رأي: حقيقة صناديق الثروة السيادية

نشر في 02-10-2016
آخر تحديث 02-10-2016 | 16:03
 د.وفاء سبيتي كَثُر الجدل مؤخراً حول صناديق الثروة السيادية ونشاطاتها الاستثمارية بين مؤيد ومعارض، وكيف تدار؟ ولمصلحة من؟ وما حقيقتها؟... بداية يجب أن نعرف أن الصندوق السيادي هو صندوق استثماري مملوك للدولة، تقوم الدولة بتمويله عادة من فوائضها المالية كالفائض في ميزان المدفوعات، والفوائض المالية العامة، والإيرادات المحققة من بيع الصادرات، ومن ثم استثمارها في عدة أوعية استثمارية كالأراضي والأسهم والسندات أو أصول استثمارية أخرى.

وتختلف الصناديق السيادية كثيرا من حيث أحجامها واستراتيجياتها الاستثمارية التي تتحرك ضمنها، وطبيعتها الخاصة والأسباب التي تأسست من أجلها، لكن بشكل عام جميع الصناديق السيادية تعكس مصالح دولها وتهدف إلى تنمية رؤوس أموالها وتحقيق أفضل العوائد على استثماراتها لصالح الأجيال القادمة وتنويع مصادر دخلها وتحقيق الاستقرار في الميزانية والاقتصاد بشكل عام وحماية إيرادات الدولة من اي تقلبات.

تاريخ الصناديق السيادية يعود الى عام 1953، حيث تعتبر الكويت أول مؤسس لأول صندوق سيادي في ذلك العام، ليتوالى بعد ذلك ظهور صناديق أخرى في العقود التالية في الامارات ودول اخرى كسنغافورة وروسيا والصين والنرويج، صحيح ان الفكرة السائدة عن الصناديق السيادية انها ظاهرة حصرية للدول الخليجية ذات الدخل المرتفع من عائدات النفط، لكن في الواقع العديد من الدول تملك صناديق سيادية، ومنها النرويج، التي تمتلك اكبر صندوق سيادي في العالم، إضافة الى دول أخرى كالصين وسنغافورة والبرازيل وغيرها.

موجودات الصناديق السيادية تقدر بمليارات الدولارات، تتفاوت ارقامها بشكل واسع، لان عددا كبيرا من الدول لا تعلن الحجم الدقيق لاستثماراتها في هذه الصناديق، إضافة الى تفاوت معايير الافصاح بشدة من دولة الى اخرى، لكن آخر الاحصاءات الصادرة عن مؤسسة الصناديق السيادية في الولايات المتحدة المتخصصة بالاحصاءات المتعلقة باستثمارات الدول في هذه الصناديق في الربع الاول من ٢٠١٥ تشير الى محافظة الصندوق النرويجي على مركزه الاول كأكبر صندوق سيادي في العالم بموجودات قدرت بـ863 مليار دولار، بينما جاء جهاز ابوظبي للاستثمار ثانيا بنحو 773 مليار دولار، تلاه مؤسسة النقد السعودي ساما، التي تملك الصندوق السيادي للمملكة، بنحو 757 مليار دولار، في حين حافظت الهيئة العامة للاستثمار على المرتبة السادسة بعد الصين، حيث قدرت موجوداتها بـ548 مليارا، أما جهاز قطر للاستثمار فقد جاء في المرتبة التاسعة بموجودات قدرها 256 مليارا.

أما بالنسبة للاداء العام لهذه الصناديق، حسب المؤسسة نفسها خلال 2014 مقارنة بـ2013، فقد بلغ اجمالي استثماراتها المباشرة والعالمية خلال 2014 حوالي 50.2 مليار دولار، مقارنة بـ38.2 مليارا خلال 2013، أي بمقدار نمو 31.4 في المئة، موزعة جغرافيا على الصين 12.8 مليارا، الولايات المتحدة 7.3 مليارات، المملكة المتحدة 8.5 مليارات، روسيا 2.5 مليار، فرنسا 1.5 مليار، البرازيل 1.1 مليار، ايطاليا 4.3 مليارات، وتركزت معظمها في العقارات والخدمات المالية والطاقة والبنية التحتية والعناية الطبية والخدمات التجارية.

والجدير بالذكر ان هذه الصناديق تحتوي على اصول مختلفة في تصنيفاتها وقطاعاتها، كالنقدية السائلة والودائع والسندات الحكومية والاراضي بمختلف استخداماتها والفنادق والمنتجعات وشركات الطاقة والتعدين والتكنولوجيا والمؤسسات المالية وشركات التأمين واسهم الشركات وغيرها من ادوات استثمارية.

لعبت هذه الصناديق دورا بارزا خلال الازمة الاقتصادية عام 2008، فقامت بضخ الكثير من الاموال لحماية اسواق بلدانها من الانهيار، وكذلك ضخ استثمارات في البلدان المتأثرة من الازمة المالية بشكل مباشر بعد عزوف بنوك كبرى عن الإقراض، فتوجهت هذه الصناديق الى الاستثمار في العقارات والمؤسسات الصناعية والمالية الكبرى، بعد ان كانت تركز استثماراتها على أسواق المال والسندات، فقامت بذلك بتخفيف آثار الازمات المالية على الاقتصادات المحلية، فعلى سبيل المثال سارعت العديد من هذه الصناديق الى ضخ الاموال في الاقتصاد الاميركي، في الوقت الذي فر معظم المستثمرين من السوق الاميركي جراء الأزمة الاقتصادية واحتمال تعرض الاقتصاد للركود.

من المعروف ان عمل الصناديق السيادية فيه الكثير من السرية بالنسبة لنشاطاتها واتجاهاتها وكيفية توزيع استثماراتها، ولعل من أبرز الانتقادات التي توجه لها افتقارها الى الشفافية واستغلال نفوذها السياسي على شركات باستحواذها عليها والسيطرة على ادوات القرار الاقتصادي فيها.

لذلك فقد تم تأسيس مجموعة عمل دولية عام 2008 لتحديد مجموعة من المبادئ الطوعية تسمح بفهم الاطار المؤسسي الذي ترتكز عليه هذه الصناديق ونظام حوكمتها وعملياتها، بما يدعم مناخا استثماريا يتمتع بقدر من الشفافية، حيث إن الغرض من هذه المبادئ إرساء هيكل شفاف وسليم للحوكمة، بما يكفل وضع ضوابط ملائمة تضمن الالتزام بمتطلبات الافصاح وفق النظم التي تستثمر فيها هذه الصناديق والتأكد من ان ادارة هذه الصناديق تراعي في استثماراتها المخاطر المالية بما يساهم في المحافظة على نظام مالي عالمي مستقر.

يذكر أن إجمالي موجودات صناديق الثروة السيادية الخليجية، على حسب الارقام الواردة من المؤسسة المذكورة، بلغت 2345 مليار دولار، والمعروف ان اموال هذه الصناديق مصدره الاساسي من عائدات النفط، مع انخفاض اسعار النفط مؤخرا باتت الصناديق الخليجية تتعرض للمزيد من الضغوط، واصبحت تحت مجهر الرأي العام اكثر من اي وقت مضى، والذي اصبح اكثر حساسية في مواجهة تعرض بعض الموارد الوطنية للهدر، والمطالبة بالمزيد من الافصاح والشفافية.

وقد شكلت لذلك لجان تحقيق في كل من الكويت والبحرين للنظر في حالات تتعلق بمخالفات في كل من استثمارات الهيئة العامة للاستثمار وصندوق البحرين السيادي، الذي تقدر ثروته بـ11 مليار دولار، وعبر عن ذلك مؤخرا رئيس معهد صناديق الثروة السيادية ماكيل مادويل بقوله: "إذا ظلت أسعار النفط متدنية والأداء الاستثماري ضعيفا الى سلبيا فأتوقع مزيدا من التحقيقات البرلمانية".

وأضاف مادويل ان الضغوط قد تكون على أشدها في الكويت والبحرين، لكنها قد تزيد أيضا في السعودية ودول الخليج الأخرى، علما اننا لم نسمع من قبل بمثل هذا التشدد عندما كانت أسعار النفط ضعف ما هي عليه الآن، اذ لم تتعرض هذه الصناديق لتدقيق يذكر، حيث كانت الفوائض المالية من إيرادات النفط مرتفعة، لكن في ظل الأسعار الحالية فإن الدول الخليجية بصدد حقبة مالية أكثر تشددا، لا تستطيع فيها تجاهل ضغوط الرأي العام وحتى في الدول التي لا يوجد بها ضغط رأي عام واضح على صناديق الثروة السيادية فيبدو أن مزاجا أشد حرصا بدأ يترسخ.

من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت التحقيقات ستكشف عن مخالفات خطيرة، لكنها على الاقل قد تضع خطوة على الطريق الصحيح، وقد تشجع على الأقل الصناديق الخليجية الاخرى على المزيد من الحذر والعمل بشكل أكثر تحفظا لبعض الوقت، والتركيز على تحسين العوائد في الاجل القصير وعلى خفض التكاليف، حيث إن هذه الصناديق هدفها الاساسي المحافظة على الفائض من ايرادات الثروة النفطية، وهي بالاساس ذات اهداف تحوطية فإنه من الحكمة ان تدار بانضباطية عالية وحيادية كاملة من قبل اشخاص يتسمون بالنزاهة المالية ولهم خبرة في مجال الاستثمار، لعدم خوضها في استثمارات عالية المخاطر وتعريض رؤوس اموالها لخسائر.

وأيضا عالميا فإن هذه الصناديق موضع جدل كبير في وسائل الاعلام العالمية بشكل عام وبين رجال الاقتصاد الاميركيين بشكل خاص خاصة من ناحية تأثيرها على المصالح الاقتصادية الاميركية، ويذكر ان الخوف الشائع ليس من الصناديق الخليجية كما يعبر عن ذلك الباحث الاقتصادي الاميركي ادوين ترومان، إنما مصدر القلق يأتي من الصين والبرازيل اللتين تستخدمان صناديقهما واستثماراتهما لتوسيع كياناتهما الاقتصادية، إذ يرى انه يتعين على الولايات المتحدة الاستمرار في الضغط على الدول التي تملك هذه الصناديق لتبني افضل المعايير لتعزيز قيم الشفافية والمحاسبة بما يصب في مصلحة السياسة الخارجية الاميركية، لانه اصبح من الصعب فرض الحماية على اي اقتصاد او وضع عوائق في وجه الاستثمار الاجنبي في مواجهة التحديات العالمية نتيجة العولمة والازمات التي اصابت النظام المالي العالمي، خاصة ان الولايات المتحدة لا تستطيع عزل نفسها عن العالم.

اذن تمثل الصناديق السيادية حاليا أحد التحديات التي يواجهها النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين، وستظل كذلك في السنوات القليلة المقبلة، خاصة مع دخولها على خط اللعبة السياسية في الكثير من الدول لتحقيق اهداف تتماشى مع مصالح دولها السياسية والاقتصادية.

* دكتورة التمويل والاقتصاد

في الجامعة الأميركية بالكويت

back to top