نساء من الصين

نشر في 23-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 23-05-2015 | 00:01
No Image Caption
رحلتي نحو قصص النساء الصينيات

في صباحٍ باكر من ربيع عام 1989، ركبت دراجتي الهوائية من ماركة Flying Pigeon ورحت أقودها عبر شوارع نانجينع وأنا أحلم بابني بان بان. البراعم الخضراء على الأشجار، غيوم التنفس البارد التي تغلّف الدراّجين الآخرين، أوشحة النشاء الحريرية التي ينفخها هواء الربيع، كل شيء امتزج مع أفكاري عن ابني. كنت أقوم بتربيته لوحدي من دون مساعدة رجل، ولم يكن بالأمر السهل الاعتناء به كوني امرأةً عاملة. مهما كانت الرحلة التي أقوم بها، قصيرة أم طويلة، حتى خلال رحلتي السريعة إلى العمل على دراجتي الهوائية، كان يرافقني بروحه ويمدُّني بالشجاعة.

{انتبهي أين تقودين دراجتك أيتها المذيعة المهمة}، صاح أحد زملائي بينما كنت أدخل متمايلةً على دراجتي مجمّعَ محطة الإذاعة والتلفزيون حيث كنت أعمل.

كان يقف على البوابات رجلا شرطة مسلّحان. أريتهما بطاقة إذن الدخول الخاصة بي. في الداخل، كان علي أن أواجه حراس مسلحين آخرين عند مداخل المكاتب والاستديوهات. كانت حراسة محطة الإرسال مشددة جداً، وكان الموظفون يحترسون من الحراس. فقد كان الجميع يتناقلون قصةً عن جنديّ جديد غلبه النوم خلال نوبة الحراسة الليلية وكان متوتراً لدرجة أنه قتل رفيقه الذي أيقظه.

كان مكتبي في الطابق السادس عشر من المبنى البغيض الحديث والمؤلّف من واحد وعشرين طابقاً. كنت أفضّل صعود الدرج على المصعد الخطر الذي غالباً ما كان يتعطّل. عندما وصلت إلى طاولة مكتبي أدركت أنني تركت مفتاح دراجتي الهوائية في القفل، فأشفق علي أحد الزملاء وعرض أن ينزل ويتصل هاتفياً بحارس البوابة. لم يكن سهلاً جداً بما أنه في ذلك الحين لم يكن أي موظف صغير يملك هاتفاً، وكان على زميلي التوجه إلى قسم المكتب الرئيسي ليجري المكالمة. في النهاية جائني أحدهم بمفتاحي مع البريد الخاص بي. من بين كومة الرسائل الكبيرة لفتتني واحدة على الفور: كان المغلّف مصنوعاً من غلاف كتاب وكانت هناك ريشة دجاجة ملصقة عليه. وبحسب التقليد الصيني ريشة الدجاجة تعني نداء استغاثةٍ عاجلاً.

كانت الرسالة من فتى صغير أرسلها من قرية تبعد حوالى 150 ميلاً عن نانجينغ، وكانت تقول:

شيزان الفائقة الاحترام،

أنا أستمع إلى كل برامجك. في الواقع، الجميع في قريتنا يحب الاستماع إليه. لكني لا أكتب إليك لأقول لك كم أن برنامجك جيد، بل أكتب إليك لأخبرك سرّاً. هو ليس بسرّ حقاً لأن جميع من في القرية يعلم به. لقد قام أحد رجال القرية، وهو رجل مُقعد وعجوز في الستين من عمره، بشراء زوجة شابة مؤخراً. تبدو الفتاة صغيرة جداً- أعتقد أنه تم اختطافها. يحصل هذا الأمر كثيراً هنا، لكن الكثير من الفتيات يهربن في ما بعد. ولخشية الرجل العجوز أن تهرب زوجته فقد ربط حول خصرها سلسلة حديدية ضخمة. لقد تسببت السلسلة الثقيلة بجرح جلدها، وأخذ الدم يرشح من ثيابها. أعتقد أنها ستقتلها. أرجوك أنقذيها.

مهما فعلت لا تأتي على ذكر هذا على الهواء، فأهل القرية سيطردون عائلتي من القرية إن علموا بالأمر.

أتمنى أن يصبح برنامجك أفضل وأفضل.

مستمعك المخلص تسانغ شياوشوان

كانت هذه أكثر رسالة محزنة تلقّيتها منذ بدأت برنامجي الإذاعي المسائي، {كلمات على نسيم الليل}، قبل أربعة أشهر. ناقشت خلال البرنامج جوانب مختلفة من الحياة اليومية واستخدمت تجاربي الشخصية لكسب ثقة المستمعين واقتراح طرق لمواجهة صعوبات الحياة. {اسمي شيزان}، قلت في بداية أول بثّ. {شيزان} تعني {بحبور}. كتا تسو تسيتشينغ في قصيدةٍ عن الربيع: {بحبور، فتحت الطبيعة عينيها على أشياء جديدة}. كان البرنامج شيئاً جديداً بالنسبة للجميع ومن ضمنهم أنا. كنتُ قد بدأت حديثاً جداً عملي كمذيعة وكنت أحاول القيام بأمر لم يقم به أحد من قبل على الراديو.

منذ عام 1949 كان الإعلام الناطق باسم الحزب. راديو الدولة، صحف الدولة، ولاحقاً تلفزيون الدولة، وكانت تؤمّن المعلومات الوحيدة التي يستطيع الشعب الصيني الحصول عليها، وكلها متشابهة. بدا التواصل مع أي أحد في الخارج بعيد المنال مثل قصةٍ خيالية. وعندما بدأ دنغ شياوبينغ العملية البطيئة لانفتاح الصين سنة 1983، صار ممكناً للصحافيين، إن تمتعوا بالشجاعة، أن يحاولوا القيام بتغيير ذكي غير ملحوظ في طريقة تقديمهم الأخبار. كان ممكناً أيضاً التحدّث عن مسائل شخصية في الإعلام، على الرغم من أنه كان أكثر خطورةً. {في كلمات على نسيم الليل} كنت أحاول أن أفتح نافذةً صغيرة، فتحةً صغيرةً جداً، كي يتمكن الناس من السماح لأرواحهم بالصراخ والتنفس بعد جوّ الأربعين سنة الماضية المشحون بالبارود. قال الكاتب والفيلسوف الصيني لو شان مرّةً: {إن الشخص الذي تذوّق سلطعوناً للمرة الأولى لا بدّ من أنه قد تذوق عنكبوتاً أيضاً، لكنه أدرك أنه لم يكن صالحاً للأكل}. بينما كنت أنتظر رد فعل المستمعين على البرنامج كنت أتساءل إن كانوا سيعتبرونه سلطعوناً أم عنكبوتاً، لكن عدد الرسائل الحماسية الهائل الذي تكوّم على طاولة مكتبي أقنعني أنهم اعتبروه سلطعوناً.

كانت الرسالة التي تلقيتها من الفتى تسانغ شياوشوان أول طلب استغاثة لتقديم مساعدتي الفعلية، وقد أوقعني ذلك في اضطرابٍ وحيرة. نقلت الأمر إلى رئيس القسم وسألته عمّا يجب أن أفعله، فاقترح بلامبالاة أن أتصل بمكتب الأمن العام المحلي، فاتصلت بهم وأخبرتهم قصة زانغ تسياوشوان.

طلب مني الشرطي عند الطرف الآخر أن أهدأ قائلاً: {هذا النوع من الأمور يحصل كثيراً. وإن قام الجميع برد فعل مماثل لرد فعلك فسيُتعبهم ذلك ويودي بهم إلى موتهم. على كل حال، هذه قضية خاسرة وميؤوس منها. لدينا عدد كبير من التقارير المكدّسة هنا، ومواردنا البشرية والمالية محدودة، ولو كنت مكانك لما تورطت في ذلك. أولئك القرويون لا يهابون أحداً أو شيئاً؛ وحتى لو ذهبنا إلى هناك فسيحرقون سيارتنا ويضربون رجالنا. سيذهبون إلى أبعد الحدود ليحرصوا على استمرارية نسلهم كي لا يرتكبوا خطيئةً في حقّ أسلافهم وذلك بعدم إنجاب وريث}.

قلت} {إذاً، أنت تقول لي إنك لن تفعل شيئاً لإنقاذ هذه الفتاة؟}.

{لم أقل أنني لن أفعل، لكن...}.

{لكن ماذا؟}.

لكن لا داعي للاستعجال، يمكننا أن نعالج الأمر رويداً رويداً}.

{لا يمكنك أن تترك أحداً يموت رويداً رويداً}.

أجاب الشرطي بصوتٍ مخنوق: {لا عجب أنهم يقولون إن رجال الشرطة يكافحون النار وأن الصحافيين هم الذين يشعلونها. ماذا قلت اسمك مجدداً؟}.

أجبته وأنا أشدّ على أسناني بغضب: {شين...ران}.

{نعم، نعم، شينران، اسم جيد. حسناً شينران، تعالي إلى المركز، سأقوم بمساعدتك}، بدا وكأنه يقدّم لي خدمة وليس كأنه يقوم بواجبه.

ذهبتُ مباشرةً إلى مكتبه. كان شرطياً صينياً نموذجياً: قوي البنية، يقظ وماكر. قال: {في الريف، السموات قريبة والإمبراطور بعيد جداً}، في رأيه، لا يملك القانون أي سلطة هناك. كان الفلاحون يهابون فقط السلطات المحلية التي تتحكّم بتموين مبيدات الحشرات والأسمدة والبذور وأدوات الزراعة. كان الشرطي محقاً، ففي النهاية كان رئيس مخزن التموين الزراعي في القرية هو من تمكّن من إنقاذ الفتاة. فقد اصطحبني ثلاثة رجال شرطة إلى القرية في سيارة شرطة، وعند وصولنا اضطر رئيس القرية إلى شقّ طريق لنا بين القرويين الذي كانوا يلوّحون بقبضاتهم ويشتموننا. كانت الفتاة في الثانية عشرة من عمرها فقط. خلّصناها من الرجل العجوز الذي بكى وشتم بمرارة. لم أجرؤ على السؤال عن الفتى الذي راسلني، أردت أن أشكره، لكن الشرطي قال لي إن علم أهل القرية بما فعل فمن الممكن أن يقتلوه ويقتلوا عائلته.

عندما شهدتُ بنفسي قوة الفلاحين بدأت أفهم كيف تمكّن ماو بمساعدتهم من هزم تشانغ كاي شيك وأسلحته البريطانية والأميركية.

أعيدت الفتاة إلى عائلتها في شينينغ- تستغرق الرحلة إليها من نانجينغ اثنتين وعشرين ساعة في القطار- يرافقها شرطي وشخص من محطة الإذاعة. تبيّن أن والديها وقعا في دين يقارب 10000 يوان في محاولة البحث عنها.

back to top