى تولستوي سكرتارية الحزب الشيوعي، وهو الذي تُوفي قبل الثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفياتي من الأساس. لكن ذلك دفع كامل إلى المضي في مقلبه، فقال لمحرره إن تولستوي هنا في القاهرة على رأس وفد سوفياتي لإجراء مباحثات خطيرة، وعليه أن يعرف التفاصيل ويجري معه حواراً. 

ذهب المحرر إلى وزارة الخارجية ليسأل، فقيل له إنه لم يحضر وفد سوفياتي، فظن أنهم لا يرغبون في التعاون معه، فذهب للرئاسة، وطلب من صلاح الشاهد، كبير الأمناء في القصر الجمهوري، مساعدته في عمل حوار مع تولستوي، وصارت قصته مثار سخرية الجميع في الرئاسة والخارجية وفي أوساط الصحافيين. حتى إن هذا المحرر حضر لقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر، وبمجرد أن تحدث ضحك عبد الناصر وهو يقول له:

- {أنت بتاع تولستوي}. 

وضجت القاعة بالضحك. 

back to top