حَجَّبْنا الأمة... ونزعنا منها الرحمة!

نشر في 28-05-2015
آخر تحديث 28-05-2015 | 00:01
 عبدالمحسن جمعة في بداية ثمانينيات القرن الماضي كانت ساحات الجامعات العربية وخاصة في الكويت تتردد في أرجائها خطابات النصر الأصولية بسبب زحف الحجاب واللحية على رؤوس الطالبات ووجوه الطلبة وزهواً كذلك بسيطرتهم على الاتحادات الطلابية والجمعيات العلمية، في حين كانت تتزاحم سيارات آباء وأمهات الأغرار عصراً أمام مقرات الجمعيات الدينية لإيصال أبنائهم إلى دوراتهم ومعسكراتهم الدينية، وأفرع البنوك الإسلامية وشركاتها تتمدد كجذور "الكونوكاربس" الاندفاعية، وكانت الحكومات الخليجية وبعض العربية في قمة سعادتها لانحسار التيارات الديمقراطية والمدنية والقومية أمام المد الإسلامي السياسي- الاجتماعي.

 لم يكن مشروعهم الذي يصرحون به سوى خليط من أمنيات عن عهد دولة الخلافة الراشدة الذي لم يدم أكثر من 29 عاماً في المدينة المنورة بظروف استثنائية في تلك الحقبة لن تتوفر مجدداً لوجود صحابة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، إذ إن كل من تولى الخلافة حينئذ كان من المبشرين بالجنة.

وكان رواد المشروع الأصولي من الإخوان المسلمين والسلف يروجون لما يسمى بالاقتصاد الإسلامي فتأسست بنوكهم وشركاتهم لتزيد المضاربات في الأراضي والعقارات والسلع، وترفع أسعارها، وها هي شركاتهم في البورصة الأكبر خسارة والأقل سعراً والأكثر تلاعباً بها، وبأموال المستثمرين، ولم نرَ مشروعاً منتجاً أو تطبيقاً لاختراع إسلامي أو عربي تبنته مؤسسة مالية إسلامية صناعةً وإنتاجاً.

وأخذ الغرب يشيد بذلك النظام المصرفي لقدرتهم على جمع الأموال بشعارات دينية حتى يستقطبهم إلى أراضيه بالأموال الضخمة التي يجمعونها، وفي الواقع عند وقوع الأزمات المالية الكبرى يكونون أول المتضررين وغير متميزين عن الاقتصاد الذي يصفونه بالربوية والقصور!

وعندما كانوا يُسألون عن نموذج لدولة إسلامية حديثة لم يكن لديهم جواب، بل إن نتيجة التجربة في السودان هي تجزئته، وفي أفغانستان تدميرها، والممارسات الأصولية في الخليج خلقت "القاعدة" و"داعش"، وتجربة الإخوان في مصر كانت على وشك أن توقع حرباً طائفية وتفتت الدولة، أما النموذج التركي فإن أهم ضمانات نشأته ووجوده هو النظام العلماني للدولة الذي وجد فيه، فرغم ما يطلق عن وجود حكومة ذات طابع إسلامي فإن طبيعة الحياة في المدن التركية لا تختلف عن أي مدينة أوروبية، بل إنني وجدت صعوبة بالغة قبل عامين في رمضان في الصيام في مدينة إسطنبول بسبب المطاعم والشراب المتناثر طوال نهار رمضان وجميع المظاهر التي يصفها الأصوليون بالانفلات الأخلاقي هناك!

وعندما داهن الأصوليون الحكومات العربية وقدموا الخدمات إليها مكنتهم من التربية والإعلام فشحنوها بكل مواد التطرف والغلو، وفتحوا التراث ليخرجوا منه كل ما نريد أن ننساه من خلافات مذهبية ورؤى متخلفة لا تتماشى مع فطرة البشر من قتل وسبي وإرضاع الكبير والمفاخذة...إلخ، وحولوا رمضان من حالة روحانية إلى بكائيات في العشر الأواخر ونواح تزرع في الناشئة نوازع بأن الحياة هي معصية دائمة وأقرب الطرق إلى الفوز هي الشهادة للذهاب مباشرة إلى الجنة.

فقد عشنا رمضان في سنوات العفوية والإيمان الفطري، وكنا نذهب إلى صلوات القيام والتراويح ونحيي العشر الأواخر، ولم يكن هناك شيخ أو مقرئ يؤم الناس ويلحن بالقراءة ويبكي وينوح والناس من ورائه تفعل كذلك، ويتصدر ذلك المشهد البدعة شاشات التلفزيون والإذاعات، ليخضع الأطفال والمراهقون لحالة غسْل ذهني من قيمة الحياة إلى مرحلة أخرى يجب أن يجدها للوصول إلى الجنة! ولم تكن في ذلك الزمان العمرة رحلة سياحية منذ الصغر تفقد هيبة وجلالة تلك الرحلة الإيمانية العظيمة قيمتها التي أصبحت مقصداً في "الويك إند" للفرد منذ طفولته!

وفوجئنا في قمة وهج الأصولية وسيطرتها وفي بداية الألفية الحالية، بوقوع أحداث تفجيرات 11 سبتمبر وممارسات طالبان و"القاعدة"، وبدل أن نواجه ذلك بتغيير شامل، أصبحت الأمة الإسلامية (السنية) في حالة نكران، وبدأت بمحاربة التطرف والدعوة للوسطية عبر نفس الحركات الأصولية التي زرعت التطرف في المناهج ووسائل الإعلام! في مشهد عبثي ومضحك مُبْكٍ، بل إن الأنظمة العربية وخاصة بعض الخليجية منها لم تستطع أن تفك تحالفاتها مع القوى السياسية الدينية، لأنه أصبح تحالفاً وجودياً لا يمكن الفكاك منه.

أما إيران فكانت تمثل الوجه الأصولي الآخر، ولكن العالم وتحديداً الولايات المتحدة وأوروبا وجد إمكانية التفاهم مع طهران على مصالحه لعلمه بأن المشروع الأصولي الإيراني ذو بعد قومي فارسي مغلف بطابع ديني يمكن المساومة معه، في المقابل فإن سقوط الدولة المدنية العربية فتح المجال لاختراق هذه الأمة وتمزيقها بخلافاتها المذهبية والعرقية والمناطقية الممتدة منذ 1350 سنة، وأدى إلى ظهور الرحمة المنزوعة من الهمجي الداعشي الذي يفجر في القديح ويذبح بسكينه، وحقيقة فإنه لا يذبح أسيراً له فقط بل إنه يذبح أمته كلها ويهدم تراثها وتاريخها، فهنيئاً لأمة تحَجَّبْت والتحت، ولكن نزعت الرحمة والبصيرة من قلوب أبنائها وعقولهم.

back to top