الزوجة الصامتة

نشر في 30-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 30-05-2015 | 00:01
No Image Caption
هي وهو

الوقت بداية أيلول، وجودي بريت تحضّر العشاء في المطبخ. بفضل التصميم المفتوح للشقة، كان بإمكانها أن ترى بوضوح عبر غرفة المعيشة المشهد الذي يجمع البحيرة والسماء، من خلال نوافذها المواجهة للشرق. كان ضوء المساء الأزرق المتّسق يغمرها، وكان بإمكانها أن ترى خطاً رفيعاً داكن اللون؛ إنه الأفق، وكان قريباً إلى درجة شعورها أنه في متناول يدها، وأنها تستطيع لمسه. يعجبها هذا القوس المصوّر بدقة، ويشعرها بأنه يطوّقها، فالإحساس بالاحتواء هو أكثر ما تحبه في هذا البيت المرتفع الذي يقع في الطابق السابع والعشرين.

بعمرها البالغ خمسة وأربعين عاماً، لا تزال جودي ترى نفسها امرأة شابة، إنها لا تفكر في المستقبل كثيراً، وإنما تعيش تماماً في اللحظة الراهنة، وتفكر في كل يوم في ذاته. وهي تفترض - من دون أن تفكر في هذا - أن الأمور ستجري بنحو غير محدد بطريقتها المقبولة تماماً؛ وإن لم تكن مثالية. بكلمات أخرى، إنها غافلة تماماً عن أن حياتها قد وصلت إلى ذروتها الآن، وأن مرونة شبابها - التي استنفدتها سنوات زواجها العشرون من تود غيلبرت - تقترب من مرحلة تفكك أخيرة، وأن أفكارها عمّن تكون، وكيف ينبغي أن تتصرّف أقل استقراراً مما تفترض؛ مع الأخذ بالحسبان أن شهوراً قليلة فقط هي كل ما سيلزم لجعلها قاتلة.

إذا أخبرتها بهذا فلن تصدّقك، فالجريمة مجرد كلمة في مفرداتها؛ إنها مفهوم من دون أي معنى، وموضوع قصص في الأخبار، وتتعلّق بأشخاص لا تعرفهم، ولن تلتقيهم أبداً. إنها لا تصدق أن العنف الأسري والخلافات اليومية يمكن أن تتفاقم مهددة الروابط الأسرية إلى هذا الحدّ، وهذه الدرجة. إن عدم قدرتها على تصديق ذلك وفهمه له أسبابه؛ حتى إذا نُحِّيت جانباً قدرتها على ضبط النفس، وعدم سعيها وراء المثالية، وتقبلها الأمور السيئة بصفتها الوجه الآخر للأمور الجيدة الذي لا بد منه، فضلاً عن أن جودي لا تثير الشجارات، ولا يمكن إزعاجها بيسر وسهولة.

عادة، يجلس الكلب عند قدميها حين تعمل على لوح التقطيع؛ كلب الصيد ذاك الذي تلبسه سترة حريرية، وترمي له بين الحين والآخر شريحة من الجزر النيء، يلتقطها بأسنانه، ويطحنها بمرح بأضراسه. يُعد رمي الخضار إحدى العادات القديمة التي تسبق العشاء. وقد استمتعت والكلب بها منذ أن أحضرته إلى المنزل وهو جرو صغير مكتنز، وذلك لإبعاد ذهن تود عن توقه إلى الذرية الذي انبثق - بين عشية وضحاها كما يبدو - عندما بلغ الأربعين. أسمت الكلب فرويد تيمناً باسم عالم النفس فرويد؛ كاره النساء الذي أُرغمت على أخذه على محمل الجد في الجامعة. فرويد يطلق الغازات، فرويد يأكل النفايات، فرويد يطارد ذيله؛ الكلب لطيف دائماً ولا يمانع إطلاقاً أن يكون موضوعاً للتندر.

كانت تقطّع الخضار، وتفرم الأعشاب، وتشغل نفسها تماماً بالعمل. فهي تحب الطهي، وتحب رشاقة شعلة الغاز، والمؤقت الذي يحدّد انقضاء الدقائق، والنتيجة الفورية. أدركت أن الصمت مخيم خارج المطبخ، وأن كل شيء يندفع إلى نقطة في الوقت حين ستسمع مفتاحه يدور في القفل؛ إنه شيء تتوقعه بسعادة، وهي لا تزال تشعر أن تحضير العشاء لتود مناسبة مهمة، ولا تزال شاكرة لضربة الحظ التي أحضرته إلى حياتها.

حدث ذلك في صباح يوم ربيعي ماطر. كانت مشغولة بالدراسة صباحاً والتحضير لتخرّجها في علم النفس، وبخدمة الطاولات ليلاً. وكانت تنتقل إلى بيت جديد، وتقود شاحنة مغلقة مستأجرة محمّلة بأغراضها المنزلية شمالاً عبر شارع ستيت. وعندما استعدت لتغيير مسارها من اليمين إلى اليسار ربما نظرت من فوق كتفها وربما لا. وفجأة، وجدت الشاحنة ثقيلة، ولم تعد تسيطر عليها؛ ما جعلها تخطئ المنعطف عند آخر إشارة ضوئية. ونظراً إلى تلك الظروف، ربما يكون ذهنها قد شرد؛ وهذا ما أصبح موضوع نقاش مستفيض بينهما لاحقاً. لقد سمعت ضجيجاً عاماً صادراً من أبواق وصرير مكابح، وقبل أن تتمالك نفسها - قبل أن تدرك تماماً أن شاحنتها قد توقفت وأنها بخير - كان يصرخ عليها عبر نافذتها المغلقة.

«أيتها الغبية المجنونة، ماذا تظنين نفسك فاعلة؟! هل أنت معتوهة من نوعٍ ما؟ أين تعلمت القيادة؟ الأشخاص أمثالك ينبغي لهم أن يبقوا بعيدين عن الطريق. هل ستخرجين من مركبتك أم ستجلسين فحسب كما لو أنك مغفّلة؟}.

لم يترك تقريعه المطوّل لها في ذلك اليوم تحت المطر انطباعاً حسناً لديها. لكن أي رجل تعرّض لحادث سير لا بد أنه سيشعر بالغضب؛ حتى وإن كان هو المتسبب بالحادث، وهو لم يخطئ في تلك الحال. لذا، عندما اتصل بعد بضعة أيام ليدعوها إلى العشاء، قبلت بلطف.

أخذها إلى الحي اليوناني، حيث تناولا شيش الضأن. كان المطعم مزدحماً، والطاولات قريبة من بعضها، والأضواء ساطعة. وجدا نفسيهما يصرخان أعلى من الصخب الذي يحيط بهما، ويضحكان من فشلهما في سماع بعضهما، وتحوّل أي حديث استطاعا تدبّره إلى عبارات مثل: {الطعام جيد... أعجبني المكان... كانت نافذتي متسخة... لو لم يحدث هذا لما التقيتك مطلقاً».

لم تخرج جودي في مواعيد حقيقية كثيرة. فقد اصطحبها الرجال الذين عرفتهم من الجامعة لتناول البيتزا وعدّوا نقودهم أمامها. وعندما كانت تلتقيهم في المطعم كانوا يبدون بحالة بائسة؛ من دون أن يحلقوا لحاهم، ومرتدين الثياب نفسها التي جاءوا بها إلى الصف. أما تود فقد ارتدى قميصاً نظيفاً، وأقلّها من بيتها، وذهبا بسيارته الرباعية الدفع إلى المطعم معاً. وآنذاك، كان يعتني بها؛ فيعيد ملْءَ كوبها، ويتأكد من مستوى راحتها. وفيما كان جالساً قبالتها، سُرّت بما رأته؛ الطريقة التي يشغل بها المكان، وتصرّفه الذي بدا كما لو أنه يتولّى زمام الأمور. أحبت عاداته البسيطة؛ كمسحه سكينه بالخبز، ووضعه بطاقة ائتمانه من دون النظر إلى الفاتورة.

عندما عادا إلى سيارته، قادها إلى موقع البناء الذي يعمل فيه في بوكتاون؛ وهو قصر من القرن التاسع عشر يرمّمه، ويحوّله من نُزل إلى مسكن لأسرة واحدة. أمسك مرفقها بلطف، في حين أرشدها عبر الممر المتداعي.

«احذري الآن، راقبـي خطواتك}.

كان المكان قبيحاً، ويرجع إلى عصر النهضة القوطية؛ بقطع آجره المتضررة، وطلائه المتقشّر، ونوافذه الضيقة، وسقوفه التي تمنحه اندفاعاً مخيفاً نحو الأعلى؛ أي انحرافاً مبتذلاً في شارع تطلُّ عليه أبنية مربعة الشكل جُدّدت بالكامل. ومكان الشرفة الأمامية كان هناك سلّم ينبغي صعوده، وفي ردهة المدخل ثريا ضخمة ملقاة على جانبها. رأت في الغرفة الأمامية فسحة تشبه القنطرة، ذات سقف عالٍ على نحو لا يُصدّق، بالإضافة إلى أكوام من الأنقاض والأسلاك المتدلية.

قال مشيراً: {كان يوجد جدار هنا. يمكنك رؤية آثار الأقدام}.

فنظرت إلى الأرضية بألواحها الخشبية المفقودة.

«عندما تم تحويل المكان إلى نُزل، بُنِيت الكثير من الجدران الداخلية. أما بالطريقة التي يبدو عليها الآن، لقد عدنا إلى التصميم الأصلي، ويمكنك أن تري حقاً كيف سيكون شكله النهائي}.

وجدت صعوبة في تخيّل النتيجة النهائية، ولم يساعدها عدم وجود كهرباء، وأن الضوء الوحيد شعاعٌ باهتٌ منبعثٌ من مصابيح الشارع في الخارج. أشعل شمعة، وجعل بضع قطرات من الشمع الذائب تستقر على صحن فنجان، ثم ثبّتها عليه. بدا عازماً على أن يُريها المكان؛ فقد حمل الشمعة وتنقلا عبر الغرف الفارغة؛ في المطبخ المستقبلي، وقاعة الاستقبال المفقودة منذ وقت طويل... في الأعلى، كان النُّزل بحالته السابقة أكثر وضوحاً، وأبواب غرف النوم مثبّتة بمزاليج، والجدران مطلية بألوان بغيضة. بدت الرائحة العفنة قوية، والجو مخيفاً بسبب طقطقة الخشب القديم تحت الأقدام، فيما الشمعة ترسل مويجات ضوء تُظهر كليهما مثل شبحين على الجدران والسقف.

قال: «ما أقوم به ليس ترميماً، وإنما سيكون تجديداً وتحديثاً. ستكون هناك أرضيات من السنديان، وأبواب خشبية صلبة، ونوافذ مزدوجة الألواح الزجاجية... سيصبح هذا المكان شيئاً يريده الجميع؛ منزلاً قديماً ذا طابع خاص، لكنه متين وعصري بالتأكيد}.

كان يعمل وحده من دون معين، وتعلّم الصنائع مع مضيه قدماً بمهنته، وهو يفعل ذلك بدلاً من الجامعة، وقد اقترض مالاً، ويعيش على الدَّين والتفاؤل. وفهمت مدى ضيق ذات يده حين رأت كيس نوم مطوياً في إحدى غرف النوم، وفي الحمام شفرة حلاقة وعلبة من رغوة الحلاقة.

سألها حين عادا إلى الأسفل: {ما رأيك؟}.

قالت: {أود رؤيته حين ينتهي}.

ضحك قائلاً: «أنت تظنين أن هذا يفوق قدرتي}.

أقرّت: {هذا طموح جداً».

قال: {سينال إعجابك}.

وبحلول وقت سماعها دخوله عبر باب البيت، كانت كلّ من البحيرة والسماء قد غُلّفتا بضوء الغسق. أطفأت ضوء السقف؛ مما جعل المصابيح قرب الستارة تلقي وهجاً باهتاً، ثم نزعت مئزرها، وأرهفت السمع لبعض الوقت إلى حركاته في الردهة. داعب الكلب، وعلّق سترته، وأفرغ جيوبه في الوعاء البرونزي على الطاولة الجانبية، وساد الصمت لوقت قصير حين كان يتفقد البريد. وضعت السلمون المدخن على طبق، ثم وضعت البسكويت الهش بشكل مروحة حوله.

إنه رجل ضخم البنية، وبني الشعر، ويتمتع بحيوية كبيرة. عندما يدخل تود غيلبرت غرفة ما فهو يلفت أنظار الموجودين فيها. وهذا ما ستقوله إن سألها أحدهم عن أكثر ما تحبه فيه، وبمقدوره أيضاً أن يجعلها تضحك حين يريد ذلك. وهو بخلاف الكثير من الرجال الذين تعرفهم يجيد تنفيذ العديد من الأمور. لذا، حتى وهو يتلقى مكالمة عبر هاتفه الخلوي يستطيع إغلاق مشبك قلادتها، أو تعليمها طريقة استخدام أداة فتح القوارير في خطوتين.

مسح جبينها بشفتيه، وخطا حولها،  وقال: «يبدو جيداً. ما هذا؟}. مشيراً إلى اللحم الذي تغطيه طبقة مقرمشة، ذاك الذي خرج من الفرن ويرتاح في المقلاة.

«شطيرة ويلنغتون، لقد سبق لي أن أعددتها، أتذكر؟ أنت تحبها».

back to top