جنة الفدائيين

نشر في 30-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 30-05-2015 | 00:01
No Image Caption
في ظهيرة يومٍ غائمٍ لطيف الأجواء عام 484 من الهجرة الموافق لعام 1091 من الميلاد، كان فتى في السابعة عشرة من عمره جالساً على حصيره البالي والمتهتك الأطراف، في قلب مدينة قزوين النابض بالحياة، منادياً بأعلى صوته متحدياً صخب السوق العارم، عارضاً للناس بضاعته المتواضعة، وهي عبارة عن مجموعة من الأسماك المملحة كان قد اشتراها طازجة من القافلة التجارية أثناء مرورها في المدينة صباح ذلك اليوم.

آثار التقشف الظاهرة على الفتى تسفر عن فقره وعوزه، إلا أنه يكتسب ما يمنعه عن سؤال الناس ويغنيه عن منّهم بفضل مهنته البسيطة ومثابرته الصامدة، على عكس الكسالى الاتكاليين من الشحاذين الذين يجوبون الطرقات متسولين الصدقة ومضايقين المارة بإلحاح مزعج ومناظر باعثة على الإحباط، ولم يكن هو بطبعه يحب هذا الصنف من الناس، فقد علمته والدته منذ طفولته المبكرة بأنه ما أكل أحد قط طعاماً خيراً من عمل يده، وترعرع مؤمناً بتلك الكلمات في أعماق قلبه.

يسكن مع والدته في بيت حجري صغير في أحد الأحياء الفقيرة، حيث تقعد هي طوال يومها على فراش المرض الذي لازمها شهوراً، ممضية وقتها في خياطة الأقمشة لجاراتها اللواتي كان دافعهن من تكليفها هذا العمل هو تسليتها وإلهاؤها عن الفراغ الذي قد يبعث في نفسها المزيد من الحزن والغم، بينما يكون وحيدها (أرمان) في الخارج للعمل وكسب لقمة العيش إلى أن يحين وقت الغروب.

أما والده (محمد دارا) فلا يذكر عنه إلا ومضات من الذكريات أشبه ما تكون بأضغاث الأحلام. قيل له إنه كان جندياً في الجيش السلجوقي، وإنه استشهد في إحدى المعارك، ودفن في مقبرة جماعية مع الشهداء. فنشأ يتيماً، وتربى في كنف والدته التي أولته كل رعايتها واهتمامها.

عندما بلغ سن السابعة ألحقته والدته بحلقات العلم المعقودة في جامع المدينة الكبير، وهناك تلقى تعليمه على أيدي شيوخ ومعلمين فضلاء. فحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة وكان تلميذاً ذكياً، فطناً، سريع الحفظ والتعلم، واستمر في طلب العلم وقراءة المتون حتى بلغ سن الخامسة عشرة، ثم توقف بعدها نظراً إلى تدهور حالة والدته الصحية وحالته المعنوية.

كان يعزو سبب ما حل بوالدته من المرض والتعب، إلى العمل المضني غير المنقطع، فهي تعمل في كل مجال يتاح لها، من صنع الإقط والفحم، والخياطة، وحتى بيع الحطب ولم تسمح لنفسها بأن ترتاح يوماً، كما كانت تعاني القلق المتواصل حيال توفير النقود لابنها المتفرغ لطلب العلم، آملة أن تجعل منه عالم دين جليلاً، يبجل ويعظم، وربما تكون له مكانة عند السلطان السلجوقي. بينما رضخ هو للأمر الواقع وقرر عدم التعلق بالأماني شبه المستحيلة إن لم تكن مستحيلة حقاً، ومن ثم قرر ترك العلم ليكون عوناً لأمه المسكينة لا عالة عليها، ولم يأبه لرفضها الشديد حينئذ.

ولم تتقبل أم أرمان فكرة الزواج برجل آخر، كما كان وضع كل النساء تقريباً، فالواحدة منهن لا تكاد تمر فترة العدة المحددة بثلاثة أشهر من وفاة الزوج – للتحقق من عدم وجود الحمل – إلا وقد دخل عليها العريس الجديد ليتكفل بإعالتها هي وأبنائها إن كان لها ولد. فهي مختلفة عنهن ترى أن الزواج من بعد وفاة الحبيب خيانة، ولو أحله الشرع وأقرته التقاليد والأعراف، حيث إنها تكن لزوجها المرحوم الوفاء والمحبة والإخلاص ولو أنه فارقها وفارق الحياة إلى الأبد.

وفي إحدى المرات عندما حاولت إحدى جاراتها إقناعها بالزواج بقريب لها، وكان كهلاً غنياً متزوجاً ثلاث نساء ويريد أن يتم بها الأربع، سألتها أم أرمان بامتعاض واضح: {هل تؤمنين بالحياة الآخرة؟}.

قالت لها:

{ولله الحمد والفضل}.

قالت: {وماذا سأقول لزوجي المرحوم عندما ألقاه عندئذ؟ آسفة يا زوجي العزيز... لقد تزوجت من بعدك... برجل آخر... يجامعني كل أربع ليالٍ... على فراشك... وفي بيتك... بينما كنت رفاتاً في قبرك}.

فخرجت المرأة من عندها متأثرة ضيقة الصدر، وأزمعت أم أرمان أن تصبر على حظها الذي كتبه الله لها، وأن تعمل بجد وشرف، لتستقل بنفسها وبابنها بدلاً من أن تكون غرضاً للتسلية والمتعة لرجلٍ غليظ جلف لا هم له إلا إرضاء غرائزه.

مرّ جُل وقت الظهيرة والناس يروحون ويجيئون أمام الفتى دون أن يلتفت أي منهم إليه، ولم يبع شيئاً من الأسماك التي ابتاعها بثلاثة قروش بعد، وكان أمله أن يبيعها بخمسة قروش أو ستة إن كان الحظ حليفاً له، وبالرغم من بخس سعرها، فإن الناس عادة ما يفضلون شراء الأسماك من دكاكين السماكين حيث يوجد منها هناك الأجود نوعاً والأكبر حجماً وبالتأكيد الأغلى ثمناً، كما أن الباعة يقومون من باب التودد للزبائن، ببشرها وتقطيعها وإفراغ ما في أجوافها وتكييسها لهم بعد تنظيفها بلا مقابل.

كاد اليأس والإحباط يتمكنان منه لولا أن مر رجل وقور المنظر، حسن المظهر والهندام، يبدو عليه أنه من التجار الرحل الذين لا يرون كل يوم، ذو لحية قصيرة مرتبة وشديدة السواد، كما أنه يلبس السواد من الثياب ويعتمر عمامةً سوداء.

جاء إليه وقرفص قدامه بتواضع وألقى عليه التحية بوجه بشوش، فاستبشر به أرمان خيراً وسرّ عندما لحظ سمات الصلاح بادية على وجهه، ومن ثم، عرض عليه بضاعته المزجاة.

قال وسط تفاؤل أرمان بعد أن ألقى نظرة سريعة على الأسماك:

{ما شاء الله تبارك الله}.

ثم رفع بصره إلى البائع الشاب وحملق فيه بغرابة وفضول وتفرس في ملامح وجهه، فأرمان كان فتى مليحاً، وبسبب طول مكثه تحت الشمس أكسبه ذلك سمرة جذابة، له أنف دقيق، وشفتان لونهما أدكن، وعينان عسليتان واسعتان وحاجبان دقيقان متصلان، نحيل متوسط الطول، عريض المنكبين يلبس ثوباً قصيراً رمادي اللون تنتشر به الرقع بألوان مختلفة، ويعتمر عمامةً بيضاء نظيفة تبرز أطراف شعر رأسه الأسود الناعم من تحتها، ولاحظ كذلك طريقته في الكلام ودقق في جميع حركاته وسكناته أثناء حديثه إليه وهو يعرض عليه الأسماك الواحدة تلو الأخرى ويسمي له أسماءها بينما لم يكن ذلك الغريب يبدي أدنى اهتمام بأي منها.

{ألديك رغبة في الشراء يا سيدي»؟ قال بنبرة توحي باليأس الممزوج بالأمل.

ظل الرجل صامتاً برهة من الوقت وهو يحدق إلى السمك ثم رد عليه:

{أجل يا بني، أودّ أن أشتريها، بل سآخذها كلها، ماذا تقول؟}.

{حقاً! ، حسناً، سأقبل أيّ ثمن تطرحه مادام أربعة قروش وما فوق}.

{أربعة قروش»؟ قال وهو مقطباً حاجبيه. «ألا يمكنك حسم شيء من أجلي؟}.

{عذراً يا سيدي، أربعة قروش هي الحد الأدنى عندي، ولا أستطيع أن أبيعك بأقل}.

عاد الرجل يتفحصه مرة أخرى وهو يهز رأسه مما أثار ريبة أرمان وانتابته شكوك في هذا الشخص، وبعد لحظات قاطعه بنبرة حازمة:

{هل ستبتاع السمك يا سيد؟}.

وعوضاً عن إجابته سأله: {ما اسمك؟}.

أجابه باستغراب: {اسمي؟ ... أرمان}.

وبفضول أكبر قال: {أرمان ابن... من؟}.

{أرمان بن محمد دارا}

ثم ابتسم ابتسامةً عريضةً مثبتاً عينيه اللتين أحمرتا فجأة دونما سبب واضح على عينيه ووجهه.

{كأنك تعرفني يا سيد؟}.

أجفل ثم ابتسم وقال: {لا... لا، أبداً، إنما أنا فضولي، أحب التعرف إلى الناس فحسب}. ثم أخرج من جيبه كيساً وألقاه إليه: {ها قد اشتريتها منك بأكثر من أربعة قروش، وفقك الله}.

عندما نظر إلى الكيس الثقيل الذي بيده فرح فرحاً شديداً وقال للغريب بامتنان: {شكر الله لك كرمك يا سيدي}. وعندما شرع في ترتيب السمك له، بادره وانتزع السمكة التي كانت بيده وكومها فوق البقية ولفها في القش الذي كان السمك موضوعاً عليه بعشوائية، ورحل به متأبطأ إياه وحاثاً خطاه دون أن يلتفت يمنة أو يسرة وكأنه يهرب من شيء ما أو أحد ما، وظل أرمان يراقبه حتى اختفى بين الجموع الغفيرة.

تساءل وهو ينظر إلى الكيس المنتفخ: {كم يحتوي من النقود يا ترى... عشرون قرشاً؟} نظر ثانيةً إلى الجهة التي ذهب منها الرجل ثم هز كتفيه وتظاهر بعدم المبالاة.

نهض وطوى الحصير ثم وضع فوقه صخوراً لتثبيته، ولم يكن يخشى عليه من السرقة، حتى أطمع اللصوص لن يكلف نفسه عناء حمله.

عليه الآن الذهاب لشراء بعض الحاجات التي طلبتها منه والدته قبيل خروجه من البيت فجراً، فمشى وسط الزحام مطرقاً برأسه إلى الأرض وكل تفكيره كان منصباً على ذلك الزبون وأسئلته وتصرفاته الغريبة بالرغم من محاولاته نسيان الموضوع وطرحه جانباً.

لماذا يا ترى يسأل بائعاً فقيراً عن اسمه؟ ويحدق إليه بنظرات مريبة وكأنه يعرفه أو سبق له أن رآه من قبل؟ ثم بعد ذلك يشتري منه السمك بهذا المبلغ الكبير من المال؟ {هل كان يتصدق علي؟} تساءل بمرارة وخجل.

وبينما هو يمشي توقف عند أحد دكاكين الطباخين، حيث لفحته رائحة شواء مغرية أثناء مروره من أمام بابه المفتوح على مصراعيه. نظر خلال العتمة إلى الداخل فرأى الناس الجالسين فوق المصطبات المفروشة، يتحدثون بعضهم مع بعض بأصوات مرتفعة ويلتهمون ما لذ وطاب من أصناف الأطعمة.

أخرج كيس النقود وهزه قليلاً ثم طرأت عليه فكرة خطيرة، هل يدخل ويأكل من شهي الطعام، مادام يملك الكثير من الوقت والمال؟. نظر إلى الكيس ثانيةً ثم غمغم: «ربما لن يضر لو خصصت شيئاً من هذه النقود لأحظى بغداء دسم وأحس بالشبع والتخمة ولو لمرة واحدة في الشهر... أو عوضاً عن ذلك يمكنني الذهاب إلى البيت حيث الثريد المخلوط باللبن المتحمض؟}.

أخيراً اتخذ قراره ودخل الدكان حتى توقف في منتصفه حيث بدأ الناس يرمقونه بالنظرات المتوجسة، ربما لأنهم ظنوه أحد أولئك الشحاذين المزعجين قد توقف لزيارتهم في وقت غير مناسب.

كانت رائحة الطبيخ نفاذة وأصوات الزبائن والطباخين تلجلج في المكان تساندها قرقعة القدور والصحون.

اعتلى إحدى المصطبات وجلس على سجادة خشنة تنتشر بها البقع، وإلى جانبه رجل ذو شارب كثيف معقوف الطرفين.

استرق أرمان نظرات إليه بطرف بصره فوجده ممسكاً بدجاجة كاملة يقلبها بين يديه ويأكل منها بنهم... بل كان يستطيع رؤية بقايا قطع الدجاج عالقة بمقدم شاربه.

back to top