التأمُّل... الوجه الآخر

نشر في 24-05-2015 | 00:02
آخر تحديث 24-05-2015 | 00:02
No Image Caption
ارتعاش، رجفة، هلع، ارتباك، هلوسة، رعب، اكتئاب، هوس، اضطراب نفسي... إنه جزء من الآثار الجانبية التي يتحدث عنها ممارسو التأمل. هل فوجئتم؟
نحن فوجئنا قبلكم!
يُعتبر بعض التقنيات مثل التأمل التجاوزي والاسترخاء الذهني من الطرق التي تهدئ العقل وتخفف الألم والقلق، حتى أنها تستطيع تحويلك إلى شخص أكثر سعادة وتعاطفاً: إنه علاج طبيعي شامل وهو لا يعطي أي آثار معاكسة! لكن لم تتطور تقنيات التأمل التي تحمل جذوراً بوذية وهندوسية في الأصل لتحقيق السعادة والتخلص من الضغط النفسي. كيف؟ الإجابة لدى {نيوز ساينتسيت}.
كان هدف التأمل أكثر تطرفاً: كان يجب أن يتحدى الفرد الفكرة التي يكوّنها عن هويته وأن يكسرها ويزعزع الصورة التي يحملها عن نفسه كي يدرك أنه موجود {وسط العدم} (مبدأ بوذي) أو كي يفهم عدم وجود اختلاف حقيقي بينه وبين بقية عناصر الكون (مبدأ هندوسي). لذا ليس مفاجئاً على الأرجح أن تترافق هذه الممارسات مع بعض السلبيات.

لنتحدث مثلاً عن تقنية الاسترخاء الذهني حيث نحاول تطوير حالة من {الوعي الصافي} من خلال التركيز على ما نشعر ونفكر به في اللحظة الحاضرة. من المتوقع أن يؤدي هذا النوع من التأمل، طوال 20 دقيقة في اليوم، إلى تغيرات خفيفة على مستوى الإدراك الذاتي. أثناء التدرّب على هذه التقنية، نشعر في العادة بأننا أكثر تركيزاً على التنفس والجسم والأفكار. لنتخيل الآن أننا نقرر الاختلاء بنفسنا وممارسة التأمل ونحاول توسيع نطاق تركيزنا على تدفق الوعي طوال ست ساعات في اليوم أو أكثر.

قد يشعر البعض بالراحة نتيجة هذا التمرين لأنه يسهم في التخلص من الهموم اليومية. لكن بالنسبة إلى البعض الآخر، ستكون هذه التجربة أشبه بمعاناة عاطفية وقد تترافق مع هلوسات، أو قد ينتهي بهم الأمر بمواجهة اضطراب نفسي حاد. اكتشف ديفيد شابيرو من جامعة كاليفورنيا، إرفاين، أن 7% من الأشخاص الذين يمارسون التأمل وسط جو من العزلة يواجهون آثاراً جانبية عميقة مثل الهلع والاكتئاب. ويبدو أن الخبرة لا تُحدِث أي فرق في هذا المجال، إذا يتأثر بهذه التجربة الخبراء والمتأملون الساذجون على حد سواء.

قد تبدو هذه المعلومات متناقضة مع الأنباء الشائعة عن التأمل، نظراً إلى كمّ الدراسات التي تُنشَر سنوياً حول منافع التأمل، فقد صدر في الشهر الماضي مثلاً  تقرير في مجلة {ذي لانسيت} وذكر أن العلاج المعرفي المبني على الاسترخاء الذهني قد يكون خياراً بديلاً لمضادات الاكتئاب لتجنب تجدد مشكلة الاكتئاب. قد تكون نماذج التأمل العلمانية مثل العلاج المعرفي المبني على الاسترخاء الذهني أكثر أماناً من الأنواع التي تتخذ بعداً روحانياً. مع ذلك، نحن لم نقترب بعد من فهم الجزء الذي يوفر المنافع في هذا العلاج. هل هو التأمل بحد ذاته أم التعليم المعرفي الذي يرافق العلاج؟

لا يوافق الجميع على منافع التأمل العلاجية. انتقد ألبرت إيليس، أحد مؤسسي العلاج السلوكي المعرفي، استعمال التأمل كشكل علاجي ودعا إلى ضرورة استعماله حصراً كمصدر إلهاء فكري أو كتقنية لاسترجاع الاسترخاء. بحسب رأيه، قد يعطي التأمل، مثل المسكنات، آثاراً جيدة وأخرى سيئة، وتبرز على وجه التحديد مساوئ تشجيع الناس على تجاهل جزء من مشاكلهم المحورية والامتناع عن مناقشة قناعاتهم التي تسبب لهم الانزعاج}.

 

لا يناسب الجميع

 

اعتبر أرنولد لازاروس، وهو شخص محوري آخر في مجال تطوير العلاج السلوكي المعرفي، أن التأمل لا يناسب الجميع وأكد على أن بعض مرضاه واجه اضطرابات جدية بعد ممارسته.

حين حللنا الأدلة المتعلقة بآثار التأمل والاسترخاء الذهني لإعداد كتابنا {الحبة البوذية: هل يمكن أن يغيرك التأمل؟} (The Buddha Pill: Can meditation change you?)، أدركنا أن التقارير الإعلامية كانت منحازة بشدة: حصلت مبالغة كبرى في طرح نتائج الآثار الإيجابية المعتدلة مقابل الإغفال عن النتائج السلبية وغير المهمة. فشلت أهم دراسة حصلت حتى الآن بشأن آثار الاسترخاء الذهني لمعالجة الاكتئاب المتكرر، بقيادة مارك ويليامز من جامعة أوكسفورد، في إيجاد أي آثار أساسية: بشكل عام، تبين أن الأشخاص يميلون إلى مواجهة الاكتئاب مجدداً سواء خضعوا للعلاج المعرفي المبني على الاسترخاء الذهني أو لم يفعلوا (إلا إذا واجهوا صدمة في طفولتهم). وجدت دراسة أخرى أن ممارسة الاسترخاء الذهني طوال 20 دقيقة في اليوم أدت إلى ارتفاع مستوى الإجهاد البيولوجي الذي جرى قياسه بحسب هرمون الكورتيزول (رغم تراجع مستويات الإجهاد الذاتي) مقارنةً بالمجموعة التي لم تمارس التأمل. لكن لم تظهر أيٌّ من هذه النتائج في عناوين الأخبار.

 

إجهاد وأسباب

 

لماذا يزيد التأمل مستوى الإجهاد؟ تتعدد الأسباب: قد تكون محاولة تركيز الوعي على ما نشعر ونفكر به تمريناً معرفياً مجهداً. 

يتعلق سبب غير معروف آخر بواقع أن التأمل {يُخرِج القذارة إلى السطح}. إنها كلمات سوامي أمبيكاناندا ساراسواتي، وهي أستاذة تأمل جذابة ومترجِمة للنصوص الهندوسية المقدسة وقد أجرينا معها مقابلة قبل إعداد كتابنا. هي اعترفت بأن معظم معلّمي التأمل يعرفون هذه المعلومة لكنهم لا يحبون مناقشة الأفكار والمشاعر الدخيلة التي يمكن أن تظهر فجأةً أثناء التأمل (مثل الأفكار الجنسية والعنيفة ومشاعر الحزن والخوف).

السبب الذي أدى إلى إهمال هذا الجانب من التأمل ليس سراً. ظهرت الأفكار الإيجابية بشأن التأمل باعتباره خياراً علاجياً وأداة مباشرة للتحول الإيجابي منذ فترة طويلة. لكن في بداية السبعينات، حين نُشرت أولى الدراسات التي تتناول آثار التأمل التجاوزي في مجلات مرموقة مثل {ساينس}، بدأ الأمل بقدرة التأمل على تغيير الفرد والعالم بسهولة يخترق الثقافة السائدة. وأدت حركة {علم الاسترخاء الذهني} التي ظهرت تزامناً مع شيوع العلاج المبني على الاسترخاء الذهني وتخفيف الإجهاد بناءً على الاسترخاء في مختلف المؤسسات الصحية والمدارس والجامعات إلى تعزيز تلك الآمال وتسويق صورة منحازة وإيجابية عن التأمل.

لكن لم يصدّق الجميع هذه الشعارات الإيجابية. حدد المؤرخون والخبراء المتخصصون بالدراسات الدينية رابطاً بين التأمل والعنف. يصف توركيل بريكي من جامعة أوسلو في النروج (وهو من حرر كتاباً عن البوذية والعنف) نصوصاً بوذية تشرح كيف يمكن أن يتصرف الأفراد الذين يمارسون التأمل بطريقة غير أخلاقية إذا حصلت أفعالهم وسط حالة ذهنية منفصلة. بدل أن يكون ذلك الرابط بين التأمل وجرائم القتل المنفصلة استثنائياً، أصبح معياراً شائعاً في اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.

حبة بوذية

كتب المؤرخ والكاهن البوذي براين فيكتوريا أن تدريب الجنود اليابانيين شمل استعمال بعض تقنيات التأمل لضمان أن يفقد الجندي الشعور بذاته و}يصبح} الأمر الذي يتلقاه.

هذه الظاهرة ليست معاصرة. كتب تاكوان، معلم بوذي شهير من القرن السابع عشر، أن {السيف المرفوع لا يتمتع بإرادته الخاصة، بل إنه عبارة عن فراغ تام... الرجل الذي يوشك على السقوط هو كتلة من الفراغ أيضاً، وينطبق الأمر نفسه على الشخص الذي يستعمل السيف}.

قد ينتج التأمل آثاراً قوية على العقل، لكن لا يكون أيٌّ منها مفيداً أو قادراً على تحقيق السلام. أصبحت هذه الممارسة قطاعاً يدرّ أرباحاً طائلة ويتم تسويقها وكأنها دواء أسبرين جديد، أو أشبه بحبة بوذية من دون قناعات دينية أو آثار جانبية غير متوقعة.

رغم الرأي الشائع في هذا المجال، لن يكون التأمل علاجاً شافياً. بل إن معظم الناس، وحتى العلماء، لديهم قناعاتهم الخاصة بشأن التأمل وهي تكون ساذجة في أغلب الأحيان، فهم أغفلوا عن جانبها المظلم المحتمل. يجب أن يتغير هذا الوضع. يجب أن يدرك الأشخاص الذين يجربون التأمل والاسترخاء الذهني المجموعة الكاملة من الآثار المرتبطة بهذه التقنيات وأن يفهموا أن أثرها يختلف بين شخص وآخر.

ميغل فارياس يقود المجموعة البحثية المعنية بالدماغ والقناعات والسلوكيات في جامعة كوفنتري البريطانية. كاثرين ويكهولم تعمل على نيل شهادة الدكتوراه في علم النفس العيادي في جامعة سوري في غيلفورد، بريطانيا. يحمل كتابهما الجديد عنوان {الحبة البوذية: هل يمكن أن يغيرك التأمل؟} (The Buddha Pill: Can meditation change you?).

back to top