مسلمو بورما لا دولة لهم •أكثر الأقليات تعرضاً للاضطهاد

نشر في 13-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 13-06-2015 | 00:01
يظل نورالام مستيقظاً طوال ساعات ليلاً، حين يهب هواء عليل داخل كوخه، حاملاً معه رائحة البحر. ينظر إلى شقيقته الممدّدة قربه على البساط. ويرى أخاه عند قدميه وأمه، ويلاحظ أنهما نائمان. إن قرر الهرب نحو البحر، كما فعل سابقاً، واستسلم له متجهاً نحو ماليزيا، كما فعل سابقاً، فسيُضطر إلى تركهم وحدهم، هنا في مخيم اللاجئين هذا في غرب بورما.

لا شك في أنهم سيفتقدونه. ولكن ألا يؤمن هذا مساحة أكبر لأخويه داخل الكوخ؟ أولا يسمح لنورالام، وهو شاب صغير القد في الثالثة والعشرين من العمر منخفض الصوت ويرتدي قطعة قماش تصل إلى كاحليه ويلفها عند الخصر، بأن يصبح إنساناً حقيقياً، {إنساناً له عمل وحقوق}، وفق تعبيره؟

في بورما، يهرب آلاف من الأقلية الروهينغية المسلمة من اضطهاد البوذيين. وبعد أن يتعرضوا لاستغلال المهربين، ترفضهم دول ماليزيا، وإندونيسيا، وتايلند. التحقيق التالي من {شبيغل}.

بما أن نورالام ينتمي إلى الأقلية المسلمة الروهينغية، فلا تعتبره بورما مواطناً. وفي السنوات الأخيرة، بدأ البوذيون المتطرفون يؤلبون الناس ضد دينه. صحيح أنه ولد في بورما، إلا أن السلطات تعتبره {بنغالياً}.

ولكن ما يبقي رجلاً مثل نورالام في بلد يشعر فيه ألا دولة له ولا يمنحه حتى جواز سفر؟ بما أنه عاطل عن العمل، تراود هذه الفكرة غالباً نورالام في هذا المخيم.

خلال نزهاته، شاهد مراراً أولاداً عراة واقفين يلهون في مياه المجارير. فحتى هذه الفترة من السنة، هرب أكثر من 25 ألفاً من الروهينغيين بالقوارب عبر خليج البنغال. وقد تناقلت وسائل الإعلام حول العالم صور مغامرتهم اليائسة قبالة سواحل تايلند، ماليزيا، وإندونيسيا. يذكر نورالام: {أريد أن أكون واحداً منهم}.

ليلة الرابع عشر من أبريل، حين كان الجميع نياماً، وقف نولارام على بساطه. سار بهدوء نحو الباب وركض إلى الشاطئ. كان قد اتفق مع المهرب الذي كان ينتظره هناك. لكن هذا الشاب كان يجهل كل أمر عن المغامرة الخطرة الكامنة أمامه. فما كان يفكر إلا في رمي جنون بورما خلف ظهره.

منطقة محرّمة

كان نورالام وأشقاؤه الثلاثة وأمه يعيشون مند ثلاث سنوات في مخيم باودوبا، منشأة مخصصة للروهينغيين المطرودين من سيتوي، عاصمة ولاية راخين. تُعتبر هذه الولاية من الأفقر في البلد، فهي أرض محرّمة تضم نحو 3 ملايين نسمة، من بينهم ما يُقارب المليون من الأقلية الروهينغية. لكن نحو 140 ألفاً منهم مرغمون على العيش في قرى بؤس لا يُسمح لهم بمغادرتها.

عاد نورالام إلى المخيم منذ أسبوع تقريباً. بعدما أمضى أسابيع في البحر، أخفقت محاولته الهرب. في ذلك الصباح من شهر مايو، كان يجلس في كوخه المبني من الأخشاب. رغبت والدته في أن تقدم شيئاً لضيوفها، إلا أنها لا تملك ما تقدمه. يخبر نورالام: «نعيش في سجن هنا». يريد هذا الشاب أن يروي قصة حياته وسعيه للهرب.

بدأت قصته قبل ثلاث سنوات مع حدث قسم حياة الروهينغيين إلى ما قبله وما بعده. ففي مايو 2012، اتُّهمت مجموعة من المسلمين في راخين باغتصاب امرأة بوذية وقتلها. بعد ذلك، عمد البوذيون إلى حرق قرى مسلمة كردة فعل. نتيجة لذلك، مات المئات وهرب الآلاف. ومنذ ذلك الحين، يعيش كثيرون منهم في مخيمات.

في تلك الفترة، كان نورالام يعمل سائقاً لدراجة هوائية مزودة بمقاعد لنقل الركاب في مدينة سيتوي. لم يذهب هذا الشاب إلى المدرسة يوماً. وعندما عاد إلى المنزل في الثامن من يوليو 2012، عثر على جارته ممدة أمام المنزل ورأسها مقطوع ووضع قرب جسمها. كذلك شاهد البوذيين يجمعون الروهينغيين معاً. وفيما راحوا يشعلون المنازل، اختبأ نورالام في الأجمة. في تلك الليلة، هرب من المنطقة التي يعيش فيها في سيتوي. فأعطته الحكومة مكاناً ليعيش فيه في المخيم.

اضطرابات داخلية

تعكس راخين الاضطرابات الداخلية في بورما. فترى بلداً انفتح على العالم منذ تولي الرئيس ثين سين منصبه في مارس 2011، بعد نحو 50 سنة من الحكم العسكري المستبد. كذلك حظيت الرابطة القومية من أجل الديمقراطية التي ترأسها أونغ سان سو تشي باعتراف رسمي كحزب معارض. حُرر السجناء السياسيون ورفع الغرب معظم العقوبات عن البلد. فبدت بورما لفترة إحدى قصص التنمية المشجعة القليلة حول العالم. لكن الإصلاح سرعان ما تعطل، وبدأت موجة العنف ضد الأقلية الروهينغية.

خلال عملية الانتقال السياسية الهشة إلى الديمقراطية، أعادت الحكومة تأجيج هذا الصراع القديم. ترتكز هوية بورما، إلى حد كبير، على الدين. ويعتقد بوذيون كثر أن حكام الاستعمار البريطاني السابقين كانوا أول مَن أتى بالروهينغيين المسلمين إلى بورما. لذلك يشعرون أنهم يشكلون تهديداً.

لكن المجتمع المسلم في بورما يعود في الواقع إلى القرن السادس عشر. وخلال فترة الاستعمار البريطاني، استُقدم المسلمون كعمال. وعندما نالت بورما استقلالها عام 1948، كان المسلمون يشكلون الأكثرية في مناطق كثيرة من راخين. إلا أن البوذيين اتهموهم بأنهم ساعدوا البريطانيين. وفي عام 1982، حُرم الروهينغيون من الجنسية البورمية، وما زال التمييز المجحف بحقهم مستمراً حتى اليوم.

وصفت الأمم المتحدة الروهينغيين بالأقلية الأكثر تعرضاً للاضطهاد حول العالم. فحتى أونغ سان سو تشي، التي حازت جائزة نوبل للسلام وأبقاها الجيش في الإقامة الجبرية طوال سنوات، لم تدلِ بأي تصريح حول هذه الأقلية. فلا تريد، على ما يبدو، أن تخسر الأصوات في الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها في الخريف، كما لو أن مجرد ذكر اسم الروهينغيين يشكل كارثة. نتيجة لذلك، بدأت منظمات حقوق الإنسان، التي كانت تدعم سو تشي، بانتقادها بشدة. وعندما سئل عن الروهينغيين، أجاب متحدث باسم سو تشي: {هؤلاء مهاجرون بنغاليون}.

لا تُحتمل

لا ترى مظاهر كثيرة لعمل المنظمات الدولية في المخيم حيث يعيش نورالام اليوم مع عائلته. ففي 2014، اقتحم البوذيون في راخين المكاتب المحلية لأطباء بلا حدود، حطموا الأثاث، وطالبوا بحصولهم على النصف من كل المساعدات. نتيجة لذلك، صارت لجانهم تتولى إدارة المخيمات اليوم، تاركة المدارس من دون مدرسين. وعندما يقصد الروهينغيون المستوصفات، ما عادوا يعلمون يقيناً أن الطبيب سيأتي. يقول نورالام: {الحياة هنا لا تُحتمل}.

نورالام على اطلاع على أربعة قوانين عرقية تُناقش راهناً في البرلمان. يفرض أحدها على المرأة أن تقدّم طلباً إن كانت ترغب في الزواج من مسلم، في حين يحرم القانون الثاني تعدد الزوجات. وفي بعض المناطق، سيُسمح للمرأة بأن تنجب ولداً واحداً كل ثلاث سنوات. أما مَن يودون أن يغيروا دينهم، فعليهم أولاً أن يقدموا طلباً للدولة. لكن الرئيس ثين سين وقّع قانون الإنجاب فحسب. ويخشى الناشطون في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان أن تسعى الحكومات الإقليمية إلى تطبيقه في مناطق سكن الروهينغيين.

التقى نورالام على الشاطئ مهرباً اصطحبه إلى الساحل إلى سفينة قادمة من تايلند. صعد على متن هذه السفينة نحو 400 روهينغي من بورما وبنغلاديش. يعيش نحو 200 ألف روهينغي في بنغلاديش، ويحاول معظمهم الهرب من الفقر. عندما صعد نورالام إلى السفينة، دلّه طاقم العمل على المكان المخصص له على السطح. يخبر هذا الشاب أنه راح يبكي، فيما كان يفكر في أمه النائمة. رغم ذلك، شعر أنه يفعل الصواب.

وعد المهرب نورالام بعمل في مصنع في ماليزيا، ولم يطلب منه أي مال، في البداية على الأقل. وعلى متن السفينة، قدم له المهرب الرز، كوب ماء، وملحاً. كذلك أمر اللاجئين بالجلوس بهدوء. ولكن ذات يوم، عندما قصد نورالام الحمام للمرة الثانية، ضربه أحد المهربين بسلسلة من حديد. أُرغم نورالام على العيش طوال شهر في منطقة لا تتعدى مساحتها المتر المربع، فيما كانت يداه وساقاه مكبلة. وهكذا تحول إلى كرة بشرية جاهزة في أي وقت لتُرمى في البحر.

يؤكد هذا الشاب أن اللاجئين من سيتوي لم يُطالبوا بأي مال، إلا عندما رغبوا في ترك السفينة. وكان ثمن العبور من بورما عبر بحر أدامان إلى تايلند، ومن ثم براً إلى ماليزيا نحو ألفي دولار.

ابتزاز وتعذيب

احتجز المهربون مَن لا يملكون المال على متن السفينة ومن ثم نقلوهم إلى كوخ في الأدغال. ومن هناك كانوا يتصلون بأقارب اللاجئين، يصبون عليهم الماء المغلي، وينزعون أظافر أصابعهم لإرغام العائلات على الدفع. توقفت سفينة نورالام قبالة الساحل التايلندي. يذكر هذا الشاب: {رأيت البر بأم عيني}. لكن المهربين لم يسمحوا له بمغادرة السفينة. وهكذا أصبح مجدداً من دون وطن، إلا أنه كان في عرض البحر، آنذاك.

يقدّر الناشطون في مجال حقوق الإنسان أن نحو 4 آلاف روهينغي ما زالوا عالقين على متن سفن. تكمن المشكلة هنا في أن الكثير من دول جنوب شرق آسيا لم توقع معاهدة الأمم المتحدة للاجئين لعام 1951. وقبل بضعة أيام، قدمت إندونيسيا وماليزيا تنازلات ووافقتا على إيواء الروهينغيين مدة سنة في ما يشبه خطة طوارئ بديلة.

منذ مطلع مايو، حين اكتُشفت قبور جماعية في تايلند يُعتقد أنها لروهينغيين، شددت السلطات التايلندية مراقبة الحدود. وفي الأيام الأخيرة، اكتُشف عدد إضافي من القبور الجماعية في أدغال ماليزيا، حيث احتجزت عصابات من مهربي البشر مئات اللاجئين وحاولت أن تبتز المال من عائلاتهم.

تدخل شقيقة نورالام الكبرى الكوخ في المخيم في سيتوي، وترمق أخاها بنظرة عتب، فيما يروح يروي أن السفينة ظلت واقفة قبالة سواحل تايلند طوال 10 أيام، أنه خشي أن يموت من الجوع والعطش، أن البحرية التايلندية أرغمت السفينة على أن تعود أدراجها، أنه عاد إلى سيتوي في غضون أسبوع بعدما وهن جسمه وملأه الخجل، وأن عائلته اليوم تدين بمئة دولار دفعتها لتتمكن من تحريره من السفينة.

تقول أخته: «سأجد زوجة لنورالام لأنه ينتمي إلى هذا البلد». وقد ألمحت بكلماتها هذه إلى أن الروهينغيين يستطيعون أن يقدموا طلباً للحصول على جنسية من الدرجة الثانية، إن تمكنوا من إثبات أن عائلتهم تعيش في بورما منذ أكثر من ستين سنة. ولكن للحصول عليها، يجب أن يقبلوا أيضاً بالتسمية «بنغالي». قد تبدو هذه خطوة كريمة من جانب الدولة، لكن الواقع يُظهر أن عدداً قليلاً من الروهينغيين يملكون أوراقاً ثبوتية.

لا شك في أن هذا الوضع يسعد الأكثرية البوذية في هذا البلد، وخصوصاً المنظمات القومية مثل حركة 969، التي تتمتع بنفوذ كبير في بورما. فهي تعتبر أن كل مَن لا ينتمي إلى التهروادة البوذية لا يُعتبر بورمياً بحق.

الكراهية المعتملة

في ماندالاي في وسط بورما، استقبل أشين ويراثو (46 سنة) زائره في دير ما سوي ين. ويراثو رجل صغير القد رقيق الصوت يمتاز بابتسامة ناعمة، إلا أنه يُدعى {بن لادن البورمي}، ووُصف على غلاف مجلة {تايم} بـ}وجه الإرهاب البوذي}. حُكم على ويراثو بالسجن مدة سبع سنوات لإشعاله نيران الكره. وبعد إطلاق سراحه من خلال برنامج العفو قبل بضع سنوات، يرأس اليوم نحو 2500 راهب في ماندالاي. لكن كثيرين يعتبرونه دمية النظام.

في ذلك الصباح، كان ويراثو يجلس بردائه الأحمر في غرفة الصلاة، فيما راح الرهبان ينحنون بصمت أمامه. تضم الغرفة المجاورة صور أناس مشوهين يزعمون أنهم بوذيون قتلهم مسلمون.

عندما سألناه عما يعتبره نشاطه الأكثر أهمية، أجاب: {فيسبوك}. فقد نشر لتوه صوراً لفتاة بوذية يدعي أن رجلاً مسلماً اغتصبها. أضف إلى ذلك تطبيق ويراثو والأشرطة التي تُنشر على يوتيوب، فضلاً عن أنه يدلي بالخطابات في مختلف أنحاء البلد. يتحدث ويراثو دوماً عن الموضوع عينه: ادعاؤه أن الروهينغيين يريدون الاستيلاء على بورما. كذلك طلب تصوير المقابلة التي أجراها مع شبيغل. وأكد أن هذه الخطوة لا ترجع إلى خوفه من أن يُساء فهمه، وطمأننا أنه لا يتمنى موت أحد.

أما عما تريده حركة 969، فأجاب ويراثو، وهو راهب منذ الرابعة عشرة من عمره: {نصون هوية بورما ودينها}.

عندما استفسرنا عن سبب رفضه للروهينغيين، قال: {المسلمون أقلية هنا، إلا أنهم يشكلون أيضاً خطراً يهددنا: شارلي إيبدو، اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، المقهى في أستراليا، سورية، نيجيريا، كينيا، بوكو حرام، داعش... يكفي أن تفكر قليلاً في هذه المسألة. يريدون أن يحولوا ولاية راخين إلى جمهورية بنغالية}.

عندما سألناه عن سبب هرب الروهينغيين، التزم الصمت.

وعن سؤالنا لمَ لا تساعد الدولة اللاجئين، قال ويراثو: «لا تتحمل بورما أي مسؤولية تجاههم. فلا يمكن لمن لا يملكون دولة أن يكونوا لاجئين». وقد بدا مسروراً جداً بجوابه هذا. كذلك ادعى أن المملكة العربية السعودية تمول الروهينغيين.

انبلج فجر يوم جديد في مخيم الروهينغيين في سيتوي. استيقظ نورالام في الخامسة صباحاً، أحضر الماء من البئر، ولف حبات الفوفل بورق التنبول. يحاول هذا الشاب ابتكار طرق لتمضية النهار. يقول: «أحب الريح والهدوء».

عند التأمل في مستقبله، يذكر نورالام أنه يفكر في بيع الدجاج في السوق مع صهره. ويؤكد أن من الجيد لهم أن يجني المزيد من المال لأمه. أما على الصعيد الشخصي، فلا يكترث نورالام لواقع أنه لا يملك شيئاً. فهو يدرك ألا فرص له هنا في بورما. لذلك يود أن يبقى حراً من دون أي التزامات. فهذا يجعل الهرب أكثر سهولة، على حد تعبيره.

back to top