الشمولية

نشر في 30-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 30-06-2015 | 00:01
في سنة 2011 تظاهر العديد من الروس المتعلمين والميسورين نسبياً، للمطالبة بالديمقراطية الحقيقية، آملين استخدام «أصواتهم» لتغيير النظام من الداخل، ولكن بوتين الذي حصل على تفويض انتخابي ساحق من أجل العودة إلى الرئاسة لفترة ثالثة، لم يكن يستمع إليهم، بل على العكس زاد القمع.
 بروجيكت سنديكيت لقد نظر ألبرت هيرشمان في دراسته التي أجراها في السبعينيات تحت عنوان "الخروج والصوت والولاء" في ثلاثة خيارات أمام الناس للرد على عدم رضاهم عن المنظمات أو الشركات او الدول، بأن هؤلاء الناس يستطيعون أن يغادروا أو يطالبوا بالتغيير أو التنازل، وفي السنوات الخمس والأربعين الأخيرة منذ نشر كتابه تم تطبيق إطار هيرشمان بنجاح على مجموعة واسعة جداً من السياقات، كما أن استخدام ذلك الإطار في فهم السياسات الروسية الحالية يعطي معلومات مهمة.

إن العديد من الروس المتعلمين والميسورين نسبياً تظاهروا في سنة 2011-2012 للمطالبة بالديمقراطية الحقيقية، آملين استخدام "أصواتهم" من أجل تغيير النظام من الداخل، ولكن فلاديمير بوتين الذي حصل على تفويض انتخابي ساحق من أجل العودة إلى الرئاسة لفترة ثالثة لم يكن يستمع إليهم وعوضاً عن ذلك زاد من القمع.

وعليه عندما قام بوتين بغزو شبه جزيرة القرم وضمها في العام الماضي كان للمنشقين في العلن أو بالسر خياران، وهما إما الخروج (عن طريق الهجرة أو الانسحاب إلى الحياة الخاصة) أو التعبير عن الولاء (من خلال التعبير النشط أو السلبي عن الإذعان)، ومع تجاوز نسبة تأييد بوتين بشكل مستمر 80 في المئة، يبدو أن معظم الروس قد اختاروا الخيار الأخير.

لكن مثل الاتحاد السوفياتي، فإن هذه الغالبية "الموالية" تضم عدداً ضخماً من الساخرين، ناهيك عن أناس يفضلون الانسحاب من الحياة المدنية، والذين يناقشون الأمور السياسية حول طاولة المطبخ أو في أندية النقاش، وفي الوقت نفسه هناك بعض الخبراء الاقتصاديين والسياسيين يخلقون مجتمعات غير رسمية من أجل تطوير خرائط طريق لإصلاحات محتملة في حالة انهيار النظام الحالي.

إن أوجه الشبه مع أيام الاتحاد السوفياتي قد بدأت تظهر، فلقد بدا بشكل متزايد أن الدعم السلبي لبوتين وسياساته لم يعد كافياً، فالنظام يطالب بالتعبير عن الدعم الصادر من القلب مع فرض أحكام تتعلق بالسلوك الذي توافق عليه الحكومة.

إن هذا يذكرنا بملاحظة خبير العلوم السياسيه الأميركي زبيجنيف بريجنسكي في الخمسينيات بأن الأنظمة الشمولية (على النقيض من الاستبدادية) تفرض المحظورات والواجبات على المواطنين. إن ايلنديا بروفر تيسلي توافق على هذا الرأي في مذكراتها الأفضل مبيعاً باللغة الروسية "برودسكي بيننا" والتي لاحظت فيها أن الأنظمة الشمولية لا تتطلب فقط الطاعة ولكن أيضاً المشاركة.

ماذا يعني هذا الواجب في روسيا المعاصرة؟ على سبيل المثال سيارتك المرسيدس – للميسورين نسبيا- يجب أن تحمل شريط القديس جورج، وهو شعار تم تحديثه لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية. وأي شخص ينتمي إلى العسكر أو الأجهزة الخاصة أو المسؤولين عن تطبيق القانون لا يستطيع أن يسافر خارج البلاد بينما ينبغي على الأساتذة من عدة جامعات حكومية أن يطلبوا الإذن من أجل حضور ندوات ومؤتمرات في خارج البلاد، كما يتوجب على المعلمين أن يضعوا شبه جزيرة القرم على خارطة روسيا، وموظفو الشركات التي تديرها الحكومة ملزمون بالمشاركة في المسيرات المؤيدة للحكومة.

إن رفض التقيد بتلك الطلبات يمكن أن تكون له عواقب وخيمة، وذلك كما كان الحال في الحقبة السوفياتية، وكما لاحظت بروفر فإن برودسكي حاول الثورة على ثقافة "نحن" معتقداً أن الشخص الذي لا يكون مستقلاً بفكره والشخص الذي يلتزم بالمجموعة هو جزء من التركيبة الشريرة للشمولية، علما بأن برودسكي قد تم نفيه من الاتحاد السوفياتي سنة 1972 ومن غير المرجح أن يكون بوتين أكثر تسامحاً.

عندما كنت، قبل خمسة عشر عاماً، كاتب عمود في صحيفة "ازفستيا" والتي كانت أشهر الصحف الروسية في ذلك الوقت، كتبت مقالاً أقارن فيه بين النظام السياسي والذي بدأ ينشأ تحت حكم بوتين ونظام موسوليني في إيطاليا. لم يتم نشر المقال، حيث إن مدير التحرير شعر أن اوجه الشبه التي استخلصتها كانت قاسية، وللأسف كانت توقعاتي في محلها، فبوتين قد بنى نسخة حديثة من الدولة الحكومية، حيث التزم بشكل كامل تقريباً بصيغة موسوليني وهي: "كل شيء هو ضمن الدولة ولا يوجد شيء خارجها، ولا يوجد شيء ضدها".

بالرغم من أن الدستور الروسي يزود النظام السياسي الروسي بجميع خصائص الديمقراطية فإن نظام بوتين يتلاعب بها ويشوهها، بحيث لا يمكن التعرف عليها تقريباً، وذلك من أجل تقوية قبضته على السلطة، وهو يستخدم وسائل الإعلام كأداة للدعاية، مما دفع بما تبقى من المؤسسات الإعلامية المستقلة لتصبح على حافة الانقراض، إن نظام بوتين يتحكم في معظم منظمات المجتمع المدني بينما يتهم تلك المنظمات التي لا يتحكم بها بأنها "عميلة للأجانب".

ربما الأكثر وضوحاً هو أن الدولة الروسية تحت حكم بوتين تجبر المواطنين على التعبئة السياسية عن طريق تفسير عدم المشاركة على أنه مقاومة للنظام، وفي هذا السياق فإن خيار "الخروج" عند هيرشمان – على الأقل على شكل "هجرة داخلية"- قد لا يكون متوفراً بسهولة، كما يبدو، علماً أنه سوف يكون من السهل تفسير مثل تلك الخطوة على أنها مقاومة.

يتمتع المواطنون الروس في واقع الأمر بحرية مغادرة البلاد، مما يعني أن بوتين لم يبنِ دولة شمولية تماماً، على الأقل ليس بعد- ولكن لا يمكن إنكار طموحات النظام فربما النهج الحالي للنظام يمكن وصفه بأنه "شمولية هجينة".

لقد ذكرت المنظرة السياسية حنا إريندت أنه تحت ظل الأنظمة الشمولية فإن الدولة هي القوة الوحيدة التي تشكل حالة المجتمع، وربما لم يصل بوتين إلى ذلك بعد، ولكنه بلا شك يسير في ذلك الاتجاه، والتاريخ يعطينا سبباً جيداً لنشعر بالقلق من بلد يكون فيه الولاء هو الخيار الوحيد.

* أندريه كوليسنكوف هو أستاذ مشارك ورئيس برنامج السياسة الداخلية والمعاهد السياسية الروسية في مركز كارنغي موسكو.

 «بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top