كامل الشناوي ... شاعر الليل (13): الحرب على فريد الأطرش

نشر في 30-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 30-06-2015 | 00:02
قليلون يجمعون بين طزاجة اللحظة وعتق الماضي، يحضرون في الأذهان كشخصيات أسطورية تأتي من أزمان ذهبية وتتدفق حكاياتهم كأنهم غابوا أمس.
كامل الشناوي واحد من هؤلاء صنع مجده الخاص في بلاط صاحبة الجلالة وفي عالم الشعر ودنيا الجمال والحب فكان الشاعر في ديوان الصحافة والصحافي وسط إلهام الآداب والفنون والثقافة والعاشق المتيم بالجمال والراهب الناسك في محراب الحب.
ترك الشناوي، الذي سماه والده مصطفى كامل لأنه وُلد في أعقاب رحيل الزعيم الوطني مصطفى كامل، آثاراً إبداعية وثقافية وصحافية ومعارك ثقافية وفنية وسياسية كان طرفا أصيلا فيها، وحكايات لاتزال تتردد حتى الآن، طازجة كالحب المتجدد، نستعيدها هنا مع سيرته ومسيرته التي تعيدنا إلى زمن جميل مضى نحاول الإمساك به.
غنى كبار مطربي ذلك العصر أشعار كامل الشناوي، لكنه لم يكتب أبداً أي أغنية خصيصاً من أجل مطرب بعينه، أو من أجل لحن سابق التجهيز، كان يكتب القصيدة التي ينفعل بها وكان يقول إنه شاعر وليس {ترزياً} عليه أن يفصل الشعر على مقاسات المطربين والملحنين، كما يُفصل {الترزي} الأقمشة على أجساد زبائنه. 

وكان يهدي قصائده لمن يجد من أصدقائه حماسة لغنائها وتلحينها، أما عندما يكون في حاجة إلى المال، فيطلب أغلى الأسعار التي من الممكن أن يطلبها شاعر في قصيدة. 

 

خلاف مع أم كلثوم

 

غنى له المشاهير: محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وغيرهم. أما فريد الأطرش، فأشهر ما غنى له قصيدتي «الربيع» و{عدت يا يوم مولدي». الأولى أعجبت أم كلثوم ورغبت في أن تغنيها في احتفالات عيد الربيع التي كان المطربون يتبارون فيها على تقديم أغانٍ جديدة، لكن أم كلثوم طلبت تغيير بعض الجمل والألفاظ في القصيدة، فشعر كامل أنها تعتدي على مؤلفه وتفرغه من مضمونه، فرفض وخرج غاضباً. وكان أي شاعر وقتها يتمنى أن تغني شعره أم كلثوم، وأقسم أن يمنح القصيدة لأول مطرب يقابله، وكان ذلك هو فريد الأطرش الذي كان يعرفه دون صداقة، التقاه في إحدى المقاهي، مع صديق مشترك، وبمجرد أن سمع القصيدة، حتى قبل أن يغنيها وبشروط كامل من دون أن يضيف إليها أو يحذف منها، وصارت إحدى أهم ما غنى فريد الأطرش، وإحدى أيقونات أعياد الربيع، فلا يأتي عيده، إلا وتسمع فريد يغني: 

 

أدي الربيع عاد من تاني

.. والبدر هلت أنواره

وفين حبيبي اللي رماني 

.. من جنة الحب لناره

أيام رضاه يا زماني 

.. هاتها وخد عمري

اللي رعيته رماني 

.. وفاتني وشغل فكري

كان النسيم غنوه 

.. والنيل يغنيها

وميته الحلوة 

.. تفضل تعيد فيها

وموجه الهادي كان عوده

.. ولون البدر أوتاره

يناغي الورد وخدوده 

.. يناجي الليل وأسراره

وأنغامه بتسكرنا أنا وهو

.. أنا وهو مافيش غيرنا. 

 

لكن العلاقة مع فريد الأطرش مرت بمنعطفات عدة، وتخللتها مواجهة ليست مسلحة، حاول فيها كل طرف أن ينال من اعتبار الطرف الثاني بسبب سوء تفاهم بسيط، وأطلق كامل خلال هذه الحرب كل أسلحته الفتاكة في السخرية والمقالب الساخنة جداً.

 

عدت يا يوم مولدي

 

وتعود القصة إلى حيث تلقى صدمته الكبرى في حبيبته المطربة الشهيرة الرقيقة حانية الصوت، بطلة قصيدة «لا تكذبي»، ففي تلك الأثناء التي كان يكابد فيها الألم، اقترب عيد ميلاده، وكان أصدقاؤه يحتفلون به كل عام احتفالاً صاخباً فينهلون من كرم كامل ومن ظرفه وتألقه الساخر، فتكون ليلة من الضحك المجلجل، والسعادة الغامرة، لكن هذه المرة يأتي يوم ميلاده، الذي بدأ يتوجس من مجيئه كلما تقدم في العمر، واقترب من الأجل، في ظروف حزينة، تبدو الأكثر حزناً في حياته، فاختفى يوم عيد ميلاده، بحث عنه الأصدقاء للاحتفال كالعادة من دون جدوى، فأين اختفى؟ 

لم يتوقع أحد من أصدقائه الذين مسحوا مقاهي القاهرة وحاناتها، واتصلوا بالأماكن التي من المحتمل أن يكون سافر إليها على شاطئ الإسكندرية، أو «رأس البر»، أنه بالفعل خرج من القاهرة. لكنه وجد ملاذه وهدوء نفسه وعزائها فقط في «نوسا البحر» مسقط رأسه، وقريته العزيزة التي شهدت راحة بال الصبا والطفولة، حين كان أقسى ما يعكر صفوه بدانته التي تمنع من اللعب مع الصغار، وسخرية هؤلاء الصغار منه ومن جسده الضخم. 

هناك وقف أمام المرآة ليُفاجأ بكهولته تتقدم على ملامحه، وكأنه يرى نفسه لأول مرة، رغم أن شعره حافظ على سواده حتى آخر لحظة في العمر ولم تغزوه إلا بضع شعيرات بيض قليلات، وكانت تلك من هدايا الزمن له كما كان يقول ويعتقد. 

لكن ذا المشهد، وسط حالة الحزن النابعة من خيانة هي الأقسى في عمره، لمن أحبها بجنون، ووصفها بقوله إن: 

- «شلال الكرز ينهمر من شفتيها، وعبير العنبر وكل المتبّلات الحارّة في الشرق تشرق من جبينها، وسحر الليل في عينيها، والدلال في شعرها المتهدّل على كتفيها».

لكن حالة الخيبة المكتملة لذلك الرجل السائر في طريق الكهولة وقد تجاوز الخمسين فيما لا يزال يتألم من وجع الخيانة وألم الفراق، انتهت أن كتب قصيدته الرائعة «عدت يا يوم مولدي»، وكأنه لاذ أخيراً بقلمه ليخفف عنه وطأة الألم النفسي، كما تخفف بـ{لا تكذبي»، و{لست وحدك حبيبها» من آلام الخيانة، فكتب يقول: 

 

عدت يا يوم مولدي

.. عدت يا أيها الشقي

الصبا ضاع من يدي

.. وغزا الشيب مفرقي

ليت يا يوم مولدي

.. كنت يوما بلا غد

ليت أنّي من الأزل 

.. كنت «روحاً» ولم أزل..

ليت أني من الأزل

.. لم أعش هذه الحياة

عشت فيها ولم أزل

.. جاهلاً أنها حياة

أنا عمر بلا شباب

.. وحياة بلا ربيع

أشتري الحب بالعذاب

.. أشتري فمن يبيع؟

 

لكن القصيدة التي غناها فريد الأطرش لم تصل إليه هكذا بسهولة، فقد بدأ الأمر من عند محمد عبدالوهاب الذي كان قد أخذ «لا تكذبي» لتلحينها لمصلحة عبد الحليم حافظ، حيث التقى عبد الوهاب بـكامل الذي قرأ عليه قصيدته الأخيرة، فأعجب بها جداً وقرر أن يضع لها لحناً، وهو يعدد ما فيها من إبداع وإحساس وألم وفلسفة وتحفيز على التفكير.  

 

من عبد الوهاب إلى الأطرش

 

تعلق كامل الشناوي بقصيدته الأخير تعلقاً كبيراً، وأراد أن يسمعها ويطمئن أنها صارت أغنية ووجدت طريقها إلى الأسماع، ربما إحساسه بالتقدم في العمر، وتعرضه لأول وعكة صحية كبرى، جعلته يعيد التفكير في إقباله على الحياة، ويركز على ما سيتركه فيها، بعد أن يغادرها. ويروي الشيخ سيد مكاوي، الموسيقار والملحن الشهير، أنه كان حاضراً في هذه الجلسة وشهد الاتفاق، وكان الشناوي مسروراً وكأنه كتب قصيدة لأول مرة، ولأول مرة يجد من يقوم على تلحينها وغنائها. حتى إنه قال 

لعبد الوهاب:

- «ستكون أجمل لحظة في عمري حين أسمعها ملحّنة على يديك».

لكن مرت بضعة أشهر ولم يظهر لحن عبد الوهاب. كان الموسيقار الكبير قد فرغ تماماً من لحن «لا تكذبي»، وبدأ عبد الحليم في تسجيله تمهيداً لطرحه واستخدامه في الحفلات والإذاعة، لكنه تأخر كثيراً في تحقيق أمنية الشناوي بسماع لحن «عدت يا يوم مولدي»، فبدأ ينزعج لكنه لم يحاول الاتصال بـعبد الوهاب. ربما كبرياء منه، أو خوفه من أن يكون الموسيقار الكبير قد تراجع وخفت حماسته، أو بات مقتنعاً بعدم صلاحية القصيدة للغناء، خصوصاً أنه لم يفاتحه في أجرها ولو من باب «عزومة المراكبية»، وهو التعبير الذي يقصده المصريون في وصف من يدعي الكرم وهو في نفسه لا يرغب في أن يغرم مليماً. 

لكن كامل نشرها في الصحيفة فقرأها فريد الأطرش وأعجب بها جداً، وسارع بالاتصال به يستأذنه بتلحينها وغنائها، فوافق كامل رغم أن علاقته بـعبد الوهاب كانت أقوى، ولم تكن صداقته بـفريد قد توطدت. لم يعرف فريد أن القصيدة كانت لدى عبد الوهاب، ولم تمض أيام محدودة حتى جمع لقاء في مناسبة اجتماعية الجميع: كامل الشناوي، محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، سيد مكاوي... وكعادة الفنانين يُسألون دائماً عن جديدهم. فلما قيل لـفريد: {هل من لحن جديد؟»، أمسك العود وبدأ العزف والاسترسال، وغنى مطلع القصيدة البديعة.

بقدر فرحة كامل باللحن الذي أنجزه فريد في أقل من عشرين يوماً، واستمتاع الحاضرين، بقدر دهشة عبدالوهاب، الذي سمع القصيدة التي من المفترض أنها في حوزته. لكن ربما لأنه لم يتعاقد عليها، مرر الأمر ببساطة، خصوصاً أنه كموسيقي لديه ولاء للموسيقى. أعجبه اللحن جداً وأثنى عليه بكلمات احتفائية.    

لكن رغم ذلك قيل إن عبد الوهاب طرح «لا تكذبي» في وقت متزامن مع «عدت يا يوم مولدي»، ونجح في التغطية عليها، وكانت الإذاعة التي يملك فيها نفوذاً واسعاً تُذيع «يوم مولدي» بصوت «فريد الأطرش» مرة، وتذيع «لا تكذبي» بصوت عبد الحليم عشر مرات. 

 

حرب التشنيعات الساخرة

 

لكن على أي حال فقد نجحت القصيدتان نجاحاً كبيراً. صحيح أن نجاح «لا تكذبي» كان أكبر، لكن ذلك بفعل انتشارها كقصيدة، وشيوع القصة من ورائها التي قرأها الناس في الصحف، وكتب عنها كامل نفسه، كما ضمنها إحسان عبد القدوس إحدى روائع قصصه. 

لكن قصيدة «عدت يا يوم مولدي»، كانت بداية حرب باردة بين كامل الشناوي وفريد الأطرش، قبل أن تتوطد الصداقة بينهما، وذلك بسبب أن فريد لحن القصيدة وغناها من دون أن يعرض أجرها عليه، أو يفاتحه في أمر الأجر. وكان فريد يظن أن كامل أهداه القصيدة، كما كان يفعل كثيراً مع أصدقائه، وحاول أن يُفهم الموسيقار الكبير أنه لا بد من أن يدفع ثمن القصيدة من دون جدوى، فأرسل إليه جليل البنداري وكان صديقاً مشتركاً ليطلب من الأطرش ثمن القصيدة، وعاد بشيك بمبلغ مئتي جنيه. لكن كامل رفض قبول الشيك، واعتبر المبلغ أقل من قيمته كشاعر ومن قيمة ونجاح قصيدته، واعتبر تصرف فريد ينم عن سوء تقدير لفنه، وطلب ألف جنيه ثمناً للقصيدة، وتحفظ فريد عن الرقم واعتبره مغالياً فيه، فصمت كامل عن المطالبة بشيء حتى ظن فريد أنه خضع.

 لكن كامل كان قد أعلن حرب السخرية على الأطرش، وبدأ يطارده بالنكات والإشاعات وتأليف المواقف الساخرة التي تدفع إلى التقليل من اعتباره. 

من ضمن ذلك أن كامل لم يترك أحداً لم يحك له بأسلوبه الإقناعي الفريد، أنه كان يجلس مع أستاذ الجيل المفكر الكبير أحمد لطفي السيد، في بهو فندق «سيسيل» بالإسكندرية، حين أقبل عليهما فريد الأطرش، وأراد كامل أن يجري تعارفاً بينهما، فقال لفريد: 

 

- «أقدم لك لطفي السيد أستاذ الجيل».

فبدت على «فريد الأطرش» علامات الدهشة والتعجب وقال لـكامل: 

- « ياه.. الراجل العجوز ده، هو اللي جابوه بدل أنيس منصور في مجلة الجيل الجديد».

بالقطع القصة كلها من تأليف كامل، ولم تحدث مطلقاً، والهدف منها كان إظهار فريد الأطرش في أوساط المثقفين وكأنه «جاهل» لا يعرف الفارق بين مفكر كبير يحمل لقب أستاذ الجيل، وبين صحافي شاب وقتها، أنيس منصور، يرأس تحرير مجلة اسمها «الجيل الجديد». لكن القصة سرت بفعل نفوذ كامل وتأثيره وكأنها حقيقة، ما جعل أصدقاء فريد الأطرش ينصحونه بضرورة مصالحة كامل للنجاة من تشنيعاته الساخرة عنه، وبالفعل خضع فريد الأطرش ودفع لكامل ألف جنيه ثمناً لقصيدته «عدت يا يوم مولدي». 

لكن بقيت مرارة في حلق فريد الأطرش، الذي حاول الانتقام من كامل، واستغل فيلم «رسالة من امرأة مجهولة» الذي كان يقوم ببطولته، ليقدم من خلاله صورة مشوهة للصحافيين، ملمحاً إلى أنه استقى هذه الصورة من حياة كامل الشناوي. وأغضب الفيلم الصحافيين، واعتبره كامل إهانة للصحافة والصحافي، ومضى يرد لفريد الصاع صاعين، فقال في ندوة عامة إن أحداً من كبار القوم الثقات في لبنان قال له إن فريد الأطرش لا ينتمي من قريب أو بعيد إلى عائلة الأطرش الشهيرة، ولا إلى سلطان جبل الدروز في لبنان، وليس أحد أمراء الدروز كما كان معروفاً، بل ينتمي إلى أسرة متواضعة تدعى «كوسة»، حتى صدقه ناقد معروف وضمَّن هذه المعلومات في سياق مقال كتبه عن الفيلم، ما أغضب فريد جداً، وحين علم أن كامل وراء ذلك، اعتبر أن استمرار الحرب بينهما ليس له داع، فلن يستطيع الصد أمامه ومن الأفضل الاستسلام والتصالح، خصوصاً أن الخلاف على أجر الأغنية لم يكن بسبب مغالاة كامل في الأجر فقد كان ذلك هو الأجر المعتاد الذي يحصل عليه كامل في قصائده، ولم يكن يقبل المساومة في ذلك أبداً. 

لكن الحرب بينهما تحولت إلى صداقة كبرى، وغنى فريد الأطرش من أشعار كامل قصيدة الربيع، كما غنى أيضاً قصيدة «لا وعينيك» التي يقول فيها: 

 

 لا وعينيك يا حبيبة روحي 

.. لم أعد فيك هائماً فاستريحي

سكنت ثورتي فصار سواء 

.. أن تليني أو تجنحي للجموح

واهتدت حيرتي فسيان عندي 

.. أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي

وخيالي الذي سما بك يوماً 

.. يا له اليوم من خيال كسيح

والفؤاد الذي سكنت الحنايا منه 

.. أودعته مهب الريح

لا وعينيك ما سلوتك عمري  

.. فاستريحي وحاذري أن تريحي.

 

وتوطدت الصداقة القصيرة بينهما والتي انتهت برحيل كامل الشناوي وقال عنه فريد الأطرش بعد رحيله: 

- «من سوء حظي أنني لم أعرف كامل الشناوي عن قرب إلا منذ ثلاث سنوات سبقت وفاته. إنني نادم على ما فات قبل ذلك، وخلال هذه الفترة القصيرة التي عرفته فيها، كانت معرفة الأخوة والصداقة، لقد أحببت كامل وأصبح قطعة مني، كان صديقاً وأخاً للجميع، أحب الفن لأنه فنان، وأعطى الفنانين والأدباء من روحه وقلبه الكثير، لقد فقدنا بموت كامل الشناوي الأخ الوفي... والفنان الحساس».  

فريد الأطرش 

في جبل الدروز في بلدة القريا ولد فريد الأطرش عام 1917، وقد عانى حرمان رؤية والده ومن اضطراره إلى التنقل والسفر منذ طفولته، من سورية إلى القاهرة مع والدته هرباً من الفرنسيين المعتزمين اعتقاله وعائلته انتقاماً لوطنية والدهم فهد الأطرش وعائلة الأطرش في الجبل الذي قاتل ضد الفرنسيين، عاش فريد في القاهرة في حجرتين صغيرتين مع والدته عالية بنت المنذر وشقيقه فؤاد وأسمهان. التحق فريد بإحدى المدارس الفرنسية «الخرنفش» وكانت والدته تعمل في الأديرة، وهذا ما دفعها إلى الغناء في روض الفرج لأن العمل في الأديرة لم يعد يكفي، وافق فريد وفؤاد بشرط مرافقتها حيثما تذهب.

حرصت والدته على بقاء فريد في المدرسة ثم ألحقته بمعهد الموسيقى  عزف فريد في المعهد وتم قبوله فأحس وكأنه ولد في تلك اللحظة، إلى جانب المعهد بدأ ببيع القماش وتوزيع الإعلانات من أجل إعالة الأسرة، وبعد عام بدأ بالتفتيش عن نوافذ فنية ينطلق منها حتى التقى بفريد غصن والمطرب إبراهيم حمودة الذي طلب منه الانضمام إلى فرقته للعزف على العود، وتم تنظيم حفلة يعود ريعها إلى الثوار. أطل فريد تلك الليلة على المسرح وغنى أغنية وطنية ونجح في إطلالته الأولى، بعد جملة من النصائح اهتدى إلى بديعة مصابني التي ألحقته مع مجموعة المغنين ونجح أخيراً في إقناعها بأن يغني بمفرده، وبدأ بتسجيل أغانيه المستقلة. سجَّل أغنيته الأولى {يا ريتني طير لأطير حواليك}، كلمات وألحان يحيى اللبابيدي، فأصبح يغني في الإذاعة مرتين في الأسبوع، لكن ما كان يقبضه كان زهيداً جداً.

استعان بفرقة موسيقية وبأشهر العازفين كأحمد الحفناوي ويعقوب طاطيوس وغيرهم وزود الفرقة بآلات غربية، إضافة إلى الآلات الشرقية وسجل الأغنية الأولى وألحقها بثانية {بحب من غير أمل}، وبعد التسجيل خرج خاسراً. لكن تشجيع الجمهور عوض خسارته وعلم أن الميكروفون هو الرابط الوحيد بينه وبين الجمهور، فوطد علاقته بكبار المؤلفين والملحنين منهم كامل الشناوي، وعرف عنه أيضاً حبه للخيل. ذات يوم، وفيما كان في ميدان السباق راهن على حصان وكسب الجائزة وعلم في الوقت عينه بوفاة أخته أسمهان في حادث سيارة فترك موت أخته أثراً عميقاً في قلبه تعرض إلى ذبحة صدرية وبقي سجين غرفته، تسليته الوحيدة كانت التحدث مع الأصدقاء وقراءة المجلات. تُوفي في مستشفى الحايك في بيروت إثر أزمة قلبية، وذلك عام 1974 عن عمر 64 سنة. 

 

back to top