فترات الرواج الصغرى لماذا تؤدي إلى الكبرى؟

نشر في 30-06-2015
آخر تحديث 30-06-2015 | 00:01
قنوات الائتمان المسدودة يمكن أن تؤدي إلى انكماش اقتصادي، حيث يكون في العادة هناك ثلاث استجابات مقترحة، الأولى عبر سياسات مالية توسعية، بتولي الحكومة تعويض القصور في مواجهة ضعف الاستثمار الخاص، والثانية رفع هدف التضخم، ومنح البنوك المركزية حرية أكبر في الاستجابة للصدمات، أما الثالثة ففرض قيود مُحكَمة على الاستدانة واستخدام الروافع المالية.
 بروجيكت سنديكيت قياساً على فقاعات أخرى، فإن هذه الفقاعة لم تكن كبيرة جدا، ففي الفترة من 2002 إلى 2006 سجلت الحصة من الاقتصاد الأميركي المخصصة لبناء المساكن ارتفاعاً بلغ 2.1 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي عن الاتجاه السابق، قبل أن تسجل هبوطاً حاداً مع دخول الولايات المتحدة الأزمة الاقتصادية الكبرى التي توجهها منذ ما يقرب من قرن من الزمان.

ووفقاً لحساباتي التقريبية فإن الاستثمار الزائد في قطاع الإسكان خلال هذه الفترة بلغ في مجموعه نحو 500 مليار دولار، وهذه بكل المقاييس نسبة ضئيلة من الاقتصاد العالمي في وقت الانهيار.

بيد أن الأضرار الناتجة عن ذلك كانت هائلة، فاقتصادات أوروبا وأميركا الشمالية أصغر الآن بنسبة 6 في المئة تقريباً عن المستوى الذي كنا لنتوقعه منها لو لم تندلع الأزمة، وبعبارة أخرى، كان قدر ضئيل نسبياً من الاستثمار المفرط مسؤولاً عن خسائر إنتاجية تبلغ نحو 1.8 تريليون دولار كل عام. ولأن هذه الفجوة لا تُظهِر أي بادرة تدل على اتجاهها إلى الانغلاق، ومع وضع معدلات النمو المتوقعة والعائدات على الأسهم في الحسبان، فإن تقديراتي تشير إلى أن الخسارة الإجمالية في الإنتاج قد تبلغ في نهاية المطاف ما يقرب من 3 كوادرليون دولار (الكوادرليون يساوي مليون مليار أو الرقم واحد عن يمينه خمسة عشر صفرا). ففي مقابل كل دولار من الاستثمار المفرط في سوق الإسكان، سوف يتكبد الاقتصاد العالمي خسائر تبلغ ستة آلاف دولار. ولكن كيف قد يتسنى ذلك؟

من الأهمية بمكان أن نلاحظ أنه ليس كل حالات الركود تتسبب في قدر كبير من الآلام، فكانت الضربات المالية في أعوام 1987، و1991، و1997، و1998، و2001 (عندما بلغت الخسائر 4 تريليونات دولار من الاستثمار الزائد نتيجة لانفجار فقاعة الدوت كوم) ضئيلة التأثير على الاقتصاد الحقيقي الأوسع، وبوسعنا أن نجد السبب وراء اختلاف الأمور هذه المرة في بحث نشره مؤخراً أوسكار جودرا، وموريتس شولاريك، وألان تايلور؛ فقد أظهر القائمون على البحث أن طفرات الائتمان الكبرى من الممكن أن تؤدي إلى تفاقم الضرر الناجم عن انهيار فقاعة الأصول بشكل كبير.

تاريخياً، عندما يحدث الركود نتيجة لانهيار فقاعة أصول لم تكن تتغذى على طفرة ائتمان، فإن الاقتصاد ينكمش عادة بنحو 1 في المئة إلى 1.5 في المئة دون المستوى الذي كان ليصبح متوقعاً لولا ذلك بعد خمس سنوات من بداية الانحدار، ولكن عندما يتضمن الأمر طفرة ائتمانية، تصبح الأضرار أعظم كثيراً، فعندما تكون الفقاعة في أسعار الأسهم، يكون أداء الاقتصاد دون المستوى المعتاد بنسبة 4 في المئة في المتوسط بعد خمس سنوات، وقد يصل الانخفاض إلى 9 في المئة دون المستوى المعتاد عندما تكون الفقاعة في سوق الإسكان، ومن الواضح على ضوء هذه النتائج أن المحنة منذ بداية الأزمة الاقتصادية لم تكن متناقضة مع الخبرة التاريخية.

يرى كثيرون من أهل الاقتصاد أن فترات الركود تشكل جزءاً حتمياً من دورة الأعمال، فالركود الذي يأتي بالضرورة، مثل آثار الخمر، بعد أي فترة رواج. غير أن جون ماينارد كينز لم يلتفت كثيراً إلى وجه النظر هذه؛ ففي عام 1931، وبعد أن ولّت سنوات الرواج في العشرينيات لكي تأتي من بعدها أزمة الكساد الأعظم، كتب كينز: "يبدو من البلاهة غير العادية أن تكون هذه الطفرات الرائعة من الطاقة الإنتاجية مقدمة للإفقار والكساد. والواقع أنني لا أجد تفسير الخسائر التجارية الحالية، وانخفاض الناتج، وارتفاع معدلات البطالة التي تترتب على هذا بالضرورة، في المستوى المرتفع من الاستثمار الذي سبق ربيع عام 1929، بل في وقف هذه الاستثمارات لاحقا".

بعد بضع سنوات، اقترح كينز علاجاً لهذه المشكلة. ففي كتاب النظرية العامة في تشغيل العمالة، والفائدة، والمال، شرح كينز كيف تنشأ الطفرات "عندما يتم تنفيذ استثمارات يبلغ عائدها 2 في المئة على سبيل المثال، في ظل ظروف التشغيل الكامل للعمالة، مع توقع عائد يبلغ 6 في المئة على سبيل المثال، ويجري تقييم هذه الاستثمارات وفقاً لذلك". وفي حالة الركود، تنقلب المشكلة، فالاستثمارات التي كانت لتدر عائداً بنسبة 2 في المئة "يُتَوقَّع منها أن تدر عائداً أقل من لا شيء".

والنتيجة هي نبوءة ذاتية التحقق، حيث تتسبب البطالة المتفشية حقاً في دفع العائدات على هذه الاستثمارات إلى الانخفاض إلى ما دون الصِفر، وقد كتب كينز: "نحن نصل إلى حالة حيث يوجد نقص واضح في عدد المساكن المطلوبة، ولكن حيث لا أحد يستطيع رغم هذا أن يتحمل تكاليف اقتناء أي من المساكن المطروحة".

وكان الحل الذي اقترحه كينز بسيطا: "لن نجد العلاج الصحيح لدورة التجارة في إبطال أو منع الطفرات، وبالتالي الإبقاء علينا في حالة دائمة من شبه الركود؛ بل بوسعنا أن نجده في إبطال أو منع فترات الركود، وبالتالي الإبقاء علينا في حالة دائمة من شبه الرواج". ويرى كينز أن المشكلة الأساسية تتلخص في فشل قنوات الائتمان في الاقتصاد. ذلك أن ردة الفعل المالية إزاء انهيار أي فقاعة وما يترتب على ذلك من موجة من عمليات الإفلاس تدفع سعر الفائدة الطبيعي إلى الانخفاض إلى ما دون الصِفر، حتى برغم وجود سبل عديدة لتشغيل الناس في مشاريع منتجة.

اليوم، بتنا ندرك أن قنوات الائتمان المسدودة من الممكن أن تؤدي إلى إحداث الانكماش الاقتصادي. وهناك ثلاث استجابات مقترحة عادة، الأولى تتلخص في السياسات المالية التوسعية، حيث تتولى الحكومة التعويض عن القصور في مواجهة ضعف الاستثمار الخاص، وتتمثل الاستجابة الثانية في رفع هدف التضخم، ومنح البنوك المركزية مساحة أكبر من حرية الاستجابة للصدمات المالية، أما الثالثة فهي فرض قيود مُحكَمة على الاستدانة واستخدام الروافع المالية، وخاصة في سوق الإسكان، من أجل منع تشكل فقاعة أسعار تتغذى على الائتمان.

وكان كينز ليضيف إلى هذه الحلول استجابة رابعة، والتي نعرفها اليوم باسم "فرضية غرينسبان"، استخدام السياسة النقدية لإضفاء المصداقية على الأسعار التي تصل إليها الأصول في أوج الفقاعة.

ولكن من المؤسف أن الخيارات المتاحة لنا من السياسات محدودة في عالم حيث يفرض التقشف المالي قيوداً مُكَبِّلة للساسة، وحيث يبدو الأمر وكأن استهداف التضخم بنسبة 2 في المئة قدر لا فكاك منه، وهذه هي الكيفية التي قد تؤدي بها طفرات الرواج الصغيرة نسبياً إلى ركود عظيم.

* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top