أحمد العدواني و{مدينة الأموات}: حلم الوصول إلى {منازل الغد}

نشر في 17-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 17-06-2015 | 00:02
«آمل أن أموت والمصباح في يدي
يضيء آفاق الغد
أموت كي يشبّ النار
في ضمير أمّة
وسدت مخدة الدجى
وأغمضت أعينها
عن كل نجمة
تلمع فوق القمة (صور وسوانح، 51)
هذه هي الوصية التي تركها أحمد العدواني (1923-1990) والذي تمر ذكرى وفاته الخامسة والعشرون بعد حياة حافلة بالإنجازات العظيمة لوطنه، لا سيما في ما يخص الجانب الثقافي والتربوي. فالمؤسسات الثقافية التي أسسها، والمجلات الفكرية التي أشرف عليها، جعلت من الكويت اسما ثقافياً رصيناً بين جمهور التلقي العربي، فكانت «عالم الفكر» و{سلسلة من المسرح العالمي» إبان نهوضه بأعباء وكالة الشؤون الفنية بوزارة الإعلام، وعندما أصبح أول أمين عام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1973 توالت الإصدارات العلمية الثقافية المتنوعة، فنجد الكتاب الشهري «عالم المعرفة»، و{الثقافة العالمية» وسلسلة كتاب «التراث العربي». وعند قراءتنا عناوين المجلات التي أسسها أو أشرف عليها نلحظ أن العدواني رحمه الله كان يفكر بطريقة حرص فيها على الهوية الثقافية العربية، لكنه لم ينغلق على مرآة نفسه، بل وجد في مرايا الآخر وثقافاته أفقاً مهماً، وكانت الترجمة في مجلة «الثقافة العالمية» للفنون والعلوم كافة، و{عالم المعرفة» ذلك الكتاب الشهري الرصين والمتنوع، حيث جمع القلم الكويتي مع أخيه العربي مع ترجمة لأهم الكتب في كل العلوم.

وقفت على مشروع  أحمد العدواني الثقافي مجموعة من الرجال الأعلام الذين يمدونه بالمشورة مثل العلامة الدكتور أحمد أبو زيد رحمه الله، مستشار التحرير لمجلة عالم الفكر، والفيلسوف الدكتور فؤاد زكريا رحمه الله، مستشار التحرير لسلسلة عالم المعرفة. مثل هذه المشروعات الثقافية المتنوعة، يضاف إليها إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية، والمعهد العالي للموسيقى جعلت منه «رجل الصناعات المعرفية الثقيلة» بامتياز كما وصفه الدكتور خليفة الوقيان عند تأبينه، لأن الزاد المقدم في هذه المشاريع كان بالفعل زاداً مشاكساً محركاً للعقل، موجهاً لبوصلة العلم باتجاه المستقبل.

ويبقى مشروع أحمد العدواني الشعري العلامة المميزة في حياته وبعد رحيله؛ لأنها تكشف عن فكر الرجل ورؤيته للعالم المحيط به، والحلم الذي يصبو إليه والمؤرقات التي تحفزه إلى تحقيق تلك الأحلام.

صدرت للشاعر ثلاثة دواوين؛ الأول منها حمل عنواناً لافتاً «أجنحة العاصفة» صدر عام 1980. أما ديوانه «أوشال» عام 1996، وديوان «صور وسوانح» عام 2007، فقد صدرا بعد وفاته، وأشرف على نشرهما أستاذنا الدكتور خليفة الوقيان، والدكتور سالم عباس خداده.

ويقدم العدواني في دواوينه الثلاثة رؤيته عن الحياة وأفكاره عن الوجود، لأنه يرى أن المجد الحقيقي هو نضال مستمر، ولا يعي ذلك إلا «من وعى للجد فكراً»، لأن لديه همّا يحرث زرعه في الغابة العذراء:

«وصار لي في الغابة العذراء

مئذنة تكبر الحياة منها

وتعشق الصلاة في ظلالها السماء» (أوشال، 232).

 

لكن جاء من حوّل هذه الظلال الوارفة إلى «مدينة الأموات»، تلك المدينة التي يجعلها الشاعر موازياً رمزياً لواقعه، سواء كان هذا الواقع محلياً أو قومياً. وكلمات العدواني التي كتبها قبل نصف قرن (1964) عن تلك المدينة لا يزال واقعها على ما هو عليه:

«فلا تحس في ثراها حركة

هواؤها جمد

تغيرت هيئته

حتى يلائم البلد» (أجنحة العاصفة، 145).

 

هذه المدينة التي يصورها الشاعر رمزاً لكل ما هو ميت، لا شيء فيها سوى السكون والجمود، فكل ما فيها ينطق بهذا السكون الجامد بدءاً من الأحجار، ومروراً بالظلام، وانتهاء بالخطيئة التي تثمر عبادة الظلام في مدينة الموت، وتخنق أنشودة الطيور وابتسامة الأطفال للمدينة التي:

«تصلب كل فكرة

تمد نورها

إلى الحدائق الخضرة المطمورة»

 (صور وسوانح، 36)

 

وفي هذه المدينة نجد شخصية إبليس رمزاً موازياً لشخصية من يتاجر باسم الدين، ومن يفسد العقول ويخنقها متذرعاً بالإصلاح الأخلاقي، لكنه في حقيقة الأمر على علاقة وثيقة ما بين سكان القبور ومساكن القصور:

 

«تصور التوراة والانجيل والقرآن

حسب مراد الطبقات السائدة»

 (أجنحة العاصفة، 62).

وهم :

معشر ألّهوا الملوك وراحوا 

يتبارون في هوى السلطان

تركوا الله جانبا واستحلوا

لهواهم عبادة

الأوثان

 (صور وسوانح، 151)

 

لكن الأبالسة ليسوا هم النموذج الوحيد الذي يُبقي مدينة الأموات على حالها، فهناك «الجراد» و{المعزة العجفاء» و{البوم» و{الغربان»، وهي توريات لفئة التجار المستغلين التي تأخذ من خيرات الوطن و{تعبث في أشجارها» (صور وسوانح، 235)، والتي:

«ما شبعت يوما

ولن تشبع آخر الأيام

من موائد الطعام»

 (أجنحة العاصفة، 74).

وكما أن تجار الدين يجعلون من زيهم ومن الكلمة المخادعة وسيلة لسحر القلوب الضعيفة، فإن هذه الفئة تتخذ من المال بريقاً أصفر لاجتذاب النفوس الضعيفة، بالإضافة إلى الكلمة التي توظفها تحت قناع العمل الوطني، على نحو يحول الشعب في مدينة الأموات إلى ما يشبه قطيعاً يستغله تجار الدين ويخادعونه بتملق سذاجته، ويتخذ منه التاجر المستغل جسراً يعبر عليه بتملق أحلامه:

«يسك باسمك الدرهم والدينار

وتبلغ الأوطار

طوبى لهم .. طوبى لهم

أولئك الذي نبذوا ضلالهم

وخلعوا عليك يا قطيع

كل الصفات للإله والحياة والربيع»

 (أجنحة العاصفة، 126-127)

وثمة نموذج أخر مؤذ تزحز به «مدينة الأموات»، وهم المنافقون المرائون الذين يرفعون شعار «الحق ماقالت به الحكام»، ويقصد الشاعر بهذا النموذج طائفة المثقفين؛ أولئك الذين تصبح كلماتهم «بقايا أجرتها بضع دريهمات» (صور وسوانح، 163)، وهم بخيانتهم لأمانة الكلمة إنما يتحولون إلى أداة لمن بيده الأمر، والذين تتحوَّل ثقافتهم إلى تسويغ لمطامح سادتهم، وتزويق لما يريده من «يملك الدينار» من سلاطين «مدينة الأموات». ويسخر العدواني ممن يمثلون هذا النموذج، فيشبهم بدجاجة تبيض حسب الحاجة؛ إنها الدجاجة التي تعيش:

«في كنف السلاطين

خراجة ولاجة

في قن أصحاب الملايين

وبيضها يثمر حسب الحاجة

تلقط حب الذل والقهر بمسكنه

حتى ترى خلاصها إخلاصها

للذبح بالسكاكين»

 (أجنحة العاصفة، 46)

 

وتقودنا هذه النماذج الرمزية السابقة إلى الأراقم، تلك الثعابين الخبيثة المؤذية التي تتوارى في تجاويف القمام:

«تنفث السم ولكن

في قوارير البلاسم

فإذا نحن مطايا

لهواها ومطامع»

 (أوشال، 64)

 

هذه الأراقم تضلل أهل «مدينة الأموات» بالمظاهر في الوقت الذي تعمل فيه المجازر، هذه الأراقم نواجهها مختبئة تحت ستار «العسكر المنفوش»، أو «طي العمانم»، هي «سر الهزائم» التي تعشش في ضمير الأنظمة.

ويعرف العدواني أن سبيل الوصول إلى منازل  الغد ممكن؛ لأن الشعلة لما تزل مضيئة بنا «ونحن ها هنا، أنا وأنت نشعل المصباح» (صور وسوانح، 63)، وهذه الحرية لن تتأتى إذا انطوى الانسان على ذاته، يندب الحظ لعيشه في مثل هذه المدينة؛ إذ عليه أن يناضل من أجل الأغنية الجميلة التي تسهم في إحياء «مدينة الأموات»، ولا علاج إلا بالتمرد على مسبباتها، فالهروب خطيئة لا تغتفر، والانسحاب من المدينة يعني خيانة حلم الوصول الى «منازل الغد»، وهذا الحلم لن يتأتى الا بالبحث عن «عالم ما لوثته فكرة مأجورة» (صور وسوانح، 35)، وأن نعيد مشروع العدواني الثقافي كما أراد له أن يكون، مشروعاً تنويرياً يحتفي بالهوية العربية حتى تتسع لتكون مكوناً جوهرياً من مكونات العالم، ولتصبح الهوية الإنسانية هي المعْلم الكوني الذي نرتضيه لغدنا الأخضر:

«يا غدنا الأخضر

ما بيننا وبينك الصحراء

وأرضها خواء

ومعنا المحراث والمعول

وعندنا الجدول

ينبع من ضمائر الزراع

أحلى من الكوثر

يا غدنا الأخضر»

 (أجنحة العاصفة، 152- 153)

back to top