روحي موزعة بين الكتاب والسينما!

نشر في 17-06-2015
آخر تحديث 17-06-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي كون ضياء النهار للعمل والجد والتحصيل والعراك، فلقد اقترنت الحكاية، وعبر التاريخ البشري بالظلمة، وكأن الظلام ينثر شيئاً من روحه بين جنبات الحكاية، ليزيدها تشويقاً وسراً وإمتاعاً. الظلمة مخيفة لأنها تخفي ما ستطأ قدم الإنسان في خطوته التالية، وهي مخيفة لأنها تقود إلى المجهول، لكنها إلى جانب ذلك تلامس شيئاً خفياً من المتعة ينتشر في ثنايا روح الإنسان، فيجعله يمسك بيد الآخر فيتحد به.

نشأت بين جنبات أسرة صغيرة، وكان فيها حكاءان هما أبي وعمتي. ولكون أبي إمام مسجد ينحدر من عائلة تضرب جذورها في التعبد والعبادة والزهد، فإن حكاياته كانت سرداً لقصص القرآن وبركات الصالحين، بينما عمتي تلك المرأة الضريرة، التي التاع قلبها على فقد وحيدها في وصاله لحبيبته، بكت عليه حتى احتل العمى بصرها، وتلونت قصصها بالحب والوجع والدمع.

عشت في أحد أحياء الكويت القديمة "شرق"، حيث تصهر الشمسُ خيوط نيرانها لتنزل لاسعة للبشر والحجر. ولقد تضمخت طفولتي باللهو والسباحة في مياه البحر القريب، وصيد الطيور العابرة بين قبور مقبرة "هلال"، وأخيراً لعب كرة القدم.

مسّني سحر القراءة وأنا في الثالثة عشرة من عمري مع رواية "الأم" للروائي الروسي مكسيم غوركي، ترجمة سامي الدروبي، وكالمنوم قادتني المتعة الجديدة إلى دروبٍ لم أمشها من قبل، وأخذت بيد قلبي إلى منعطف حياتي الأجمل والأصعب والأكثر وحشةً ووجعاً.

لا يحفظ صندوق ذاكرتي صورة لأبي هو يقبّل أمي، ولا عرف بيتنا نغماً لموسيقى كلاسيكية عالمية، ولا لوحة زيتية تكحل عين الحائط الرمداء. لذا حين ولجت ساحة القراءة حملني بساطها العجيب إلى كل ما يدغدغ الروح. وغيرُ بعيدٍ عن ذلك التاريخ، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، تعلقت روحي بمتعة جديدة تمثلت في ظلمة قاعة السينما. وإذا كانت القراءة تتوكأ على مخيلة القارئ في استحضار المكان واللحظة والحدث، فإن السينما تأخذك بضجة أعراسها الدامية، لتضعك في قلب الحدث، فتغيب عن دنياك لتحضر دنياها، وهناك حيث تناوب الضياء والظلمة واللون والصوت تتفتح مسام الروح على كل الخوف والخزي والجمال والموت والعري والرغبات والمواجع.

بين جنبات سينما: الحمراء، والفردوس، والأندلس، وحولي الصيفي، تاهت روحي في أفلام عالمية وعربية ولاحقاً كويتية بفيلم "بس يا بحر"، داعبت مخيلتي وطبعتها بميسم لا يُمحى مع الزمن.

كنتُ حريصاً على تدوين عناوين الكتب التي أقرأ، وأسماء مؤلفيها، وكنت أحرص أكثر على حفظ أسماء أبطال السينما، رجالا ونساء، وأقف أمام أوراق لامعة وملونة، تائهاً في صور النساء الفاتنات ومحدقاً في تكشيرة رجال محظوظين لكونهم استطاعوا أن يصلوا إلى ما لا يمكنني الوصول إليه. وكنت أمرُّ مرور الكرام على أسماء أخرى ليس لها حظ الظهور على الشاشة، دون أن أدرك لحظتها أن أولئك هم جنود يحاربون باستبسال كي يأتي الفيلم كأجمل وأزهى ما يمكن، ودائماً يقود كتيبتهم مخرجٌ لا نعرف منه إلا اسمه.

الكتاب والسينما شكلا جزءاً خفياً نابضاً في روحي، وربما كان هو الجزء الأهم والأبقى. وجعلاني على ما أنا عليه الآن، ومؤكد أنه ما كان لأحد أن يسمع عن طالب الرفاعي الكاتب والإنسان لولا الحرف، ولولا الكتابة. وإذا كانت السينما تقدم اليوم لي متعة خالصة، معجونة بكل ترف الفن الساحر، فإن الكتابة صارت خلاصي في زمن عربي مؤلم لا يعلو فيه صوت أعلى من صوت العنف والتوحش والدم.

* * *

 

*قُدمت هذه الورقة/ الشهادة في مسامرات مهرجان وهران الدولي للسينما والرواية

   طالب الرفاعي

back to top