الحرية بعد 12 سنة في غوانتانامو

نشر في 27-05-2015 | 00:02
آخر تحديث 27-05-2015 | 00:02
سار جهاد دياب على عكازين عندما كان يخرج من منزله الجديد في كالي مالدونادو، في مونتيفيديو، الأوروغواي، على بُعد 12 ألف كلم من بلده الأم سورية. يقول دياب إنه يريد التكلم في الخارج، إذ لا داعي كي يسمع زملاؤه في السكن كل شيء: زملاؤه مجموعة من العرب أُطلق سراحهم حديثاً من معتقل غوانتانامو، مثل دياب، وقد بدأوا يخطون أولى الخطوات على طريق الحرية في هذا البلد البعيد.

خلال أول لقاء لنا منذ بضعة أيام، حدد دياب بعض الشروط كي يوافق على التكلم عما يشعر به، بعد 12 سنة في جحيم غوانتانامو. فقال إنه يحتاج إلى كرسي متحرك، على أن يكون كهربائياً، وإلى حاسوب محمول وكاميرا وهاتف {آي فون 6} لأنه كان يخطط لإطلاق حملة لتحرير السجناء الذين يقبعون حتى الآن في تلك البقعة السوداء من كوبا. وقد أكد أيضاً هرب أقارب له من الحرب في سورية وقال إنه سيتكلم حالما تضمن ألمانيا معالجتهم في مستشفى شاريتيه الجامعي في برلين.

يتقاسم دياب مع خمسة سجناء سابقين في معتقل غوانتانامو منزلاً واحداً في عاصمة الأوروغواي، مونتيفيديو، منذ ستة أشهر. قد يتوقف قرار إقفال المعتقل الأميركي المخطَّط له على نتيجة هذه التجربة. التفاصيل من {شبيغل}.

يبلغ جهاد دياب 43 عاماً فقط لكن سبق أن تسلل الشيب إلى لحيته وشعره الأجعد. طوال ثماني سنوات، أقدم في مناسبات متكررة على الإضراب عن الطعام في غوانتانامو لأن الأميركيين رفضوا أن يخبروه بالتهمة الموجهة ضده. قيل إن دياب كان جزءاً من خلية «القاعدة» في أفغانستان، لكن لم تتم إدانته مطلقاً. أصرّ على رفض الأكل بعد الإعلان عن براءته رسمياً في عام 2009 لأنه ما عاد يستطيع تحمّل سنوات الانتظار قبل إطلاق سراحه.

يقول دياب: {فكّرتُ بالموضوع. انسوا ما قلته. بدل ذلك، دبروا لي موعداً مع ديلما، رئيسة البرازيل. أريد أن أطلب منها أن تقبل باستقبال عدد من إخوتي}.

في نهاية شهر مارس، كانت قد مرت أربعة أشهر تقريباً على وجود الرجال في هذا المنزل: جهاد الذي يبدو دخيلاً على المكان؛ وعلي الذي ينتظر الخضوع لجراحة في عينه اليمنى التي فقد النظر فيها بعد تلقي صدمات كهربائية لا تُعَدّ ولا تُحصى؛ ومحمد الذي أراد أن يدرس الفيزياء لكن بالكاد يستطيع اليوم تذكّر رقمين. ثمة ثلاثة رجال آخرين: أحمد وعبدول وعمر، وهو أصغرهم، وقد بلل بذلته البرتقالية خلال الرحلة إلى الأوروغواي لأن الحراس لم يسمحوا له باستعمال المرحاض. إلى أن هبطت الطائرة في مونتيفيديو، أُجبروا على وضع قبعات سوداء على رؤوسهم. وحين وصلوا إلى مطار مونتيفيديو، استلموا وثائق تذكر {عدم وجود أي معلومات تشير إلى تورطهم في نشاطات إرهابية ضد الولايات المتحدة}.

وقّع كليف سلون على تلك الملاحظة القصيرة، وهو المبعوث الخاص للحكومة الأميركية وقد تولى البحث عن البلدان التي يمكن أن تستقبل المعتقلين بعد إطلاق سراحهم من غوانتانامو. لكن لا تشمل تلك الملاحظة أي تعبير عن الندم أو أي اعتذار.

ومن بين جميع الاحتمالات، وقع الاختيار على الأوروغواي، بلد صغير يقتصر على ثلاثة ملايين نسمة وهو يقع بين الأرجنتين والبرازيل.

ما من مسجد واحد في هذا البلد ويعيش أقل من مئة مسلم في مونتيفيديو. قبل وصول إخوتهم المسلمين من غوانتانامو، تساءل كثيرون عما كان هؤلاء الرجال يخططون له حين وقعوا بيد الأميركيين على الحدود الأفغانية الباكستانية بعد اعتداءات 11 سبتمبر الإرهابية. لا تتمتع الأوروغواي بخبرة واسعة في مجال إيواء اللاجئين، وهي تفتقر أصلاً إلى برنامج فاعل لإعادة دمج المحكومين فيها داخل المجتمع بعد إطلاق سراحهم من السجن.

أراد السياسيون المعارضون أن يعرفوا ما يدفع الأوروغواي إلى مساعدة الرئيس الأميركي باراك أوباما على حلّ مشاكله.

اليساري خوسيه موخيكا عضو سابق في عصابة ومن المعروف أنه يسيء الكلام عن {الإمبراطورية في الشمال}. يعيش في مزرعة خارج المدينة ويقود سيارة {بيتل} زرقاء قديمة. ما الذي كان يفكر فيه حين أعلن، خلال الأسابيع الأخيرة من عهده الرئيس، أنه الزعيم الأميركي الجنوبي الوحيد الذي يبدي استعداده لاستقبال العرب من معتقل غوانتانامو؟ وما سبب القبول باستقبال ستة رجال بينما قبلت بلدان أخرى مثل السويد شخصاً واحداً فقط؟

موخيكا: الرئيس

 

بدا وكأنّ كل واحد من الرجال لديه مقاربة مختلفة في التعاطي مع الحرية التي استعادها حديثاً. تتمحور أفكار جهاد عموماً حول الماضي، بينما يحاول عمر تخيّل المستقبل ولكنه يجد صعوبة في الانطلاق. لهذا السبب على الأرجح، هم يشعرون أحياناً وكأن الأوروغواي هي مجرّد سجن آخر لكن بظروف أفضل: إنها فجوة زمنية حيث يبدو الحاضر شبه غائب.

قاد الرئيس موخيكا سيارته القديمة إلى كالي مالدونادو. لقد جاء وحده، برفقة مترجم فوري فقط. جلس موخيكا على كنبة وتمتم أنه لم يأتِ باعتباره الرئيس بل بصفته أباً وصديقاً وشخصاً أمضى بدوره فترة في السجن.

قبع موخيكا في السجن طوال 15 سنة تقريباً، وقد أمضى معظم تلك المدة في عزلة تامة، لذا هو يعرف ما يتحدث عنه كما يقول. ثم ألقى خطاباً فردياً طويلاً.

فتحدث عن المهاجرين الذين زرعوا الأرض بأيديهم وعن الشعب المثابر الذي خاض، مثل والده، رحلة طويلة لتجميع ثروته في بلد أجنبي. يقول موخيكا إنه شخصياً استعاد معنى حياته من خلال العمل في الحقول. كان كلامه عبارة عن توبيخ ضمني وبدت رسالته واضحة: توقفوا عن التذمر من كل شيء!

في صباح أحد أيام السبت، كان موخيكا يجلس على كرسي بلاستيكي. فنهض بعد فترة وغادر من دون التفوه بكلمة. ثم عاد بعد بضع دقائق وهو يقود جرّافة نحو مبنى مسقوف حيث أطفأ المحرك وركنها في الخارج، بالقرب من الحقل. إنه العرض النموذجي الذي قدّمه موخيكا أمام الصحفيين الذين حضروا لرؤيته. ثم لوّح لنا كي نتبعه.

فأدار وجهه المجعّد وكشف عن ابتسامة بلا أسنان. يقول: {بكل صراحة، لا أعرف ما يتذمر العرب بشأنه. ندفع لهم 600 دولار في الشهر. يحصل واحد من كل ستة أشخاص في الأوروغواي على المبلغ نفسه ومعظمهم يعملون}.

يقول موخيكا إنه يفهم أن الوضعين مختلفان. على عكس المعتقلين السابقين في غوانتانامو، تمكّن من الاتكال على لغته وزوجته وسياسته في تلك الفترة. لكنّ أهم ما تعلّمه في السجن هو أن التوقعات التي نحملها عن الحرية تكون مبالغاً فيها. كل ما كان يحتاج إليه موخيكا قطعة أرض حيث يستطيع زرع الخضروات. حتى هذا اليوم، حين يتعب من التواجد وسط الناس، ينسحب ويتجه إلى جرّافته.

حين سُئل إذا كان جلب العرب إلى البلد غلطة، أجاب بالنفي القاطع: {في النهاية، لم تبرز أي أدلة ضدهم. هم كانوا رهائن للنظام، كما كنا نحن سابقاً. حين قابلتُ أوباما منذ سنة، شعرتُ بأن نيّته إغلاق غوانتانامو صادقة}.

تقرب منه الأميركيون في البداية بطريقة رسمية في يناير 2014، فتلقى اتصالاً من نائب الرئيس جو بايدن. ثم تلقى بعد فترة قصيرة زيارة من كليف سلون فأخبره بأن واشنطن تشترط ألا يتمكن المعتقلون من مغادرة منزلهم الجديد طوال سنتين. يقول موخيكا إنه رفض مطالب الأميركيين. فتفاوض مع واشنطن وأخذ وعداً بأن تفتح الولايات المتحدة سوقها أمام الفاكهة الحمضية التي تنتجها الأوروغواي. وقد أراد أيضاً أن يحصل على موافقة الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، وهو رفيق قديم له من أيام حرب العصابات.

بعد عشرة أيام على ترحيب موخيكا بالعرب في المطار، بدأ الجليد يذوب بين واشنطن وهافانا. أطلقت كوبا سراح سجين أميركي وأفرج أوباما عن ثلاثة عملاء من كوبا كانوا معتقلين في الولايات المتحدة منذ سنوات. 

لكن تأخر إطلاق سراح المعتقلين لسبعة أشهر إضافية فيما كان الكونغرس الأميركي يتجادل حول صوابية المصادقة على ذلك القرار. ثم بدأت الحملة الانتخابية لاختيار خلف موخيكا في الأوروغواي. طلب تاباري فاسكيز (المرشح الذي يمثل حزب موخيكا) ألا يثقل موخيكا حملته بمسألة قدوم العرب من غوانتانامو.

يقول غامبيرا، مسؤول في الاتحاد، إنهم اضطروا إلى الاستعداد لوصول المعتقلين خلال أقل من شهر. إنه سلوك نموذجي من موخيكا بحسب رأيه لأنه شخص يفضل التفكير بالمشهد العام بدل الانشغال بالتفاصيل كما يفعل علماء النفس والمحللون.

في أبريل 2015، أعلن الرئيس فاسكيز أنه ينوي طلب مساعدة مالية من أوباما. في تشيلي، يكثر الحديث اليوم عن تراجع اهتمام الأوروغواي باستقبال المعتقلين بعد الإفراج عنهم. كانت خطة كليف سلون توشك على الانهيار. من السذاجة على الأرجح أن يصدّق أحد بأن أشخاصاً مثل عمر أو جهاد يمكن التخلص منهم بهدوء في بلد مثل الأوروغواي.

عمر: الصامت

 

يقول عمر: {لا يدرك جهاد أنه يورطنا جميعاً في حملاته. الناس يتعاملون معنا وكأننا كيان واحد. يظنون أننا متمردون وجاحدون مثله. سبق وحاولنا التحدث معه لكن لا جدوى من ذلك. لا أعلم ما يفكر به. حتى في غوانتانامو، حين كنا نتجول في الساحة، نادراً ما كنا نتكلم مع بعضنا}.

عبد الهادي عمر فرج هو رجل هادئ عمره 34 عاماً وقد نجح بطريقةٍ ما في الحفاظ على ابتسامته. على عكس جهاد، لا يفرض عمر أي شروط. بل إنه مسرور بإيجاد رفاق له.

كان عمر يتمدد على السرير في غرفة الفندق التي انتقل إليها منذ بضعة أيام. يقول إنه ما عاد يستطيع تحمّل التقرّب من أحد: إنها المعاناة الخفية التي ألقت بثقلها على المنزل المشترك في كالي مالدونادو. أراد أن يكون له حمّامه الخاص أيضاً. يقع فندق {ميترو} الذي يتحمّل الاتحاد نفقاته على بُعد بضعة مباني من المنزل في كالي مالدونادو. أقام محمد أيضاً في الفندق حين وصل إلى مونتيفيديو، لكنه لم يتحمّل أن يتواجد وحده لفترة طويلة. يعلم عمر أنه يحتاج إلى إعالة نفسه لأن الحكومة ستتوقف عن تقديم الراتب الشهري الذي تبلغ قيمته 600 دولار بعد سنتين.

نهض عمر وسأل: «هل تعلمون إذا كانوا يبحثون هنا عن أشخاص يجيدون ذبح خروف؟».

في رسالته إلى شعب الأوروغواي، كتب عمر أنه غادر المدرسة بعد الصف السادس. وخلال السنوات التي سبقت رحيله من سورية، عمل مع لحّام وقد علّمه طريقة الذبح الحلال. كان يأمل أن يتصل به أحد، لكن يبدو أن مهاراته ليست مطلوبة في الأوروغواي: {ربما يجب أن أتعلم القيادة. يمكن أن أصبح سائق أجرة}.

لم يسمع أي أخبار من أهله منذ 51 يوماً. لقد تدمرت الخطوط الهاتفية في المدينة التي يعيشون فيها ولا أحد منهم يستعمل برنامج {سكايب} ولا يستطيع عمر التواصل مع أهله إلا عبر الاتصال بهاتف والده الخلوي. يضيف عمر: {لم يكن يعلم أنني ما زلت حياً}.

كان عمر يبلغ 19 عاماً في ربيع عام 2001، حين غادر مدينة حماة السورية لتجنب الخدمة العسكرية. كان يأمل أن يكسب القليل من المال في الخارج كي يتمكَّن من استعماله لاحقاً لتأسيس عائلة. ذهب عمر إلى طهران حيث عاش مع لحّام. لكن بما أنه كان سنياً، عامله الإيرانيون بعدائية. فغادر إيران وقصد كابول، لكنه يعتبر هذه الخطوة أكبر غلطة ارتكبها على الإطلاق. كان عمر يرتّب صناديق البرتقال في متجر بقالة حين اخترقت طائرتان برجَي مركز التجارة العالمي في نيويورك تنفيذاً لخطة {القاعدة}... هكذا تغير العالم فجأةً.

بدأت الطائرات العسكرية الأميركية تظهر في سماء كابول. ودخل جنود مع التحالف الأفغاني الشمالي إلى كابول حيث طاردوا العرب الذين قَدِموا إلى البلد بحسب رأيهم لسبب واحد: لا شك في أنهم متورطون بطريقةٍ ما باعتداءات 11 سبتمبر. خلال أسابيع، تحوَّلت كابول إلى مكانٍ لا يمكن أن يعيش فيه عمر بأمان.

فاستقلّ سيارة أجرة باتجاه باكستان ولم يكن يدرك أن الأميركيين كانوا يدفعون أموالاً طائلة الآن مقابل القبض على رجال مثله. فاعتُقل على الحدود وسيق إلى غوانتانامو بعد ستة أشهر. حين أدلى بإفادته أمام السلطات الأميركية، تعاملوا مع أقواله وكأنها {مؤامرة نموذجية من تخطيط القاعدة}. بات يُعتبر في تلك المرحلة تهديداً على أمن الولايات المتحدة.

يقول عمر إنه نسي كم مرة سُئل فيها عن علاقته بزعيم {القاعدة} أسامة بن لادن، وكم مرة صلى فيها، وما إذا كان النزل الذي أقام فيه في كابول عبارة عن خلية إرهابية.

حين سُئل عمر متى بدأ يصدق أنّ الرئيس موخيكا جدي بشأن قبوله كلاجئ، ضحك بسخرية وقال: {حين هبطتُ في هذا البلد. كانت هذه الطريقة شائعة في غوانتانامو. كانوا يأتون أحياناً إلى زنزانتنا بملابس مدنية ويقولون لنا: {سنفرج عنكم الآن}. ثم يأخذوننا إلى مدرج طائرات لكنهم يتجولون بنا بضع مرات حول الجزيرة}.

محمد: الرجل الذي خاب أمله

 

في إحدى تلك الأمسيات، كان جهاد يجلس أمام الحاسوب في المنزل، وبدا أشبه بشبح، وراح ينظر إلى صور من سجن سوري وهي تعرض جثثاً مغطاة بالدم وحراساً يبتسمون للكاميرا. تذكّره تلك الصور برمز آخر: {تشبه الصور من سجن أبو غريب} بحسب قول جهاد الذي يظن أن أحد ضحايا التعذيب هو زوج ابنته.

بدا جهاد في عالم آخر. لم يأخذ أي أدوية منومة منذ أيام وبات يرفض رؤية الأطباء وقد سحب طلبه بجمع شمل عائلته. هو يرفض كل شيء مجدداً، كما فعل في غوانتانامو، حيث كان رفض الأكل الطريقة الوحيدة للاحتجاج على الظروف السائدة هناك. يبدو أنه لم يكن مستعداً لمواجهة الواقع.

في ذلك اليوم، كان علي يضع ضمادة سميكة على عينه اليمنى حيث أجرى له طبيب كوبيّ جراحة.

يقول عمر الذي عاد إلى المنزل منذ بضعة أيام، بعد أن توقف الاتحاد عن دفع تكاليف الفندق، إنه لم يقبّل امرأة يوماً وأن هذه الرغبة تتآكله. يظن أن المرأة ستساعده على نسيان ما حدث له: {لكن أين يجب أن أبحث عنها؟ أي امرأة تحتاج إلى رجل مثلي؟}.

كان محمد موجوداً في غرفته حيث يمضي معظم وقته في السرير أمام حاسوبه المحمول. لا يهتمّ بمقابلة زوار من ألمانيا.

في عام 2010، حين كانت ألمانيا تتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن استقبال ثلاثة معتقلين، كان محمد أحد المرشحين. قابله ممثلون عن الحكومة الألمانية مرات عدة لدرجة أن محمد ظن أنهم جديون بشأنه. حتى إنه تعلّم اللغة الألمانية عبر قاموس أعطاه إياه محاميه.

لكن ها هو يجلس الآن في زاوية بعيدة من العالم ويدردش أحياناً مع سجين سابق يعيش الآن في ألمانيا، على نهر الراين. يقول محمد: {هو يبلي حسناً ويجني مدخولاً جيداً وتعيش عائلته معه في منزله}. يتساءل أحياناً عن طبيعة الحياة التي كان سيعيشها لو أنه انتقل إلى ذلك المنزل على نهر الراين.

الحرية ليست قيمة بحد ذاتها، لا سيما بعد 12 سنة من السجن، ولا ينطبق ذلك على محمد وحده. بعد ستة أشهر على وصول هؤلاء الرجال الستة إلى منزلهم الجديد، تلاشت بهجة الحرية. فقد انهارت توقعات كثيرة حين اصطدمت بالواقع. وسرعان ما تحولت خيبة الأمل إلى غضب عارم.

ما كانت الولايات المتحدة تخشاه حصل في 24 أبريل: نفّذ جهاد تهديده. فقد توجه مع المعتقلين السابقين الآخرين من المنزل في كالي مالدونادو إلى السفارة الأميركية التي تشبه القلعة المحصّنة وفتحوا سجادات الصلاة أمام جدار مرتفع يحيط بالمبنى. أخبر جهاد الصحفيين المجتمعين هناك بأن النوايا الحسنة لا تكفيهم وذكّرهم بالحقوق التي يملكونها وطلب مقابلة السفير. فقيل لهم أن يقدموا طلبهم عبر القنوات الرسمية.

منذ ذلك الحين، هم يخيّمون أمام السفارة ويتفاوضون، ليس مع الأميركيين، بل مع حكومة الأوروغواي الجديدة ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. يريدون الحصول على أموال ومساعدات إضافية لعائلاتهم. بالنسبة إليهم، تشكّل مطالبهم الثمن العادل مقابل 12 سنة خسروها من حياتهم.

كليف سلون: الوسيط

 

جذبت هذه القضية الأنظار في الولايات المتحدة أيضاً. إذا نفذ جهاد تهديده، قد يصبح قرار إغلاق معتقل غوانتانامو أكثر تعقيداً مما هو عليه.

حين شغل كليف سلون، ذلك المحامي الحذق في الخمسينات من عمره، منصب المبعوث الأميركي في السنوات الأخيرة، كان يسعى إلى تجنب دخول الرئيس أوباما إلى التاريخ باعتباره الشخص الذي خلف بوعوده. لكن استقال سلون بعد بضعة أيام من التوقيع على أوراق الإفراج عن جهاد، وقد حصل ذلك على ما يبدو لأن الوضع لم يكن يتطور بالسرعة التي أرادها.

كان معتقل غوانتانامو يشمل 166 معتقلاً حين تولى سلون منصبه في يوليو 2013. اليوم، بعد مرور سنتين تقريباً، تبقّى 122 سجيناً. لإغلاق معتقل غوانتانامو، يجب تخفيض ذلك العدد إلى أقل من 60 لأن الكلفة السنوية لكل معتقل سترتفع حينها إلى أكثر من 6 ملايين دولار، ما يجعل تبرير وجود المعتقل شبه مستحيل، على المستويين السياسي والاقتصادي.

في عام 2009، بعد فترة قصيرة من وصول أوباما إلى الرئاسة، أنشأ الأخير لجنة للتحقيق بقضايا جميع المعتقلين في غوانتانامو في تلك الفترة. خلال التحقيق، تمت تبرئة معظم السجناء استعداداً لإطلاق سراحهم. إنها الطريقة البيروقراطية للاعتراف بأن الولايات المتحدة كانت مخطئة للأسف.

يقول سلون: {نادراً ما قابلتُ شخصاً مبهراً بقدر الرئيس موخيكا}. حتى إنه اختار موخيكا بنفسه. كان سلون يعلم أن رئيس الأوروغواي، الذي كان عضواً في عصابة سابقاً، سُجن خلال السبعينات بسبب تورّطه في اعتداءات ضد الدكتاتورية العسكرية. حين أصبح رئيساً، أصدر قانوناً يبيح الإجهاض رغم رفض الكنيسة وشرّع استعمال الماريجوانا. يبدو أن موخيكا لم يكن شخصاً عقائدياً بل إنه كان متزناً بما يكفي كي لا يستسلم أمام أول موجة معارضة. كان يوشك على التحول إلى الرجل الذي سيفتح أبواب أميركا الجنوبية أمام معتقلي غوانتانامو.

جهاد: المشاغب

 

بعد الأيام الأربعة الأولى التي أمضاها الرجال الستة في المستشفى، انتقلوا إلى مبنى قديم مؤلف من طابقين يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر في كالي مالدونادو ويملكه اتحاد نقابة العمّال الذي طلب منه موخيكا أن يوفر الدعم للوافدين الجدد. قدم موظفو الاتحاد براداً جديداً للمطبخ وحاسوباً كي يوضع في المدخل. لكن حين قدموا لهم سندويشات جنبون وجبنة عند وصولهم، تفاجأوا حين امتنع العرب عن لمس الطعام. يقول فيرناندو غامبيرا، مدير العلاقات الدولية في الاتحاد (تقضي مهمّته الأساسية بالتواصل مع النقابات الأخرى في أميركا الجنوبية): {إنه لحم خنزير! لم نفكر بذلك}.

خلال الأيام القليلة الأولى، خيّم الصحافيون على الرصيف أمام المنزل. اجتهد الجميع للتكيف مع الوضع الجديد خلال تلك الأيام الأولى. دخل الجيران إلى المنزل عبر باب مفتوح لجلب الشاي ونباتات النعناع للرجال. كتب عمر رسالة إلى شعب الأوروغواي يعبّر فيها عن امتنانه الشديد للرئيس موخيكا. لكن تجاهل موظفو الاتحاد أول فاتورة هاتف، فقد بلغت فيها المكالمات الخارجية وحدها أكثر من 3340 دولاراً.

يقول جهاد: {أشعر أحياناً وكأنني سافرت من سجن إلى آخر}. كان والداه يملكان مطعماً في دمشق حيث تُوزَّع مئة طاولة في ظل أشجار ضخمة. كان يمضي فترات بعد الظهر هناك في صغره.

يضيف جهاد: {موخيكا وعدنا بجلب عائلاتنا إلى الأوروغواي. قال إننا سنتمكن من العيش في منزلنا الخاص لكن لم يتحقق شيء بعد. بل إنهم يقطعون عنا خط الهاتف ويقولون إن برنامج {سكايب} أقل كلفة. لماذا لا يطلبون من الولايات المتحدة أن تسدد لهم التكاليف؟}.

قدم جهاد، بعد وصوله بفترة قصيرة، طلباً لجمع شمل عائلته إلى سلطات الأوروغواي. إنه حق من حقوقه كلاجئ معترف به. يقول إنه خسر ابناً حين قصفت الطائرات المقاتلة التابعة لقوات الرئيس السوري بشار الأسد حيّه. أمضى أولاده الثلاثة الآخرون وقتاً كافياً وهم يكبرون وكأنهم نصف أيتام.

يضيف جهاد: {حان الوقت لفعل ذلك. ماذا عن ترتيب موعد لي مع ديلما؟ أو ربما تعرفون مخرجاً قد يهتم بتحويل قصتي إلى فيلم؟}.

قضية جهاد صعبة. يبدو مضطرباً في بعض الأحيان، وكأنه يحاول التعويض عن السنوات الاثنتي عشرة الماضية خلال بضعة أسابيع. لكنه في أحيان أخرى لا يغادر غرفته طوال أيام.

حين كشف حديثاً لصحيفة {واشنطن بوست} عن نيّته الإضراب عن الطعام أمام السفارة الأميركية ما لم تحصل عائلته على الإذن بزيارته قريباً، ساد استياء شديد حين قرر وزير خارجية الأوروغواي التحدث معه.

back to top