جورج شامي في «زورق على شاطئ الانتحار»...

نشر في 31-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 31-05-2015 | 00:01
No Image Caption
قصائد تُهَنَّأ لنجاتها من النسيان

ليس سهلاً على حامل قلم أن يزرع ويمدّ سنابل حبره على بياض الورق، وينتظر خمسين عاماً ليشير إلى المطبعة أن خُذِي ما عندي ومُدّيه على بساط الدنيا لمن يرغب.
في المقدّمة – الإهداء لديوان «زورق على شاطئ الانتحار» يعلن جورج شامي، أن قصائده، أو شذراته كما يسمّيها، مرفوعة إلى روح غزالة أحلامه، زوجته «أليدا» بعد غيابها. وهذه القصائد كُتِبَت: «على دفعتين: الأولى عام 1949، والثانية عام 1955». أمّا التأخّر في طباعتها فيعود إلى أنّ غزالة أحلام الشاعر احتجّت عليها لما فيها من قلق وإحباط ويأس. إنّما شامي لم يصدر قرار الإعدام بحقّ قصائده، التي خبّأها: «في أدراج الرياح العاتية، تعصف بها وتطير، كلّما عصفت عواصف الحنين إلى الذكريات»...
متعدّد هو جورج شامي، روائيّاً وأديباً ومعلِّماً... ويُظهره زورقه الموشوم بشهيّة الانتحار شاعراً يعرف كيف يفتح جناحَي الكلمة لتطير شعراً مثلما يعرف كيف يفتحهما لتطير في فضاء الرواية.

في المجموعة الأولى، «الصّمت والمحبّة حطّما وجهي»، ينطلق شامي من موته مادّاً يده إلى الزّمان، راسماً الخطو بأقدام تنتعل العدم:

 أنا ميّت، تحدّيت الزّمان

 أقدامي مائعة

 تغرس في العدم

 

... ويصف تابوته الذي هو كناية عن مسير دائري حين العيون تحت الأقدام، ليغدو الوجود خطّاً عملاقاً في استقامته تُسجّى عليه جثّة دائمة: 

تابوتي سرعة نسبيّة،

 دوران أعمى.

 خطّ مستقيم عليه جثّة»...

 

 الموت كلّه يأوي إلى محبرة شامي. ينام على زند ورقته السوداء. يتدثّر بكلماته المرتدية ريش الغراب. يرسم له شمساً طاعنة في الغياب فيستمرّ في قعر واديه محاصراً بجهل نفسه، غير قادر على الاستهداء إلى المغارة التي تجترّ صداه:

 غابت الشمس عن واديَّ.

 أين أنا؟ في أيّ غروب؟

... فأيّ كهف يرجّع صداي؟

 

وفي الانتقال من شذرة إلى أخرى يتّضح شامي الجدليّ، الواقف في مساحة ملتبسة يتنازعها الموت والحياة، فيحاول رفع رأسه ليرى إلى الأبعد ويقبض على آتِيه إلاّ أنّه يقطف الفراغ من أغصانه العالية، وينظر إلى الأسفل فيجد نفسه نبتةً آدميّة يلتهم العدم قدميها بينما كفّها تجترح لها بداية ما في سجلّ الحياة:

 خيالي يتطاول

 يصدمه فراغ.

 قدمٌ في العدم

 كفّ في البدء.

 

ومن الملاحظ أيضاً أنّ شامي عدوّ الهدر اللغوي، وهو في القصيدة غيره في الرواية، فيتقن الفيض اللغوي روائيّاً، كما يتقن التكتيف والبخل اللغوي شاعراً. وإذا كان من رابط أو مشترك لا بدّ منه بين شامي الشاعر وشامي الروائيّ فهو النَّفَس العبثي، والكآبة التي تجد لنفسها في كلّ جملة شاميّة مسند رأس. ويبدو شامي يزور عالماً عتيقاً يختنق بصدئه... عالَماً يُلبس هدوءه السواد، ولا أحد يستطيع العبور إلى مكان من خلال يباس أبوابه... عالَماً أكثر ألماً من حديده الجامد، وزمانه هَرِم لا متّسع للحياة في روزنامته:

 الهدأة ساحرة سوداء

 الباب ساكت يابس...

 النوافذ خرساء من ليل

 يثبتها حديد أحدب جام

 والزمان عليه صدأ

 

وأمام هذا الوجود المتدثّر بغموضه الكارثيّ، يتّقي الشاعر أذى الحياة بالسكوت والمحبّة اللذين شظّيا وجهه، فالعاطفة لم تنقذه من خرس العيون، وصمته لم ينجِّهِ من أن يكون نغَماً ميتاً في صدر الأرغنّ، ما يدفع الحياة نحو أقصى عبثيّتها وحقيقتها لتمسي ابتسامة بالغة السخرية، منحوتة على أبواب القبور:

 السكوت والمحبّة حطّما وجهي

 رؤيتي خرساء

نغم جامد

في جوف أرغنّ

 ابتسامة ساخرة

 على باب قبر

 

 وفي نهاية المجموعة الأولى يكشف شامي عن انتحاره، فهو انتحار داخليّ لا خارجي. انتحار من على شرفة الذات الشاهقة، لكن داخل الذات. وهذا الانتحار باعث فرح وسعادة لأنّ به نجاة من شبكة الألم ولو كان الثمن موت الحرّية:

 انتحاري في نفسي

 تطاول على شفاهي ابتساماً

 أنا سعيد!!!

قتلتُ ألمي!

 ماتت بي حرّيّتي:

 رائحة جسدها تعبق في أجوائي

 اقتحمتُ أبواب التحرّر.

 

وقبل أن يضع شامي النقطة النهائيّة بعد سكوته ومحبّته، يقف على برج لغتِه الموجوعة ويرمي شبكة صوته على الخريف داعياً إيّاه بكلّ ما فيه من أصفر، واقفاً تحت أفقٍ يضجّ بالسواد، معانقاً غيابه، ملتحماً بعراء التّين اللابس عباءة الضباب: 

الآفاق مظلمة 

يغمرها هواء بارد

 التّين عارٍ في الضباب

 الاصفرار ظلام حولي

 متى تعرّيني

 خريفي الحبيب؟

 

المجموعة الثانية

 

وفي الانتقال إلى المجموعة الثانية «المجوس... وجحيم الأمل» يواصل شامي نفَسَه السابق، ويطوّر سوداويّته ويشحنها بمزيد من اللوعة والأسف على الحياة المجرَّدة من ذاتها. وإذا كان المجوس رمزاً لولادة السماء على الأرض، وللفرح الذي يرتقي بالإنسان إلى كماله، فمجوس شامي حَمَلَة خيبة، وزائرو مغارة لا تتّسع لسماء. وإذا كان الأمل ينبت للروح أجنحة ترفّ احتفالاً بالحياة، فإنّ أمل شامي مُثقل بنار الجحيم وصقيع اليأس، إنّه أمل ذو إصبع لا تدلّ على ابتسامة يجود بها زمن بخيل.

يمدّ الحبّ عنقه من شذرات شامي، في مجموعته الثانية، دون أن يخجل بألمه. فأنثى الشاعر معبودة، يعلّق المجوس فاكهة صلاتهم في أغصان شجرة حياتها، وهي، وإن تكُن سماءً لا بدّ منها، جحيم يستوطن الأعماق العاشقة مشتعلٌ بالأمل: 

عبدَكِ المجوس 

شفاءً...

 وتبقين في عمقي

 جحيماً له أمل

 

وشامي يمضي إلى الحبّ بجسده أيضاً وله موعد مع الشفة والنهد... غير أنّ الحبّ لا يمنعه من أن يصرّ على سواد يراه بعينيه واضحاً بكلّ ما يحمل من غموض، وعليه، فإنّه يستمرّ رافعاً حجارته السوداء بموازاة أبراج الشمس والأحلام: 

كفى تحديقاً بي،

 على الطريق شمس وأحلام، 

حجر أسود، 

أشباح لها ظلّ الحديد

 

ولا يستطيع شامي الهروب من منفاه الوجودي. جدرانه دائمة الإقامة في عينيه. شفاه نسائه هجرتها رشاقة الحبّ وخفّته. المرأة في ظلّ قلمه كائن مصنوع من لحم الخوف ودمه، وجسدها مقبرة يعيش فيها الموت وحيداً: 

جدران عالية.

 شفاه ثقيلة وسلاسل.

 ظلال امرأة من خوف

 لها في الشارع شبح...

 لها في الموت جسد

 وفي الحياة ارتجاف.

 

 وكيف سترضى «أليدا»، غزالة أحلام الشاعر، بحبّ تمتزج فيه الحياة بالموت، وبرنين قُبَل ليس ببعيد عن رنين أجراس حزينة؟!

شامي، المراهق العاشق، عَبَر المراهقة دون أن يتركها تتغلغل بفرحها ونزقِها في وجدانه وجسده. عَبَرَها مديراً ظهره لها. ولم يكن من شيء يمنعه من أن يفضّل رائحة القبر على رائحة جسد امرأة يحبّها، لأنّ الموت مصدر طمأنينة لا يضاهى: 

فرائحة قبري، أدعى لطمأنينتي

من أنغام قيثارتِكِ...

 

جورج شامي في زورق مراهقته الشعريّ، ضرب مجذافه عميقاً في مياه سوداء، وكأنّه كان يصطاد وجهه وهو يحدّق إلى محبرته طويلاً، ذلك الوجه الكثير، الذي عرف من أي تؤكل كتف الحبر جمالاً.

back to top