نموذج جديد لتمويل التنمية

نشر في 28-05-2015
آخر تحديث 28-05-2015 | 00:01
إن القوة والثروة لا تنتشران عبر النظام الدولي فحسب، بل أيضاً داخل الدول، حيث باتت الشركات، والمؤسسات، والأفراد الأثرياء، وصناديق الاستثمار الخاصة، ومنظمات المجتمع المدني، ومؤخراً الحكومات البلدية، تلعب جميعها دوراً في التنمية.
 بروجيكت سنديكيت ينظر قطاع عريض من المراقبين إلى نجاح الصين في تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية باعتباره إخفاقاً تاماً للدبلوماسية الأميركية، فبعد محاولة إثناء جميع حلفاء الولايات المتحدة عن الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، شاهدت إدارة الرئيس باراك أوباما بريطانيا العظمى وهي تقود مجموعة من بلدان أوروبا الغربية، التي تبعتها أستراليا وكوريا الجنوبية، إلى الانضمام إلى عضوية البنك.

والأسوأ من ذلك هو أن إدارة أوباما وجدت نفسها في موقف من يحاول عرقلة الجهود الصينية الرامية إلى إنشاء مؤسسة مالية إقليمية بعد عجز الولايات المتحدة ذاتها عن الوفاء بوعودها المتمثلة بإعطاء الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة دوراً أكبر في إدارة صندوق النقد الدولي، فقد دفعت الإدارة الأميركية البلدان الأوروبية إلى قبول التمثيل الأقل في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي وزيادة حصة الصين التصويتية من 3.65% إلى 6.07%، ولكنها عجزت رغم ذلك عن الفوز بتأييد الكونغرس الأميركي لهذه الزيادة، ومرة أخرى، وجد أوباما نفسه في وضع حرج في الخارج بسبب الشلل السياسي في الداخل.

من منظور جيوسياسي، تُعَد مبادرة البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية مناورة جريئة وناجحة، والتي وصفها إيلي راتنر، كبير زملاء مركز الأمن الأميركي الجديد، بأنها "منافسة مؤسسية في الحوكمة العالمية والتي بدأت رسمياً الآن"، فسوف تسيطر الصين على نصف حصص التصويت في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، الذي بلغ تمويله الرأسمالي الأولي مليار دولار أميركي، وما لم تتمكن القوى الغربية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة من تحديث القواعد والمؤسسات التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب، فإنها سوف تجد نفسها في عالَم تحكمه أنظمة إقليمية متنافسة عديدة بل حتى مؤسسات متعددة الأطراف متبارزة.

من منظور البلدان النامية التي تحتاج إلى رأس المال، ربما يبدو تنافس البنوك أمراً طيبا، فمن دواعي سرور حكومات البلدان النامية أن تتمكن من الاقتراض من دون الشروط المزعجة التي تربطها بقروضها عادة مؤسسات مثل البنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية القائمة حاليا. والآن سوف تحصل منطقة شرق آسيا على قدر أكبر من نحو 8 تريليونات دولار تشير تقديرات بنك التنمية الآسيوي إلى أن المنطقة سوف تحتاج إليها حتى تتمكن من النمو حتى عام 2020.

ولكن ماذا عن التأثير على التنمية الفعلية، أو قدرة المواطنين الأفراد في البلدان الفقيرة على مزاولة حياة أكثر ثراءً وصحة وأفضل تعليما؟ الواقع أن شروط البنك الدولي تتضمن غالباً فقرات خاصة بحقوق الإنسان وتدابير حماية البيئة التي من شأنها أن تزيد من الصعوبات التي قد تواجهها الحكومات العازمة على تحقيق النمو بأي ثمن إذا لجأت إلى القسوة في التعامل مع مواطنيها وتجاهل حقوقهم. صحيح أن المنافسة أمر جيد، ولكن المنافسة غير المنظمة تؤدي في النهاية إلى سباق إلى القاع.

الواقع أن إنشاء الصين للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية يُعَد أحدث دليل على تحرك أوسع بعيداً عن الرأي القائل إن المساعدات للدول النامية من الأفضل أن تقدم في هيئة تحويلات كبيرة من حكومة إلى حكومة. إن القوة والثروة لا تنتشران عبر النظام الدولي فحسب، بل أيضاً داخل الدول، حيث باتت الشركات، والمؤسسات، والأفراد الأثرياء، وصناديق الاستثمار الخاصة، ومنظمات المجتمع المدني، ومؤخراً الحكومات البلدية، تلعب جميعها دوراً في التنمية.

ولنتأمل هنا تقرير مراجعة الدبلوماسية والتنمية الذي يُعَد كل أربع سنوات، والذي أصدرته في الشهر الماضي وكالة التنمية الدولية التابعة لوزارة الخارجية الأميركية. يؤكد التقرير "نموذجا جديدا للتنمية" يقوم على إدراك حقيقة مفادها أن "الولايات المتحدة واحدة من لاعبين عديدين، وأن البلدان تحتاج إلى الاستثمار من مصادر متعددة حتى تتمكن من تحقيق النمو الاقتصادي المستدام والشامل"، وتجمع مبادرات مثل أطعموا المستقبل، ومختبر التنمية العالمي الأميركي، والطاقة في إفريقيا، وبين "الملكية المحلية، والاستثمار الخاص، والإبداع، والشراكات بين أطراف متعددة من أصحاب المصالح، والمساءلة المتبادلة".

ويذهب هذا النموذج إلى ما هو أبعد من شعار "الشراكة بين القطاعين العام والخاص"، فهو يستفيد بشكل حقيقي من مصادر متعددة للمال والخبرة في تحالفات واسعة تسعى إلى تحقيق الهدف الأكبر نفسه.

على سبيل المثال، تضم مبادرة "الطاقة في إفريقيا" ست وكالات حكومية أميركية: شركة الاستثمار الخاص عبر البحار، وبنك التصدير والاستيراد الأميركي، ومؤسسة التجارة والتنمية الأميركية، ومؤسسة تحدي الألفية، ومؤسسة التنمية الأميركية الإفريقية. ومعاً تلتزم هذه الوكالات بتقديم أكثر من 7 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة للتمويل، والائتمان التجاري، والتأمين، والمنح المقدمة للشركات الصغيرة، والدعم الحكومي المباشر لقطاع الطاقة في ستة بلدان شريكة. وسوف تستفيد هذه الاستثمارات من المليارات في هيئة التزامات من جانب القطاع الخاص، بدءاً بأكثر من 9 مليارات دولار من مجموعة من الشركات، بما في ذلك جنرال إلكتريك.

تتبنى مبادرة الطاقة في إفريقيا "نهجاً يركز على الصفقات"، وينشئ فِرَقاً تعمل على مواءمة الحوافز بين "الحكومات المضيفة، والقطاع الخاص، والجهات المانحة"، وخلافاً للتحويلات الكبيرة من حكومة إلى حكومة، والتي قد تنتهي في كثير من الأحيان إلى جيوب المسؤولين، فإن الغرض الرئيسي هنا يتلخص في ضمان إتمام الصفقات فعلياً وتدفق الاستثمارات إلى وجهتها المقصودة.

ويتضح هذا التركيز العملي على النتائج بنفس القدر في تأكيد تقرير مراجعة الدبلوماسية والتنمية على العمل مع رؤساء البلديات في مختلف أنحاء العالم بشأن قضايا مثل تغير المناخ. إن استهداف المسؤولين الحكوميين بالحوافز والقدرة على إحداث الفارق في تنظيم الانبعاثات على الأرض يحقق النتائج بسرعة أكبر كثيراً من المفاوضات على معاهدة دولية.

سوف يقول المشككون إن الولايات المتحدة تحول الضرورة إلى فضيلة، فالحكومة الفدرالية لم تعد تملك المليارات من الدولارات لتوزيعها على حكومات أجنبية، في حين تحتل الصين موقعاً أكثر مركزية، فضلاً عن كونها غير مدينة بنفس القدر لدافعي الضرائب. وبالتالي فإن الصين والدول المشاركة لها في البنك الآسيوية للاستثمار في البنية الأساسية قادرة على بناء المشاريع الضخمة- الطرق والجسور والسدود والسكك الحديدية والموانئ- التي من شأنها أن تعمل بلا أدنى شك على دفع الاقتصاد، والتي يلاحظها المواطنون بوضوح، والتي لم تعد لدى الولايات المتحدة ولا البنك الدولي الرغبة في تمويلها، فقد ولت أيام خطة مارشال منذ أمد بعيد.

لا يخلو هذا الانتقاد من بعض الحقيقة، ولكن في الأمد الأبعد، يُعَد نموذج التنمية الأميركي الجديد في واقع الأمر أكثر مرونة واستدامة من نموذج التحويل القديم من حكومة إلى حكومة. إن المجتمعات التي تتمتع بقطاعات مزدهرة متحررة من سيطرة الحكومة هي وحدها القادرة على المشاركة في هذا التحالف الواسع من الجهات الفاعلة العامة والخاصة والمدنية، وفي المقابل من الأرجح أن تكون الشركات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني أكثر ميلاً إلى صياغة علاقات دائمة مع نظيراتها في المجتمعات المحلية في البلدان المضيفة، وهي العلاقات التي سوف تصمد في مواجهة الحكومات المتغيرة والاضطرابات المالية.

في عموم الأمر، يشكل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية تطوراً إيجابيا، ذلك أن تخصيص المزيد من المال لمساعدة البلدان الفقيرة في التحول إلى بلدان ذات دخل متوسط ومساعدة البلدان ذات الدخل المتوسط في توفير وسائل النقل، والطاقة، والاتصالات لشعوبها أمر طيب بكل تأكيد، ولكن الطريقة الآسيوية ليست السبيل الوحيد.

* آن ماري سلوتر | Anne-Marie Slaughter ، رئيسة مؤسسة أميركا الجديدة ومديرتها التنفيذية، وهي مؤلفة كتاب "الفكرة التي هي أميركا: الحفاظ على الإيمان بقيمنا في عالَم خطر".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top